ماذا أصاب اللغة العربية؟ يدرك الناس اليوم أن المهارة اللغوية أصبحت ضعيفة في كل المراحل: في الابتدائي والمتوسط والثانوي والجامعي، بل وفي كليات اللغة العربية أيضاً. لقد هال المنتدين في أحد المحافل أن يروا أحد الأساتذة المختصين باللغة العربية في إحدى الجامعات يخطئ أخطاءاً لغوية شنيعة. عندها عدد عليه أحد اساتذة اللغة العربية عشرات الأخطاء" فصرخ المحاضر على الملأ: إنما أنا ثمرة هذه المناهج العقيمة، فلا تلوموني ولوموا مناهجكم!! فلم يعد غريبا أن نجد أستاذا متخصّصا في اللغة العربية، وهو لا يجيد نطقها، والذين يعملون في الإذاعة يعرفون عن هذه القضية كثيراً، لأنّهم أحياناً يعيدون الحديث الذي يسجله أحد الأساتذة ليس لسبب في مضمونه، بل لأن لغته رديئة، أما الطلاب فقد هال أحد الأساتذة في إحدى الجامعات أن الطلاب يأخذون درجات عالية في مواد الأدب ونحوه، ولكنهم يملؤون الكراسة بأخطاء الصرف والنحو والإملاء والدلالة، فضلا عن الأسلوب فأراد ترسيبهم، فوجد أن نظام الامتحان الذي يحرسه مجلس الكلية ومدير الجامعة، ينجحهم رغم أنف الأستاذ. هذا في الكتابة، أما في الكلام المنطوق فأكثر وأكثر. أما الطلاب في المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية، فالضعف فيهم بيّن واضح. ومن يماري، فليقرأ أي ورقة إجابة، وسيجد النتيجة المرعبة، مع احترامنا وتقديرنا لما يبذل من جهد، ولما يجدّد من مناهج، ولما يعدّل من مقرّرات، ولما نسمع من تأكيدات تطمئننا على سلامة الأمور، وترمي المشكلة على أسباب خارج محيط التعليم، سواءً أكان هذا أم ذاك أم هما معاً، فإن المنهج يحتاج إلى دراسة، ونحن أمام خلل ينبغي أن يصحّح. وهناك اعتراف عام بأن الطلبة عامة، وطلاب الكليات العربية وأقسامها خاصة، يعانون من ضعف لغوي. وهذا الضعف ليس في مجتمع دون آخر، بل هو موجود في كل المجتمعات العربية بل ان اللغة العربية صارت وحشا يخاف منه الطلاب كما قال الدكتور عبده الراجحي أستاذ اللغة في جامعة الإسكندرية: "إن من الملاحظ أن الطلبة يعزفون عن التخصص في اللغة العربية لخوفهم من اللغة ومن الإعراب النحوي". 1- بحث تخطيط أساسي للغة العربية. 2 - هذا هو الضعف .. فما أسبابه؟ ثمة عدة أسباب تألّبت على المنهج الدراسي، حتى أفسدته، منها ماهو قديم، ومنها ماهو حديث. فمن الأشياء القديمة: طريقة تبويب النحو الذي بني على أسلوب النحاة الأواخر أو نحاة عصر الانحدار، وقوامه: التجميع والتقعيد والنظم والاختصار، والاهتمام بالقواعد على حساب السليقة، والعناية بالمعلومات على حساب المهارات، وكثرة النماذج الرديئة والمصنوعة، وقلة النماذج الأدبية الرائعة، أو الجيّدة. ومنها مفهوم التعليم القائم على التلقين والتحفيظ، لا على الممارسة والتدربّ. ومنها: أمور حديثة في حياتنا كازدياد الفجوة بين العامّية والفصحى، ومزاحمة اللغات الأجنبية للغة الفصحى، وشكلية الامتحانات، وتركيزها على قياس جانب الحفظ والمعلومات. تلك هي الأسباب مجملة، في ما يلي تفصيل ما يتسع له المجال. ضعف الوظيفية والوظيفية في التعليم ركن هام من أركانه، ومعناها: أن يتم الربط بين العلم والعمل بشكل محكم، فتكثف المادة أو تخفّف، أو توسّع أو تضيق، حسب احتياج الناس، وحسب الأهداف المنوطة بها. وهذا المبدأ التعليمي قلّ اعتباره في منهج تعليم اللغة العربية في العصر الوسيط والحديث، لأن المنهج لم يراع الوظيفية وسبب الوقوع في ذلك بعيد، يعود بنا إلى نمط التعليم الذي ساد في القرون الإسلامية الوسيطة. لخّصته مقولة لسقراط "العلم للعلم"، فليس هدف العلم محصورا بالعمل. فانفصمت المعرفة عن الواقع والمجتمع فأصبحت المعرفة كما كانت عند اليونان في عصور هبوطها تجريداً ذهنياً، ولذة خالصة، مجردة من الفائدة العملية. وصار الناس يدرسون اللغة، فيجيدون التحليل والتعليل، والافتراض والتجريد، ويجدون لذة عقلية خالصة، وهم يغلون دقائق الاعراب والتصريف وعندما يستخدمون هذه المهارة العبثية في الحياة يخفقون" لأنّهم لم يربطوا العلم بالعمل، وقديماً قال أحمد بن فارس: "إنّ غاية النحو وعلم ما يحتاج إليه منه: أن يقرأ الإنسان فلا يلحن، ويكتب فلا يلحن، أما ماعدا ذلك، فمشغلة عن كل علم وعن كل خير" وهذا مافطن إليه الخطيب البغدادي فجعله عنوان كتاب له عن التعليم سمّاه: "اقتضاء العلم العمل". إنّ الوظيفة الأساسية للغة هي قدح شرارة المهارة اللغوية. وظيفة التعليم أن يجعل الدارس ينتج اللغة، أن يكسبه قدرة على استعمالها، أن يدرّبه على ممارسة مفرداتها وتراكيبها فهماً واستيعاباً، أو قراءةً وكتابةً ونطقاً. التعليم الوظيفي ضعف في مناهج اللغة، لأن المنهج أهتم بالتعليم القواعديّ الجاهز الذي يقدّم للطالب القوانين الأساسية، التي تحكم نظام اللغة، ويبيّن له ما يميز اللغة عن غيرها من اللغات" فيتعلّم أموراً كثيرةً عن اللغة، ولكنّه لايتعلّم اللغة نفسها" على أن الهدف من أيّ برنامج لغويّ هو أن يكسب الدارس اللغة، فيجعله مستعملاً منتجاً. وضعف الربط بين الوظيفية والتعليم قد جرّ إلى ان يحفظ الدارس مسائل دقيقة في اللغة العربية، دون أن يفّرق بين نمط لغويّ يمرّ عليه كلّ يوم، كنمط النفي بلم، ونمط يمرّ قليلا ربَّ ونمط لا يمرّ عليه إلاّ نادراً كالنصب بإذن. بل إن جهودا كثيرة تبذل، لتحفيظ الصغار علامات الاسم والفعل، دون أن يدرك هؤلاء المؤلفون أن الصغار لايخطئون في التفرقة بين الأفعال والأسماء. وتجد أسئلة الامتحان تركز على الأشياء الصغيرة، كما تركّز على الكبيرة" لأنّ الدارس يعرض هذه وتلك بمستوى واحد من الاهتمام، وهذا تحدّ واضح للمنهجية التربوية أيضا التي تلخصها مقولة العالم الأمريكي وليم جيمس وتتردد في كتب التربية: ماقيمة ما أدرس؟ ألهذا السلوك ثمن وقيمة في ميدان العمل؟ وقد أدّى هذا الضعف إلى مساوئ عديدة، في المنهاج التعليمي في المجال الديني واللغويّ سواءً! ولقد أكدّ كثير من العلماء القدامى على الربط بين الوظيفية وتدريس اللغة، فدعا العزّ بن عبدالسلام إلى تجنّب التوغل في النحو، وأشار إلى أنّه: "ينبغي الاكتفاء بمقدمة تشير إلى مقاصده، لتتميّز بها حركات الألفاظ والإعراب" لئلاّ يلتبس فاعل بمفعول، أو خبر بأمر". وقال الجاحظ: "أما النحو فلا تشغل قلبّ الصبيّ إلا بمقدار مايؤدّيه إلى السلامة من فاحش اللحن". ولعلاج ذلك الخلل الفظيع، ينبغي أن ينادى باللغة الوظيفية، بالمعجم الوظيفي، وبالنحو الوظيفي، وبالصرف الوظيفي، وبالبلاغة الوظيفية، وبالأدب الوظيفي. الحفظ والتلقين التعليم الاستظهاري 3 - وقد أدَّى ضعف الربط بين الوظيفية والعلم، أو بين العلم والعمل إلى مشكلة أخرى، وهي ما سمّاه بعض أهل التربية ثقافة الذاكرة، ويعنى بها: الذاكرة اللفظية الصمّاء التي شاعت في عصور التدهور الحضاري، حيث قلّت المناقشة، وضعف التعليم الذي يقوم على التحليل والتفكير والنقد والابتكار، وأصبح الالتزام الحرفي بالنصوص شائعاً، وصار التلقين سائداً، فلجأ الناس إلى الحفظ والاستظهار في التعليم. ولا ريب أن الاكتفاء بالحفظ والاستظهار في التعليم من مظاهر تدهور الحضارة والثقافة، ومن مظاهر العجز عن ممارسة الحرية من ناحية أخرى، حيث يصبح التعليم المرتكز على المناقشة والحوار والتفكير من الأمور المتجنّبة، ويصبح اللجوء إلى حفظ المعلومات وترديدها أقرب إلى الأمان في أزمنة اغتيال العقول. وقد شاع أسلوب التلقين في درس اللغة والدين، من المهد إلى اللحد، في تلك الفترات، فعني المنهج بالحفظ. وأصبح الطلاب يعرفون اللغة علماً ولا يعرفونها مهارة" ولذلك تجدهم يعرفون عن الأدب كثيراً، عن عصوره، وعن سماته، وعن شاعريه وناثريه، ولكنهم لايتذوقونه إلاّ قليلاً، حتى مقرر القراءة - الذي وضع أصلاً لتنمية مهارة القراءة - صار مطالعة تهتم بالاطلاع والمعلومات. وأصبح الدارسون في بعض الجامعات يحفظون المتون، ولكنهم لا يستطيعون استثمار هذا الرصيد المعرفي الهائل. لقد توهّموا أن الهدف من التعليم تخريج عالم بعلوم اللغة، لا تخريج ماهر حين يتكلم ويكتب ويقراً بها، أي تخريج من يحفظ المعلومات، وإن لم يُزك في المهارات. وركز الناس على جانب المعلومات، حتى تضاءل جانب المهارات. ترى ما نفع العالم ذي المعلومات الكثيرة، إذا كانت مهاراته قليلة؟ إن العالم إذن نسخة جديدة لكتاب قديم أتقن تلقينها، ولم يتقن تدريبها. لقد أصبح كثير من العلماء في هذا المجال حفّاظ مسائل، يعرفون العلم، ولكنّهم لايتمثّلونه بسلوكهم اللغوي. وأصبحنا في هذه الحالة مضطرين للتفريق بين عالم الرواية الذي يجمع بين العلم والعمل، وعالم الرواية الذي هو آلة تسجيل يحفظ ما يلقى عليه، وقد يدعى عالماً كبيراً، ولكنّ علمه علم تفكير جديب وليس علم تفكير خصيب. والعناية بجانب المعلومات خدعت بعض هؤلاء المتخصّصين" لأنّ بعضهم يحاجّك، فيقول: اقرأ هذا المنهاج. انظر كم فيه من العلم!، انظر كم فيه من التراث؟، ولكنه ينسى أن العلم الحق هو الذي يكوّن القدرة والمهارة. وأن العلم هو الذي يساعد على تقوية السليقة، وليس بكثرة المسائل والمعارف، ولذلك ألف الناس في أبحاث اللغة العربية كثرة المعلومات" لأنّ النظر إلى العلم على أنّه معلومات سيطر على كثير من المتخصّصين، سيطر على الصفوة، دع عنك العاديين والطلاب، ومثل هؤلاء ذوي المعلومات الواسعة والمعمقة كثيرون، ولكنهم إذا حاولوا أن يتكلّموا، وأن يضخّوا من مخزونهم المعرفي الواسع، صعب عليهم الربط بين المحفوظ والمنطوق. ومثل هؤلاء يعلمون معلومات واسعة في الصرف والنحو، ومعلومات أوسع في الأدب، ومعلومات أخرى في فقه اللغة. ولكنّ أحدهم إذا كتب ملأ ورقته بالخطايا، وإذا تكلّم ملأ القاعة بالأخطاء. لأنّ المعلومات في واد، والتطبيق في واد آخر. وكم صحنا وشكونا من أوراق الطلاب في الامتحان، حين نجد طلاباً كثاراً يستحقون النجاح في المعلومات، ولكنّهم قد قدّموها في آنية لغوية رديئة. وأسلوب التلقين الذي شاع في درسنا اللغوي إنّما نتج عن التأثر الكبير بعصر الانحدار، وما شاع فيه من أساليب، تحوّل فيها العلم من إتقان وابتكار إلى تجميع" ولذلك شاعت فيه الكتب التي تجمع العلوم، لا نقول: إنّ هذا الجمع خطأ على الاطلاق، ولكن نقول: إنّه أمر طبيعي يشيع في عصور التلقين، حينما يكلّ الذهن، ويصبح همّ العالم محصوراً في اقتفاء سبيل من سبقه عبر أربع وسائل: الأولى: أن يشرح كلام السابقين. الثانية: أن يختصره. الثالثة: أن ينظمه شعراً. الرابعة: أن يعللّه" يُقَعَّدَه" حتى يلغزه ويعقّده. ومنهج التلقين شائع في العصور الوسيطة العربية والإسلامية، وقد ساد من قبلها في عصور انحطاط الأمم الأخرى" كاليونان والرومان في فترات خمودهما، فتحوّل الاهتمام بالمعلومات إلى التفنّن في التلقين، ما بين خلاصات تلغز، وشروح تهمش، أو نظم يتغنَى به، أو تعليل وتحليل ذهني. كما نلاحظ في تحليلات أهل البلاغة للاستعمارة، وافتراضات الفقهاء الخيالية، وتعليلات النحاة، فتحوّل هدف المعرفة من أن يكون مهارة تنتج السلوك اللغوي، إلى معلومات تحشى بها الرؤوس. وقد أدّى ذلك إلى الاهتمام بالقشور دون اللباب ومن هنا جاء الاهتمام بالتعريفات الجامعة المانعة المختصرة. وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن الحفظ ليس أسلوباً صحيحاً في التعليم، فللحفظ مجاله في الآداب والعلوم، كما في جدول الضرب والرموز الرياضة، ولكنه ينبغي أن يسبق الفهم الحفظ، وفي اللغة ينبغي وأن يركز على النصوص الأدبية بعد فهمها، أكثر من حفظ قوانين اللغة. وقد يكون الشعر التعليمي مناسباً لحفظ يعض المعلومات، والعلوم، ولكنه عندما يصبح إطاراً لحفظ قوانين اللغة يصبح صنعةً وتكلّفاً وتخلّفاً" ومن أجل ذلك ينبغي أن يتّجه تعليم اللغة العربية أدباً وكتابةً، ونحواً، وصرفاً، وبلاغةً إلى تغليب جانب المهارة والإتقان على جانب المعلومات والاستظهار. عشوائية تقديم الرصيد اللغوي 4 - وقد جرّ إهمال الوظيفية، والعناية بالمعلومات إلى غزارة المادة اللغوية، وكثرة المفردات التي لا يحتاج إليها الناشئ ليواجه الحياة، فتجد كثيراً من الكتب تعرف الدارس عن الخيمة أكثر من ما تعرفه عن البيت الحديث والأجهزة المنزلية. وتعرف عن الجمل والناقة أكثر من ما يعرف عن السيّارة والطيّارة والقطار، ويعرف عن الصحراء والأطلال أكثر من ما يعرف عن المدن الحديثة والأجهزة التقنية. وكأننا لا زلنا في القرن العاشر الهجري أو الخامس، ويعرف الدارس من خلالها عن اللباس القديم كالإزار و الرداء و الطيلسان، أكثر من ما يعرف عن الألبسة الحديثة التي صارت أنواعاً وأشكالاً، وصار شيوع الكلمات الغريبة في النص أمراً طبيعياً" بحجة تراثية تقول: إننا نحن الذين اغتربنا عن اللغة، وإنّه ينبغي لنا أن نتجرّع غريبها حتى نفصح، وصار مألوفاً أن يجد المدرّس فضلاً عن الدارس كلمات غريبة لا يعرفها، ولا زلت أذكر إحدى أماسي سنة 1400 ه، حينما طرق الباب عليّ أحد معلّمي الابتدائية" يسألني عن معنى كلمة جاءت في كتاب المستوى الأول" يتعلم من خلالها الطلاب كيفية رسم الياء، ولقد أصيب بخيبة أمل عندما قلت له: لا أدري! ويبدو أنّ كثيراً من هذه الكلمات الغريبة والوحشية لا سبيل إلى الخلاص منها. فقد أخبرني أحد الذين يدرسون في ثانوية مطورة أنّه وجد السيدة جحمرش وقد تسلّقت أسوارها، أيضاً واحرنجمت هناك. وفي غالب الكتب العربية غير اللغوية كالجغرافيا والتاريخ والعلوم الدينية، فضلاً عن العلوم الرياضية الطبيعية يقدّم المعجم تقديماً عشوائياً للطلاب الصغار، ومؤلف الكتاب يعرف شيئا كثيراً عن العلم، ولكنه لايعرف كيف تقدّم المعلومات تقديماً مبنياً على المعجم المتدرّج. ومن هنا فقد أصبح التقديم عشوائياً للكلمات، حتى إنّك تجد في كتاب المستوى الأول في التعليم الابتدائي" كلمات كالقرفة والعرار وهما كلمتان لاتشيعان إلاّ في الكتب الأدبية والطبّية، أو عند الكبار. وتجد في الدرس الواحد عشرات الكلمات التي لا يفهمها الطالب" لأنّها لم تقدّم له وفق منهج متدرّج دقيق يرتّب اللغة إلى مستويات، حسب شيوعها، وحسب ضرورتها، ثم يقدم هذه المستويات شيئاً فشيئاً، مراعياً عدداً محدداً في كل درس، يتّم تدريب الطالب على فهمه واستعماله معاً. وهذا التقديم العشوائي هو السبب في أنّ بعض الأطفال يتعثّرون في ألفاظ مثل: الاستجمار، والاستنجاء، لا يحسنون نطقها، فضلا عن فهم معناها. ولو أحسن المؤلّف الصنع، لقال للمبتدئين: النظافة تكون بالماء، أو بمناديل الورق، أو الحصى، فإذا كبروا ونما رصيدهم جاءت ألفاظ الاستجمار والاستنجاء. وكم من كلمات وتعبيرات لا يجدها الإنسان إلاّ في كتب اللغة العربية، فإذا خرج إلى الحياة لم يجد مناسبة لاستعمالها، وهذه الكلمات قد اندثرت منذ زمن بعيد، ومن يقرأ ما كتبه ابن الجوزي في كتاب الحمقى والمغفّلين عن أهل اللغة، وما لهم من تفيهق وتنطع، يضحك حتى يبكي، ويدرك، أن سخرية أهل التمثيل والصحافة من أهل اللغة ليست بدون مبرر. وتأمل بعض الكتب المقررة أو المصاحبة تجد كماً من الكلمات والتراكيب، وتدرك لِمَ يتعثّر أبناؤنا وبناتنا في فهم هذه الكلمات المشروحة بالهوامش، أو غير المشروحة، ممّا يجعلهم لايكادون يقيمون القراءة الصحيحة، فضلاً عن الفهم الجيّد. وهذه الكتب لاتصلح للأطفال والفتيان" لأنّ الكتابة لهم تحتاج إلى تقديم متدرّج لكلمات اللغة وتراكيبها. "إنّ العلم هو المعجم" كما يقولون، ومن فهم كلمات المعجم فهم العلم. ولا يتمّ فهم كلمات المعجم إلاّ من خلال تقديم متدرّج، ضمن سياق لغوي، لايخضع للعفوية والتخمين. نصوص تعليم اللغة: الركاكة والتكرار والفقر 5 - ومن أسباب ضعف الطلاب، كثرة النصوص الرديئة والمصنوعة في كتب اللغة، وقديماً ذكر الجاحظ: أنّ قراءة النصوص الرديئة تسيء إلى الملكة، وحذّر منها، لأنّ النص الرديء كالبعير الأجرب، يجعل الصحيح مريضاً، والسليم عليلاً. فالمتخصّص في دراسة اللغة اليوم" يحفظ عشرات الشواهد الرديئة والشاذة" ليعرف قواعدها، ولكنّه إذا عرفها من خلال هذه الشواهد الرديئة ضعف ذوقه" لأنّ اللغة كالمشي" لا تحتاج لكي تمشي إلى أن تقرأ في كتاب، ولكننا نحتاح إلى تدريب وقدوة، فمن اتخذ قدوة سيئة صار مشيه سيّئا، فالأمثلة الرديئة تعلّم اللغة الرديئة، تضعف الطلاقة، وتخمد خذوة الاستعداد الفطري اللغوي. ومن عيوب النصوص المدرسية تكرار الأمثلة القديمة والحديثة المصنوعة، نحو: ضرب زيد عمراً، وكرّ زيد أسداً، وهند شمس. ومما يتصل بزيد وعمر كثرة الأمثلة المصنوعة التي يصنعها اللغويون أنفسهم. واللغويون - كما هو معلوم - إذا لم يتمرّسوا بالأدب، جاءت صياغتهم ركيكة، لأن الأكباب على المتون لا يزيد الاستعداد الفطري إلا خموداً. ولذلك ندر أن يجيء نحوي أديب كعلي الجارم، فيصوغ نصا فصيحاً ونحواً واضحاً، لا بأس به في حدود ظروف الأمس. وقارن - إن شئت - أمثلة سيبويه الجيّدة الحسنة بأمثلة أهل النحو المتاخّرين، كشُرَّاح ألفية ابن مالك. 6 - ومن عيوب نصوص تعليم اللغة العربية، كثرة الجمل والكلمات التي تدور حول الجوّ والمحيط المدرسيّ، التي لاتكاد تخرج عن السبورة والقلم، والمعلّم والتلميذ، والصف والكتاب، وكتب وقرأ ولعب، ونحوها من الأمور، دون أن تخرج الأمثلة إلى ميدان الحياة اليومية والاجتماعية والحضارية العامّة إلاّ قليلا. ولم يكن تكرار الكلمات وتوزيعها مربوطا بأهميّتها" لأنّ المؤلّف إنمّا يكتب، ويكرّر بصورة عفوية، دون أن ينطلق من توزيع وظيفي، يراعي الوفاء بقيمة أو سلوك أو مهارة أو اتجاه، أو معلومة" لأنّ تكرار الكلمات ينبغي أن يضبط توزيعه لتحقيق غايتين: الأولى: تدريب الدارس على الكلمة، فهما واستعمالاً، حسب وظيفتها وشيوعها وصعوبتها. الثانية: اللغة وعاء للحضارة والمعرفة، إذ ينبغي أن تقدّم من خلالها، القيم والاتجاهات والسلوك، والمهارات والمعلومات، التي تهم الدارس في ميدان الأسرة والمجتمع، والحياة اليوميّة والثقافة، ففي الحياة اليوم عشرات الكلمات التي صارت جزءاً من اللغة اليومية تدور حول الهاتف والثلاجة والسيّارة والطائرة والقطار، والأجهزة الحديثة، وهي تحتاج إلى بث" لنشر الفصيح وطرد العاميّ والدخيل. ومن عيوب النصوص المدرسية، ضعف الاهتمام بمبدأ الدقة، إذ إنّ كلمات غير قليلة تقدّم وهي مترادفة، أو ذات معان مترجرجة، وذلك أمر يعوّد الدارس على ضعف المنطقية في التفكير لأن اللغة هي آلة التعبير والتفكير معاً، ومن المهم في تقديم اللغة مراعاة هذا الجانب الذي يزكي القدرة على التحليل والنقد والابتكار. ومن يتأمّل كثيراً من محتويات القراءة والتعبير والأدب في التعليم، يدرك مدى الإخلال. * كاتب سعودي.