الحديث عن المستقبل شيق دائماً، إذ اننا نحمّل الحديث بعض آمالنا التي قد لا تتحقق. وبما أننا سنتناول هنا السنوات الأولى من القرن المقبل، فلا بد من وضع الاطار الفكري للمحاولة بين تطورات الأعوام الأخيرة وموقعنا الاقتصادي والاجتماعي والعملي الحالي، والتيارات الفنية والقانونية والتعاقدية التي ترسم أسس التعامل والتعاون وربما التنازع في المستقبل. معلوم ان الخسائر المادية الناتجة عن الاضرار والتهديم والتهجير خلال الحرب اللبنانية بين 1975 و1990، تجاوزت 25 بليون دولار، وتهجر خلا ل هذه الفترة 700 - 750 ألف مواطن، وهاجر من لبنان في صورة شبه نهائية الى بلاد الاغتراب البعيدة مثل كندا واستراليا والولايات المتحدة وجنوب أميركا نحو 400 ألف لبناني، وتمثلت الخسارة الأكبر في عجز لبنان عن مسابقة التطور وسبق اسرائيل على صعيد مستوى المعيشة، الأمر الذي كان متحققاً عام 1974. وخصصت خلال الأعوام الماضية منذ اعادة توحيد السلطة في لبنان منتصف تشرين الأول اكتوبر 1990 جهود ملحوظة لدرس الحاجات وانجاز أعمال إعادة انشاء البنية التحتية وتأهيل مباني المدارس الحكومية والمستشفيات والوزارات الخ، وانجز القسم الأهم من الأعمال بين 1993 و1998، فأصبحت لدينا مدارس حكومية وافية عل الصعيدين الابتدائي والاعدادي، ومجمع للجامعة اللبنانية قيد الانجاز، وعدد لا بأس به من المدارس المهنية اضافة الى مجمع قارب العمل على الانتهاء منه في منطقة بئر حسن، ومدينة رياضية مناسبة لاجراء مسابقات متنوعة على الصعيد المحلي والاقليمي، اضافة الى شبكة طرقات متحسنة وان كان معدل الاختناق تصاعد بسبب زيادة اعداد السيارات وتشغيلها من دون ضوابط، وتحسن ملحوظ في امدادات المياه، وتحسن جذري في توافر الكهرباء رغم ان أسعار الكيلووات لمختلف الاستعمالات تبقى الأعلى في العالم، وتطوير كبير في شبكة الاتصالات إذ أصبح عدد الخطوط الأرضية العاملة يوازي 650 ألف خط أي بمعدل خط واحد لكل ستة مقيمين، وهو معدل مرتفع، وإذا أضفنا الهواتف الخليوية يصبح المعدل هاتف لكل 3-4 مواطنين وهو يضاهي وضع العديد من البلدان المتطورة، فتعاظم نتيجة لذلك عدد المشتركين في خدمات انترنت ويفوق عددهم ال 55 ألفاً وهم يزيدون على نصف مجموع المشتركين في هذه الخدمات في بلدان المشرق العربي. كما أصبحت للبنان خدمات في مطاره تضاهي ما هو مألوف في المنطقة، ولا زالت أعمال التطوير جارية، كما ان ربط المطار بوسط العاصمة ومناطقها الرئيسية تحقق عن طريق سريعة تؤمن الوصول خلال دقائق. اضافة الى كل ذلك، وخارج نطاق عمل الدولة، تحقق انجازان لا بد من الاشارة الى أهمية كل منهما في الوقت الحاضر وفي المستقبل، وحسب رأينا، كل من التطورين له تأثير كبير في مستقبل لبنان: التطور الأول تجلى في انجاز غالبية أعمال إعادة تأهيل وسط بيروت وانطلاق بضع ورشات خاصة في الوسط ذات أهمية لمستقبل السياحة والاقتصاد في لبنان. وقد قيل الكثير في انتقاد المشروع لكن القليل المطلوب لم يتلفظ به المراقبون حتى تاريخه. إذ "ان المشروع بمواصفاته الحالية ألغى الانقسام الذي كان مسيطراً بين أجزاء البلد، وغابة الباطون المتهدم والكلاب المسعورة والأفاعي السارحة والمهجرون قسراً أو اختياراً وانتفاعاً استبدلت بفسحات تستقبل أعمال الانشاء وتحتضن التاريخ وتفسحه للناظرين ولمواقع تجمع مئات آلاف اللبنانيين لسماع صلاة البابا وتشرب رسالته الداعية للمحبة والوئام بين مختلف الفرقاء". وأصبح وسط بيروت من جديد، وبمواصفات تجهيزية متميزة، موقع الالتقاء والتخطيط المستقبلي وانجاز أعمال إعمارية إبداعية. التطور الثاني حصل في القطاع المصرفي، الذي يشمل كفاءات متميزة وأصحاب خبرات اقليمية ودولية بعدما كان قارب على استهلاك قدراته على التجدد عام 1991 نتيجة اشتداد الحروب الداخلية وتدهور سعر صرف الليرة من 2.2 ليرة لبنانية للدولار صيف 1974 الى 2500 ليرة لبنانية للدولار صيف 1992. وفي ذلك التاريخ وعلى أساس أسعار صرف العملة بنهاية العام، بعد التحسن الذي طرأ، الى مستوى 1834 ليرة لبنانية للدولار، كان مجموع رأس مال المصارف وأموالها الخاصة يوازي 130 مليون دولار ومجموع موازنات المصارف ينحصر ب 6.8 بليون دولار اضافة الى احتياط لدى مصرف لبنان يقدر ب 500 مليون دولار، وبالتالي كانت القاعدة المالية في البلد توازي أقل من 7.5 بليون دولار. ومع نهاية عام 1998 أصبح رأس مال المصارف التجارية والاستثمارية، التي أضيفت اليها ثلاثة مصارف جديدة بالمعنى الكامل أي غير تابعة لمصارف تجارية معروفة، مساوياً ل 2.5 بليون دولار، ومجموع موازنة المصارف العاملة تجاوز ال 32 بليوناً فيما تجاوز احتياط مصرف لبنان 2.5 بليون دولار. بكلام آخر، حقق القطاع المصرفي الكثير من التحسن الاداري والفني والتجهيزي خلال الأعوام الخمسة الماضية وتوصل الى عمليات دمج متعددة اختصرت عدد المصارف الى 15 مصرفاً خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، علماً ان هذا العدد يشمل مصارف صفيت حبياً وأخرى شطبت من قبل مصرف لبنان. وأصبح في مقدور هذا القطاع تحريك موارد مالية تزيد على خمسة أضعاف ما كانت عليه قبل ستة أعوام. واستمرار هذا التطور، اضافة الى توافر غالبية الودائع بالعملات الأجنبية، أمر يعني - اذا ترافق مع ضبط لعجز الميزانية ومستوى استدانة أدنى - ان القطاع المصرفي قادر على تمويل عمليات تنشيط القطاع الخاص في اطار سياسة عامة تهدف الى تحفيز النشاط الاقتصادي ورفع مستوى أدائه الى معدل نمو يوازي ستة في المئة سنوياً، الأمر الذي يمهد لتحسين مستوى المعيشة اذ ان تزايد السكان هو بمعدل 2.5 في المئة سنوياً. في مقابل هذه الانجازات تعاظمت اعباء تثقل المستقبل وبرزت اعناق اختناق لا بد من تجاوزها. اذ ارتفع الدين العام الصافي أكثر من تسعة أضعاف، من نحو بليوني دولار نهاية 1992 الى 18.6 بليون نهاية 1998، وانخفض معدل النمو السنوي من 13.3 في المئة عام 1993 الى تسعة في المئة عام 1994 وسبعة في المئة عام 1995 ومن ثم الى 3.4 وثلاثة في المئة. كذلك أصبحت أبواب الانفاق في الموازنة جامدة ومناهضة لمستوجبات النمو منذ نهاية عام 1995، فمنذ مطلع 1996 كانت نفقات خدمة الدين العام والمعاشات والتعويضات تفوق ال 82 في المئة من مجمل أرقام الموازنة، ما يضيق حيز التوجه الانمائي. النفقات الانمائية وربما كان مفيداً الاشارة الى بعض أبواب الانفاق بالمقارنة مع زيادة حجم الدين العام بما يوازي 16.5 بليون دولار خلال ستة أعوام. إذ لم تتجاوز النفقات الانمائية أربعة بلايين دولار، وتجاوزت الفوائد المدفوعة على الدين العام خلال هذه الفترة عشرة بلايين دولار، وتحسن سعر صرف الليرة من 1834 ليرة لبنانية للدولار نهاية 1992 الى 1508 ليرات للدولار نهاية 1998. وخصص الرصيد من حسابات الدين العام الصافي، مع حاصلات الضرائب والرسوم، لتمويل المعاشات والتعويضات وبعض مخصصات الدعم لزراعة التبغ والشمندر والقمح، ولمشتريات مصلحة كهرباء لبنان من الفيول اويل، اضافة الى صندوق المهجرين ومجلس الجنوب. هناك اتهام كبير للحكومات السابقة بأنها عجّزت لبنان عن القدرة على ايفاء ديونه وتسببت في خفض معدلات النمو وبعثرة الموارد وجعلت مستوى الدين العام الصافي يفوق مجمل حجم الدخل القومي بنسبة 10 - 15 في المئة، فلا مجال لخفض مستوى الدين الى الدخل القومي الا عبر زيادة الموارد بما يفوق نسبة خدمة الدين الى مجمل الدخل القومي، وبما ان هذه النسبة بلغت 14 في المئة عام 1998 والموارد وازت نسبتها 18 في المئة من الدخل القومي، فمن الواضح ان الاجراءات التقشفية والاجراءات الضريبية لا يمكن أن تؤدي الى اصلاح الوضع. "ان المدخل الى تصحيح أوضاع الاقتصاد اللبناني وتحقيق معدل نمو سنوي يقرب من ستة في المئة سنوياً وضبط العجز المالي يتمثل في برنامج مدروس للتخصيص يستمر على مدى سنوات ويبدأ بتخصيص منشآت ذات قيمة ملحوظة لتحقيق الصدمة الايجابية المطلوبة". ومعلوم لدى كل اقتصادي ان العنصرين المؤثرين في تحديد حجم الانتاج والمقاييس الكمية الرئيسية لأي اقتصاد هما مقدار الرسملة التجهيزية في المجتمع ودورة الحركة الاقتصادية. وحسب رأينا ان الأعوام الستة المنقضية وفرت للبنان رسملة تجهيزية بعضها فقط وليس كلها كافٍ لتحريك الاقتصاد في المستقبل على وجه مناسب. ويبقى الهدف المطلوب على مدى 4-5 سنوات هو خفض الدين العام بنسبة النصف من حاصلات التخصيص وخفض معدلات الفائدة على السندات الحكومية الى المستوى الذي لا يتضمن مبالغة في ترغيب المستثمرين وتحول المستثمرين للاحتفاظ بالليرة نتيجة قناعتهم بتحسن أداء الاقتصاد، وترفيع نسبة الاستفادة من منشآت البنية التحتية وتفاعلها عبر الترابط المتقدم والمنتج. ونرى ان خفض الدين العام بنسبة النصف أمر ممكن وضروري ومن دونه ليس هنالك امكان لتحويل الاقتصاد اللبناني نحو النمو المستمر بمعدلات واعدة. وبالطبع فإن خطوات التقشف والاصلاح الاداري والتوعية والابتعاد عن الهدر والسرقة أمور مطلوبة لكنها غير كافية لتطوير أوضاع الاقتصاد اللبناني وتحصينه. لقد أصبحت أرقام الميزانية العامة تمثل 45 في المئة من حجم الاقتصاد الكلي وأعداد الموظفين في القطاع العام والمتعاقدين توازي 20 في المئة من مجمل كتلة العمال والموظفين، وإذا أضفنا اشتراكات الضمان الاجتماعي، التي هي كالضرائب، ومداخيل البلديات وبعض مداخيل المؤسسات المملوكة من القطاع العام كشركة طيران الشرق الأوسط ومصرف لبنان، يصبح حجم القطاع العام مقارباً لنصف حجم الاقتصاد، وبما ان فعالية هذا القطاع منخفضة وستبقى كذلك لسنوات، وبما ان ضغط المديونية آني ويومي، لا بد من اختصار دور القطاع العام في الاقتصاد وخفض اعبائه وتحويل بعض نشاطاته الى تنظيم فعال غالباً ما تتوافر أسسه في نسق عمل القطاع الخاص سواء في لبنان أو غيره من البلدان المتطورة. لنفترض ان هذا العهد سيحقق خفض الدين العام ورفع معدل النمو والاصلاح السياسي وتعزيز القانون وتسهيل تطبيقه، فعلى ماذا يبني اللبنانيون توقعاتهم للنجاح في المستقبل؟ اللبنانيون برهنوا عن قدرة جذرية على ملاحقة التطورات العصرية ان في المجالات التعليمية أو التنظيمية الانتاجية أو المالية أو الترويجية. وشهدت الأعوام ال 25 الماضية الثورة المعلوماتية في أشكالها المختلفة، وكرست التطورات التقنية في صناعة الكومبيوتر ووسائل الاتصال والتعامل الخدمات التبادلية والمعلوماتية والمالية والتجارية في مركز الصدارة في الاقتصاد العالمي، ولم يبق هنالك بلد صناعي متطور تقل فيه حصة القطاعات الخدماتية عن 70 في المئة من مجمل حجم الانتاج. وكان لبنان قبل اندلاع الحرب الأهلية فيه بين أقرب الاقتصادات لما سمي في ما بعد بالعولمة، فالسوق المالية كانت منفتحة على التفاعل مع الخارج وبحرية تحويل قلما تواجدت في بلد آخر، كما ان المشاركة الأجنبية في القطاع المالي كانت متوافرة وعلى تعاظم، وتجارة لبنان الاستيرادية، التي كانت توازي على الأقل نصف حجم الانتاج السنوي، كانت خاضعة لرسوم متدنية نسبياً، ولم يكن المعدل الوسطي لمجمل الرسوم المفروضة والاعفاءات المقررة ليزيد على سبعة في المئة من قيمة المستوردات، ومع ذلك كانت أرقام الموازنة تشهد فوائض، ومعدلات النمو تراوح بين سبعة وثمانية في المئة سنوياً. * اكاديمي واقتصادي لبناني.