الكتاب: زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة تحقيق: دونالدس. ريتشاردز بيروت 1419ه/ 1998 م - الكتاب العربي برلين 1 "زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة" مؤلف أصله في احدى عشرة مجلدة يتناول تاريخ الإسلام من أقدم عصوره حتى سنة 709ه/ 1309م. والأقسام الأولى منه، التي تتناول تاريخ الفترة الممتدة من ظهور الإسلام الى أيام المؤلف هي ملخصات من الطبري وابن الأثير وسواهما. والجزء الذي نتناوله هنا يشمل تاريخ الدولة المملوكية من سنة 650/1252 الى 709/1309. ان دولة المماليك نالت الكثير من اهتمام المؤرخين المعاصرين لها، وحتى من الذين كتبوا بعد انتهاء أمرها بقليل. إلا أن مؤلف هذا الكتاب يختلف عن بقية المؤرخين في أنه كان هو نفسه مملوكاً، وقد تولى مناصب كبيرة، على ما سنرى من رواية سيرته، بحيث أنه كان مطلعاً على أمور كثيرة من الداخل، وخصوصاً في ما يتعلق ببعض المعارك التي اشترك فيها مثل فتح عكا سنة 690 ص 278 وما بعدها والخلافات الداخلية بين الأمراء أنفسهم. والكتاب حوليَّ الترتيب، أي أنه يذكر الأحداث سنة فسنة. ومن الأمور المفيدة فيه أنه يعطينا ثبتاً بأحداث البلاد الخارجة عن إطار الدولة المملوكية مثل أخبار التتار والبلاد الشرقية وبعض الأنباء عن الأندلس وشمال أفريقيا. والكتاب فيه الكثير من السجع الخفيف الظل غالباً، والأسلوب الشعري في الوصف. يقول الأمير ركن الدين بيبرس المنصوري الدوادار، مؤلف الكتاب في مقدمته: "قال العبد الفقير، الى العضو الغفار بيبرس المنصوري الناصري الدوادار، قد استمددت العون من ذي الجلال والاقتدار واستوفيت ما اخترته من صحيح الأخبار في كتابي هذا الذي عنيت بجمعه وكلفت بوضعه وسميته زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة، وسقته بتوالي سني الملة المحمدية، حتى انتهى الى بداية الدولة التركية النيرة القائمة الآن بالممالك الإسلامية". فلما وصل الى دولته هذه طلب من الله أن يعز أنصارها ويعلي منارها "فإنها دولة تداركت رمقة الإسلام، وأنارت وجوه الليالي والأيام، وجردت للاعتزام كل حسام... فسَمَت هذه الدولة على سالف الدول، وبرزت ملوكها الأواخر على ملوك الأعصر الأول" ص 1. لذلك فإنه يرى أنه من اللازم عليه أن يذكر مبدأ أحوال هذه الطائفة الأتراك "الذين قلدهم الله بسياستها وأنهضهم بتدبير رياستها، وأجلاهم من بلادهم الشاسعة وأقطارهم الواسعة، وساقها اليهم بحكمته وقاد اليهم أمرها بأزمّته، بأسباب مشتملة على حِكَمٍ لا تدرك العقول أغوارها... ومنّ على المستضعفين منهم بتوريثهم ممالك الإسلام وذَبِّهم عن حوزة أهل بيت نبيه عليه السلام" ص 2. ويضيف "فأقول... وسبق في علم الله... أن الأتراك أوفر الأجناس عقلاً وحزماً، وأن في هدايتهم الى الإيمان صلاحاً خاصاً وعاماً، فشاءت قدرته أن ينقل منهم طائفة من أطلالهم بل من ضلالهم ويرشدها الى مصالح ليشيد بها أركان دينه القويم، ويخرجها الى نور الإيمان من ظلم الكفر البهيم...". لذلك جاء التجار بهم الى الآفاق فسيق منهم جموع من الشبان وأواسط الفتيان الى الديار الشامية والمصرية فكانوا عمدة بني أيوب. ويتحدث عن اقدام الفتيان الأتراك ومقدرتهم، وأنهم أقاموا أول أمير منهم عزالدين أيبك 648 - 655/ 1250 - 1257. ص 2 - 4. والمؤلف، بيبرس المنصوري الدوادار، لم يكن الأول بين الذين كتبوا عن دولة المماليك الذي يصف الأتراك بالشجاعة والحكمة والقوة. كما أنه لم يكن الوحيد الذي اعتبر قيام دولتهم نعمة من الله أنعم بها على الإسلام والمسلمين. فالفكرة تتكرر في كتابات تلك العصور. لكن الكلام الآن لتركي يفخر بقومه. 2 الكتاب مصدر مهم لدراسة تاريخ المماليك، بسبب معرفة المؤلف بالشؤون الداخلية، وقد ولد المؤلف بيبرس المنصوري الدواداري، سنة 645/1241 على ما يرى محقق الكتاب، دونالد س. ريتشاردز، ولعله أصلاً من أتراك قراخِطاي. وبحسب روايته، كان سنّه 14 عاماً لما وصل مصر في سنة 659/1261 مع الطواشي مجاهد الدين قَيْماز الموصلي الذي كان "خادماً" لصاحب الموصل بدرالدين لؤلؤ وكان هذا قد توفي قبل رحيل مجاهد الدين الى مصر. هناك أتباعه قلاوون، الذي كان يومها بعد أميراً، والذي سيصبح السلطان باسم المنصور سيف الدين قلاوون 678 - 689/ 1280 - 1290. ومن هنا جاء اسم مؤلفنا بيبرس المنصوري. ووضعه في مدرسة قرأ فيها القرآن وتعلم أصول الدين. ولما خرج المنصور مع السلطان الى حملة في بلاد الشام تركه مع "الصبيان الصغار" في عهدة السيدة قُتْقِتِية، والدة السلطان لاحقاً الأشرف خليل 689 - 693/ 1290 - 1294. P.XVI من المقدمة الإنكليزية. وقد أخرج ريتشاردز المناصب التي تقلب فيها بيبرس الدوادار المؤلف من كتاباته ونذكر هنا أهمهما: 1 نقله سيده الأمير قلاوون من مماليك "النقدية أرباب الجامكية" الى "الإقطاعية" سنة 671/1272. 2 اشترك في حملة الملك الظاهر على كيليكيا 673/1274 - 1275. 3 في السنة التالية ولاه قلاوون الشرابخانة الخاصة به. 4 كان حاضراً في معركة حمص ضد المغول مع السلطان قلاوون وكان من المؤتمنين على جزء من مال الحملة 680/1281. 5 رقي الى رتبة أمير 682/1283 وصدر بذلك منشور. وفي السنة التالية أنعم عليه برتبة أمير طبلخانة. 6 عهد اليه بنيابة الكرك، التي وصلها في 22 شعبان سنة 685 تشرين الأول أوكتوبر 1286. 7 طلب منه السلطان سنة 690 - 1291 وهو نائب على الكرك أن يعد عدة الحرب لحصار عكا، فأقنع السلطان بأن يسمح له بالمشاركة في المعركة، والتقى السلطان في غزة. وقد وصف الدور الذي قام به أثناء الهجوم على المدينة، وظل بعدها الى جانب السلطان بناء على طلبه فأعفي من نيابة الكرك. كان السلطان الأشرف خليل 689 - 693/ 1290 - 1294. 8 لما تولى الأمر السلطان الناصر محمد 693/1293 منح بيبرس أقطاع مئة ووُلِّي تقدمة ألف، وعهد اليه بالإشراف على ديوان الإنشاء وهو المنصب المعروف بإسم دوادار، ومن هنا تمت تسميته بيبرس المنصوري الدوادار. 9 وفي سنة 693/1294 أرسل أيضاً الى الإسكندرية "للدفاع عن مينائيها وحراسة شواطئها وأسطولها". 10 في سنة 695/1295 أرسل الى برقة لمعاقبة البدو هناك لأنهم كانوا يبيعون المسلمين للإفرنج. 11 لما بلغ السلطان أنباء تحركات المغول في سورية ذهب اليها لدفع أذاهم فترك بيبرس نائباً في قلعة القاهرة. انكسر السلطان في هذه الحملة. 12 قام سنة 107/1300 بأداء فريضة الحج، وقد وُلِّي امارة قافلة الحاج. لما تخلى الملك الناصر قلاوون عن السلطة للمرة الثانية، صرف بيبرس عن منصبه كدوادار، لكن بعودة الملك نفسه ليتولى الحكم للمرة الثالثة 709/1309 أعيد الى منصبه وعهد اليه بنيابة دار العدل وكالة عن السلطان، ويبدو، من رواية النويري أنه كان في هذه الفترة أيضاً ناظر البيمارستان المنصوري. وعين نائباً للسلطة سنة 711/1311. لكن بلاط السلاطين لا يؤمن جانبه دوماً. ففي سنة 712/1312 ألقي عليه القبض مع نفر من كبار الأمراء، وأودع سجن القلعة شهرين، ثم أرسل الى سجن الكرك. وبعد ما يزيد عن خمس سنوات أطلق سراحه ودعي الى القاهرة 717/1317، وبعد بعض الوقت عيّن "أمير منة" ووُلِّي منصباً شرفياً في البلاط هو رأس الميسرة. وتوفي مساء الخميس الخامس والعشرين من رمضان 725 وفق 5 أيلول سبتمبر 1325. 3 فضلاً عن زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة، فالذي نعرفه عن بيبرس المنصوري الدوادار أنه وضع "كتاب التحفة الملوكية في الدولة التركية"، ولعله تلخيص لبعض أجزاء الزبدة، لكنه أضاف اليه بضع سنوات في آخره، أي أنه تجاوز حد الزبدة الزمني. وله كتاب آخر اسمه "مختار الأخبار" الذي لعله تلخيص آخر للزبدة. يضاف الى ذلك كتاب اسمه "اللطائف في أخبار الخلائف"، وكان في "عدد من المجلدات". لكن كتابه الرئيسي هو "زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة" وهو الذي جعل منه مؤرخاً. على أن المؤلف له كتاب اسمه "مواعظ الأبرار"، الذي كان، على ما يبدو، كتاباً في مكارم الأخلاق مع تفسيرات صوفية للقرآن الكريم. مر بنا أن القسم الأول من زبدة الفكرة هو تلخيص من الطبري وابن الأثير وسواهما. لكن الذي يهم الباحثين في الزبدة هو الجزء المتعلق بالدولة التركية المملوكية. وقد أثار الباحثون عدداً من المشكلات حول الكتاب يمكن الإشارة الى بعضها هنا. الأولى: هل كان لأمين سره شمس الرسالة ابن كَبَر القبطي دور في وضع الكتاب؟ وماذا يمكن أن يكون هذا الدور. وحتى الآن فالقول المقبول هو أنه أعانه، ولم يكن هو مؤلف الكتاب على ما ظن البعض. الثانية: هي أن مؤلف الزبدة كان له معاصرون وضعوا كتباً في تاريخ الدولة التركية، فماذا كانت العلاقة بين الدوادار والمؤلفين الآخرين؟ يرى ريتشاردز أن مثل هذه الأمور لا يمكن أن تبحث بحثاً دقيقاً مقارناً إلا عندما تنشر المخطوطات الموجودة، بحيث يتاح للدارسين المقارنة والمقابلة. لكن يبدو أن العيني في عقد الجمان أفاد من الزبدة. وقد نقل ريتشاردز ص 418 - 431 تسعة ملاحق عن عقد الجمان منقولة نصوصها أصلاً من الزبدة، وذلك لتوضيح بعض النقص في نص الزبدة المنشور. وقد أفاد الدوادار من كتابات ابن عبد الظاهر في التراجم الملكية. أما النويري فترد عنده فقرات تشابه بعض الفقرات في الزبدة. لكن الحكم على سبب التشابه مرهون بتحقيق أدق للأدب التاريخي المعاصر. الثالثة: يزودنا الدوادار بأخبار كثيرة تتعاصر زمناً مع موضوعه وتقع في الشرق. ويُرى أن معين آغا الذي كان شحنة الجزيرة الفراتية قبل أن يلجأ الى المماليك هو الذي زود مؤلفنا بمعلومات كثيرة عن تلك الديار. أما أخبار المؤلف عن الأندلس وشمال أفريقيا، وهي كثيرة نسبياً، فلا نعرف مصدراً لها. لكن يذكرنا ريتشاردز بأنها مختلة التواريخ في بعض الحالات PPXXI-XXV من المقدمة. ويعرض المحقق لمخطوطات الزبدة. وأماكن وجودها والأسلوب الذي اتبعه في التحقيق في اعداده الزبدة للنشر بشكل دقيق، فليرجع اليه من يعنى بذلك في الصفحات XXVII-XXXIV من المقدمة. وفي الطبعة التي تحدثنا عنها ثلاثة فهارس: فهرس للإعلام والأمم والطوائف، وفهرس للأماكن، وفهرس للمصطلحات والكلمات، وكلها مرتبة، منظمة، مفيدة. 4 أما وقد تحدثنا عن المؤلف والزبدة، فمن حقه علينا أن نعرض على القراء نماذج من كتابته ليكون تصورهم لعمله أوضح. ولن نطيل، فقد اخترنا نموذجين هما وصف حصار عكا وافتتاحها سنة 690/1291 ووصف الزلزال الذي ضرب مصر وسواها سنة 702/ 1301 - 1302. وحصار عكا واحتلالها حادث مهم جداً في تاريخ الحروب الصليبية، ذلك بأن سقوطها في أيدي المماليك كان الضربة القاضية للوجود الإفرنجي في بلاد الشام، إذ لم تقم بعدها له قائمة. "فيها ]أي سنة 690[ عزم السلطان ]الملك الأشرف[ على المسير الى عكا ونزالها والجد في قتالها... وكتب الى النواب بأقطار الممالك بإنقاذ العساكر الشامية اليها وحمل المجانيق والآلات لتركّب عليها... فبادروا وتبادروا وسارعوا وما تأخروا... واجتمعت جيوش الإسلام وجرد السلطان صارم الاهتمام. "وكنت حينئذ بالكرك فلما بلغني أمر هذه الغزاة ووردت عليّ مراسم السلطان بتجهيز الزردخانات والآلات تاقت نفسي الى الجهاد... فطالعت السلطان بذلك... فأذن لي بالحضور وسمح بالدستور... فجهزت من الزردخانات المانعة والآلات النافعة والرجال المجتهدين والرماة والحجارين ]والغزاة والنجارين[، وتوجهت ملاقياً السلطان فوافيته وقد وصل الى غزة فلقيت منه اكراماً وبشراً وابتساماً وسرت في ركابه الى عكا، فلما نزلنا عليها حاق المحاق بأهليها. وكانوا لما بلغهم حركة السلطان لغزوهم ومسيره الى نحوهم قد أرسلوا الى ملوكهم الكبار واستدعوا النجد من داخل البحار، واجتمع بها جمع كبير من الديوية والاسبتار وحصنوا الأبراج والأسوار، وأظهروا المصابرة وعدم المبالاة بالمحاصرة ولم يغلقوا للمدينة باباً ولا أسدلوا دونها حجابا. فنصبت عليها المجانيق الإسلامية وأحدقت بها العساكر المحمدية، وأرسلت عليها حجارة كالصواعق الصاعقة وسهاماً كالبوارق البارقة وضويقت أشد المضايقة. وهم مع ذلك يظهرون الجلد... ويهاجمون العسكر ليلاً ونهاراً. ... وأنا في ضمن ذلك أتأمل مكاناً تلوح منه الفرصة فأقصده... إذ لمحت برجاً من أبراجها قد أثرت فيه المجانيق وأمكن أن يُتَّخذ منه طريق، وبينه وبين السور فسحة مكشوفة ظاهرة لا يمكن السلوك فيها... إلا باتخاذ ستارة تطولها وتشملها وتقي من يدخلها. فعمدت الى اللبود فجمعتها جمعاً ولفّقت بعضها مع بعض لفقاً، فتصدر منها سحابة كبيرة طولاً وعرضاً... ثم جذبت تلك السحابة... فقامت كأنها سد من الأسداد. وأيقنت ذلك في جنح الليل وهم غافلون عنه. فلما أصبحوا ورأوا ذلك الحجاب قصدوه بالمجانيق والنشاب، فصارت الحجارة إذا وقعت فيها يرتخي اللبد تحتها فيبطل زخمها... فتمكنا من المرور ووجدنا سبيلاً الى العبور وضرب بيننا وبين الأعداء بسور، وشرعنا في ردم الخندق الذي بين السورين بمخالي الخيل مملوءة بالتراب ومما تيسّر من الأخشاب، فصار طريقاً سالكاً... وسمع به السلطان فأعجبه وركب بنفسه وحضر بالكوسات والطبلخانات... وحصل الزحف عليهم من ذلك المكان وغيره وطلعت العساكر بالسناجق السلطانية وأثخنوا في مقاتلة الفرنجة وتمكنوا من المدينة وبذلوا فيها المناصل وأعملوا العوامل وسبوا الولدان والحلائل وحقق الله في الفتح الظنون وأقر به العيون واستبشر يومئذ المؤمنون وعلت الفرنجة ذلة وصغار وانكسروا كسراً ما له انجبار وعصت الأبراج التي فيها الديوية والاسبتار هيهات، وقد استبيح حمى حماتهم وضعفت قوى أقويائهم وكماتهم، فحاصرناهم حول عشرة أيام أُخر فاستأمن منهم ما يُنيف عن عشرة ألف نفر، ولم يجدوا مفراً حين راموا المفر ولا مقراً حين أعوزهم المقر، ففُرِّقوا على الأمراء ليقتلوهم فقتلوهم عن آخرهم وأبقى السلطان جماعة من أسراهم وأرسلهم الى الحصون. وكان الفتح العظيم في يوم الجمعة المبارك السابع عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة 690. "ولما أتاح الله هذا الفتح وسهّله... قرضه الشعراء وذكره الفضلاء، ]ولما علقت أبراجها وأضرمت بها النار فتهدمت وتساقطت عمل القاضي شهاب الدين محمود الحلبي... هذين البيتين وهما: "مررت بعكا بعد تخريب سورها / وزند أوار النار في وسطها وار وعاينتها بعد التنصر قد غدت / مجوسية الأبراج تسجد للنار" ص 278 - 281 أما الزلزلة الكاينة بالبلاد المصرية فوصفها كما يلي: "وفيها سنة 702 في يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة حدثت زلزلة عظيمة بكرة النهار بالقاهرة ومصر ]الفسطاط[ وسائر أعمال الديار المصرية وخاصة في ثغر الإسكندرية وكانت عظيمة حتى أن الجدر تساقطت والجبال تشققت والمباني تهدمت والصخور تقطعت والمياه من خلال الأرض تفجرت ومادت الأرض بمن عليها وماجت المساكن بساكنيها وتشعشعت الأسوار والأركان وثار الصراخ بكل مكان وخرجت النساء حاسرات الى الطرقات وظن الناس أنها أماتة الأحياء وقيامة الأموات، وابتهلوا الى رب السموات لما عراهم من المخافات، فأدركتهم رأفته وأنقذتهم رحمته بأن سكن زلزالها وخفف أهوالها. ولو دامت ثلث ساعة من النهار لم تبق على الأرض دار ولا ثبت بها جدار... وأثرت في البحرين العذب والاجاج وأثارت فيهما الأمواج وارتج كل منهما غاية الارتجاج. وكان تأثيرها قوياً جداً بالإسكندرية والنواحي الغربية، وهدمت بالثغر أكثر الأبراج والأسوار ورمت جانباً وافراً من الميناء وفاض البحر الملح وطمى وتفطمط الماء وأغرق قماش القصارين وكسر قوارب البحارين وقطع مراسي المراكب الفرنجية وطرح أكثرها الى الأسوار والشعاب. ولما عاين أهل هيجان البحار وانهدام المنار وتساقط المآذن والأسوار وتناثر الأحجار من الجدران وتداعي الأركان المشيدة البنيان بادروا مسرعين وخرجوا هاربين. ولما سكن الله حركتها وأذهب رجفتها تراجعوا الى أماكنهم وعادوا الى مساكنهم". وقد أصابت الزلزلة البلاد الغربية والجزائر البحرية وبلاد الكرك والشوبك. ص 378 - 379