شكلت موافقة سورية الأخيرة على تبادل فتح مكتب رعاية المصالح في السفارة الجزائرية في دمشقوبغداد حلاً وسطاً بين الرغبتين السورية والعراقية، وهي تكرس توجهاً سورياً نحو الذهاب اكثر شرقاً والعمل على رفع العقوبات الاقتصادية عن العراق. ومنذ انطلاق التقارب بين بغدادودمشق في ايار مايو 1997، طلب العراقيون غير مرة من الجانب السوري استئناف العلاقات الديبلوماسية واعادة العمل في السفارتين في العاصمتين بعد اغلاقهما في العام 1980، لكن دمشق كانت تطالب دائماً بالتريث لأن "جمود 18 سنة لايمكن تجاوزه ببضعة اشهر"، كما انها كانت تركز على الجانب الاقتصادي. لذلك فان التقارب كان محكوماً من الجانب السوري، بالغطاء التجاري كما ان الوفود التجارية هي التي اشعلت شرارة عودة الدفء الى العلاقات بين الدولتين التي يحكم فيهما حزب "البعث". وكان يقف وراء الاصرار السوري على تدرجية تطوير العلاقات، عدد من الاسباب في مقدمها حرص دمشق على التزام قرارات مجلس الامن التي تفرض الحصار على العراق بعد حرب الخليج، اضافة الى سعيها الى ان لا يكون للتحسن مع العراق اي تأثير سلبي في علاقاتها مع دول الخليج العربي. بل ان مسؤولين سوريين اكدوا حرصهم على "جلب العراق سياسياً الى الساحة العربية وليس العكس". من الاسباب الاخرى للتريث السوري، عدم رغبة دمشق في القطيعة مع الولاياتالمتحدة، الطرف الاكثر تمسكاً بالحصار على العراق والمطالب بتغيير النظام العراقي من الخارج. اي ان دمشق تريد ايصال رسالة الى واشنطن بأنها دمشق تملك خيارات عدة بعد دعم واشنطن التحالف العسكري التركي - الاسرائىلي وتجاهلها لسورية ومفاوضات المسار السوري وعدم ضغط الادارة الاميركية على الحكومة الاسرائىلية لالتزام تعهدات الحكومة السابقة، لكن من دون ان يصل ذلك الى القطع الديبلوماسي. هذا يفسر مدى التزام الخطاب السوري بأن يكون الموقف السياسي ملتزماً قرارات مجلس الامن بما في ذلك العلاقات التجارية بين الطرفين وعدم حصول اي خروقات تبرر للجانب الاميركي اعلان فيتو رسمي على العلاقات بين الطرفين التي تساعد العراق على الخروج من عزلته وتساهم في ابعاد اخطار التحالف العسكري التركي - الاسرائىلي عن دمشق. من هنا تأتي المعارضة السورية لأي تغيير خارجي في العراق. اذ ان دمشق تدرك ان التغيير الاميركي في بغداد سيكون لصالح ايجاد نظام يحكم دائرة الحصار الجغرافي- السياسي على سورية من الجهات كافة. والضمانات غير متوافرة بحصول استقرار في العراق بعد التغيير مما يهدد استقرار الدول المجاورة وفي مقدمها سورية التي تتخوف كثيراً من تقسيم هذا البلد لان ذلك يهددها ويسجل سابقة جديدة في الشرق الاوسط: تغيير بدعم خارجي واضح وتغيير الحدود التي ظهرت في بداية القرن العشرين وقامت وفقها دول المنطقة. لكنّ ما يعكر التحليل السوري هذا، صعوبة توقع ردود الافعال العراقية التي تزرع صعوبات في طرق الدول العربية التي تسعى الى مساعدته، مما يدفع الى الاعتقاد بان بغداد لم تدرك بعد حجم الهزيمة التي لحقت بها وبالعرب في حرب الخليج. وكان آخر مثال على ذلك رفض بغداد التعاون مع اللجنة العربية العليا لرفع العقوبات الاقتصادية واقناعها المغرب بعدم ارسال ممثل عنها الى الاجتماع الذي كان مقرراً في دمشق بداية الشهر الجاري.