قد يكون مفيداً اجراء مقارنة بين نوعين من الطموحات الاقليمية لسورية في ضوء موقعها الاقليمي وما استجد عليه من متغيرات في السنة المنصرمة، أي السنة التي شهدت تحولاً في الموقف الأميركي منها، وشهدت أيضاً انفتاحاً عربياً سبقته أزمات كبرى كابدتها دمشق في أعقاب اغتيال الرئيس السابق للحكومة اللبنانية رفيق الحريري. الطموحان السوريان المشار إليهما هما طموح سورية اللبناني وطموحها العراقي، اذ يبدو ان تفاوتاً كبيراً يشوبهما في الشكل. ففي لبنان اقتراب سوري من الموقع الايراني وصل الى حد تفويض الرئيس السوري بشار الأسد الأمين العام ل«حزب الله» السيد حسن نصر الله أمر العلاقة بين سورية وأطراف لبنانية كثيرة. وفي العراق اقتراب سوري من الموقف العربي العام، تحديداً السعودي المصري، تمثل في استقبال الأسد رئيس قائمة «العراقية» اياد علاوي قبل أيام قليلة من الانتخابات، مع ما يمثله علاوي من تقاطعات عربية لا يبدو ان واشنطن بعيدة عنها. لكن هذا الوصف لطبيعة الموقف السوري من كلا الملفين لا يساعد على تحديد الموقع الاقليمي لدمشق في ضوء انقسام يبدو واضحاً ومحدداً باعتبارات طائفية حيناً وسياسية في أحيان أخرى. والأرجح ان رسم الموقع السوري على النحو المبين أعلاه فيه قدر من الوضوح والتبسيط. فالقول ان السوريين يعطون طهران في بيروت ويعطون الرياض في بغداد لا ينسجم مع الكثير من الوقائع في كلتا العاصمتين. ففي الشكل ظهر جلياً ان الرئيس السوري فوض السيد حسن نصر الله أمر العلاقة مع وليد جنبلاط، ولكن هل هذا هو كل لبنان؟ وقبل ذلك هل «تملك» دمشق كل لبنان حتى «تهديه» لنصر الله؟ الأكيد انها تملك الكثير، لكن الأكيد أيضاً أنها لا تهدي كثيراً. في بغداد كان واضحاً ان علاوي هو خيار عربي لم تكن سورية خارجه. لكن لنفكر قليلاً كم يمكن ان يُهدد هذا الخيار الموقع الايراني في بغداد. فدمشق تجيد تماماً حدود المناورة على ضفاف التحالف، فلا يعيق علاقتها بطهران دعم علاوي، ولا تنزلق في بيروت الى أكثر من تفويض معنوي لا قيمة عملية له. فما يتكشف من نتائج هو الجوهري في النهاية، وأن تتولى الصحافة اللبنانية تظهير التفويض السوري ل «حزب الله» في لبنان على انه تكريس لخيار نهائي لا تراجع عنه، فهذا الأمر هو تماماً ما تريده دمشق اليوم، من دون أن تكون سلمت شيئاً لأحد. وان يُتهم علاوي من قبل خصومه في الائتلافين الشيعيين، أي «دولة القانون» و»الإئتلاف الوطني»، بأنه خيار حزب البعث العراقي المقيم في سورية، فهذا بدوره لن يضير دمشق ولن يُهدد علاقتها بطهران. في الشكل يبدو ان ثمة عدم انسجام بين موقعي دمشق في كل من بيروت وبغداد، هذا اذا اعتقدنا ان السياسة نوع من العلوم أو من الرياضيات، في حين انها في منطقتنا نفي للعلوم، وطرد للمنطق. لا شيء فيها شفافاً ولا ثبات فيها لموقف. لكن ليس نفي ارتباط موقفي دمشق في بيروت وبغداد هو ما يُشكل الإلتباس السوري، انما نفي جوهري الموقفين. فالأرجح ان سورية ليست مع ايران في لبنان وليست ضدها في العراق، فالسياسة هي قدر متغير وتأبيد المواقع ليس دأب أحدٍ في المنطقة كلها. سورية مع سورية في لبنان كما في العراق، وأي وهم آخر ستبدده الوقائع على نحو سريع. وبناء على ذلك يمكن للمرء التدقيق بالكثير من الوقائع. فتفويض سورية أمر لبنان ل «حزب الله»، على نحو ما يُشاع اليوم في بيروت، يُفقدها أوراقاً وقدرات من غير المنطقي ان تتخلى دمشق عنها بهذه السهولة. أما في بغداد فوقوفها الى جانب علاوي لا يعني انحيازها الى جانب خصوم طهران، ثم ان الأخيرة في سعيها للإمساك بالورقة العراقية لن تتوانى عن طلب معونة حليفتها في لبنان، ولطالما تبادلت العاصمتان خدمات من هذا النوع. بهذا المعنى تتصدع حكاية ان «حزب الله» هو خيار سورية النهائي في لبنان، مثلما تصدعت قبلها جهود فصلها عن ايران، اذ ان دمشق تُدرك ان «حزب الله» طرف في لبنان، ولا يمكن اعتماده وكيلاً وحيداً، ناهيك عن أننا في منطقة وفي بلد يُشكل فيه دفق الوقائع والمتغيرات فرصاً يومية للراغبين في التخفف من التزامهم بأي شيء، وبأي جهة. فقد سبق لدمشق ان انخرطت في حرب الخليج الأولى الى جانب الولاياتالمتحدة الأميركية، مضحية بخطاب «ممانعة» نشأ النظام فيها عليه، لقاء اعتراف دولي بنفوذها ووجودها في لبنان. اليوم، صفقة من هذا النوع، أو صفقة مشابهة لها، في لبنان أو في العراق، لن تتردد دمشق في قبولها. والسؤال هو من سيعرض الصفقة أولاً على دمشق، واشنطن أم طهران؟ فالفارق كبير في النتائج، لكن العرضين ستستفيد منهما سورية في لبنان وسيدفع لبنانيون فاتورتهما، والملفات كثيرة، وهامش المفاوضة واسع، وهو يبدأ ب«السيادة» ولا ينتهي عند حدود ما سيتضمنه القرار الظني للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان.