مرَّت هذا الاسبوع الذكرى ال 54 لقيام جامعة الدول العربية من دون أن يكون لها حضور جماعي على المستوى الدولي، ما أدى الى تساؤل عن الدور الذي يمكن الجامعة أن تقوم به حالياً ومستقبلاً. نتساءل لأننا نعتقد أن الجامعة العربية هي، مع كونها منظمة اقليمية معترف بها دولياً، منظمة قومية بالنسبة الى العرب أنفسهم واحدى أولويات اهتماماتها تكمن في تحصين هوية الأمة والأوطان المنتمية اليها وتأكيدها. لكن المناسبة ليست وحدها هي الحافز لمعالجة أزمة العمل العربي المشترك التي كثر البحث في أسبابها وسيستمر. الحافز هو ما نشهده هذه الأيام من تهميش لدور الأممالمتحدة، وكون هذه المنظمة الدولية هي الأقدر على ان تكون مرجعية الشرعية الدولية سواء في صنع السلام العادل أو في ضمان الأمن الدولي. فالملاحظ ان مؤسسة الحلف الأطلسي تعمل بجهد كاف لتجعل من ذاتها آلية التنفيذ من خلال الغاء أي دور جاد للأمم المتحدة في ايجاد الحلول للعديد من النزاعات المتفاقمة. وعلى رغم اقتناعنا بأن الحاصل في كوسوفو من جراء الاجراءات العسكرية والقمعية من جانب الحكم في صربيا - يوغوسلافيا - وشراسة التمييز العنصري الذي يمارسه ضد المواطنين الألبان يكاد يبرر أي اجراءات تتخذ لردع حكومة ميلوشيفيتش عن تماديه في سلوك منهج الاستفزاز وعناده في الامعان بحروب تقترب من حروب الابادة، إلا أنه لا بد أيضاً ان نتدارس في أن الوسائل المستعملة والآلية المنوي استعمالها من شأنها ان تشكل سابقة خطيرة قد تقلص بشكل حاسم لا دور الأممالمتحدة وفعاليتها فحسب بل دورها كمؤسسة عالمية وسط عولمة حارقة. ان ما تقوم به منظمة الحلف الأطلسي في كوسوفو هو بمثابة ملء فراغ احدثه تغييب الأممالمتحدة وجعل الحلف الأطلسي آلية بديلة بعدما ازيلت أسباب وجودها التاريخي ووجدت نفسها تفتش عن دور لها في جعل ذاتها مرجعية لقرارات التنفيذ في كوسوفو وغير كوسوفو. لكن هل ان الحلف الأطلسي مؤهل قانونياً وشرعياً للقياام بمهمات كان العالم فوّض الأممالمتحدة ان تقوم بها؟ صحيح ان ما هو حاصل في كوسوفو وما حصل قبلاً في البوسنة يفترض رداً رادعاً وسريعاً، صحيح أيضاً ان الأممالمتحدة ليست لديها القدرة لايجاد آلية سريعة لتنفيذ قرارات عقابية رغم ان في استطاعتها اضفاء شرعية على أي عمل يقوم تحت مظلتها أو من داخل اطاراتها. لكن تجريد الأممالمتحدة من استكمال امكاناتها المادية وصلاحياتها الاجرائية كانت له أسباب يمكن وصفها بالتخفيفية اثناء الحرب الباردة. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي صار لزاماً ان يسعى المجتمع الدولي الى تأمين توازن يحول دون تكريس ما يسمى باحادية القطبية التي من شأنها ان تصبح الولاياتالمتحدة وحلفائها في الغرب هي التي تحدد أولويات النظام العالمي والأماكن والتوقيت بحسب تعريفها لمصالحها، مثلما فعلت في العراق، ومثلما تركت راوندا والصومال والآن أنغولا تستنزف ذاتها. بمعنى آخر شاهدنا كيف ان الادارات الأميركية المتعاقبة تستأثر باختيار حالات ما تنويه من تدخل وما تمليه مصالحها الستراتيجية من أهمال لأي تدخل حيث لا توجد لها مصالح مباشرة. لكن الولاياتالمتحدة تدرك انه رغم دورها القيادي في الحلف الأطلسي فهي دوماً بحاجة لأن لا تظهر وحدها في ما تريد ان تقوم به من اجراءات تنفيذية، تحتاج دوماً الى غطاء تحالفي وان كانت الاحلاف التي تنشئها باهتة، فاحياناً يجد بعض الدول نفسه مضطراً للمشاركة على رغم قناعاته، وفي بعض الأحيان على رغم مصالحها. لذا يمكننا القول أن الأممالمتحدة مع كل هفواتها ومشاكلها المتفاقمة ونواقصها المعروفة وتردداتها الكابتة تبقى صمام امان للمجتمع الدولي وخصوصاً لعالم الجنوب الهادف الى سلام عادل والى تنمية موثوق بها وبالتالي مستديمة. لكن ما علاقة هذا البحث مع الجامعة العربية؟ صحيح ان السؤال منطقي ولا مفر من الاجابة عنه، كون العالم ينظر اليها كمنظمة اقليمية في امكانها ان تكون اسوة بالمنظمات الاقليمية الأخرى رافداً أساسياً لمساندة ودعم مؤسسات الشرعية الدولية والمتمثلة بقرارات ومواثيق ومؤسسات الأممالمتحدة. الا ان تفعيل آلية الحلف الأطلسي من أجل القيام بمهمات تنفيذية يعني ان الحلف الأطلسي بقيادة الولاياتالمتحدة يعمل على اختزال المجتمع وحصر التوجيه له بمؤسسة غريبة عن معظم اعضائه. اضافة الى ذلك فإن منظمة الحلف الأطلسي لا يمكن وصفها بأنها منظمة اقليمية مثل المنظمات التي يعترف بها الأممالمتحدة. فالمنظمات الاقليمية قد تشمل جانباً عسكرياً لكن لا يكون هذا الجانب هو حصراً الجانب الأوحد كما هي حال منظمة الحلف الأطلسي التي لا تتعامل مع أي من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تميز المنظمات الاقليمية وتفسر شرعية الاعتراف بها وبوظائفها المتعددة الجوانب. لذا فإن ادعاء الحلف الأطلسي بكونه "منظمة اقليمية" بالمفهوم الشمولي المتعارف والمتفق عليه يجعل من ملكية الترسانة العسكرية القياس الأوحد لاعادة تحديد معالم المنظمات الاقليمية بما يلائم أو بالأحرى يتطابق مع التعريف الذي تريد دول الحلف فرضه على الوضع العالمي. هنا اعتقد ان الجامعة العربية يمكنها - رغم شحة امكاناتها، وضعف مؤسساتها وهشاشة التزام الدول الأعضاء بقراراتها وتصرف الكثير من الدول كأن الانتماء اليها هو بمثابة رفع عتب - ان تنسق بين الدول العربية. ان تقوم بمبادرة في تجميع قيادات المنظمات الاقليمية المعتمدة ومشاركة الأمانة العامة للأمم المتحدة والتداول في ما يشكله الدور الجديد للحلف الأطلسي من تهديد لمصداقية وفعالية وأدوار المنظمات الاقليمية اضافة الى تهميش دور الأممالمتحدة عندما تريد أو استعمال غطائها وتفسير قراراتها كما يحصل في الضربات العسكرية المتكررة التي يقوم بها المحور الانكلو - اميركي في العراق. ان مبادرة في هذا الاتجاه من شأنها ان تعيد للعرب الذكريات عن ماضٍ ليس بالبعيد عندما كان العرب موضع اهتمام العالم وعندما لعبت الدول العربية وجامعتهم أيضاً ادواراً ريادية في مساندة فعالية لحركات التحرير ووفرت المساعدات اللازمة لتأمين الاعتراف بالاستقلال التي انجزوها وفي تعميم سياسات عدم الانحياز عندما كاد العالم المنقسم على ذاته ان يقارب النزاع المباشر. وكانت حركة عدم الانحياز - والكثير من أركانها - عنصر الوقاية من التصادم. صحيح ان من يدعون لأنفسهم احتكار المعرفة "الواقعية" سيقولون ان استذكار مثل هذه الأدوار الريادية قد يكون صالحاً أثناء الحرب الباردة لكنه غير وارد بالنسبة الى الأوضاع الدولية إذ ان الولاياتالمتحدة ومع حلفائها هي القادرة - حتى احياناً القادرة وحدها ان تحدد وتملي ما يجب أن يكون وما لا يصلح ان يكون وقد يعترف بعض "الواقعيين" الجدد ان هذا قد يسبب غبناً في بعض الحالات لكن هذا يجيز أية معارضة لما قد تنوي الولاياتالمتحدة - وأقرب حلفائها - القيام به عن "المجتمع الدولي". صحيح أيضاً ان الجامعة العربية اذا قامت بهذه المبادرة - وما أجمل اقتران مفهوم المبادرة بحالة الجامعة كما هي عليه الآن - لا بد أن تبدأ بايجاد توافق جماعي من جانب الدول الأعضاء حتى تتسلح الجامعة بجدية الالتزام فتجذب الى مبادرتها المنظمات الاقليمية الأخرى وتسهم في وضع حد لاحتمالات هيمنة الحلف الأطلسي على الحالة العالمية السائدة. هذه المبادرة، اذا كانت هناك رغبة في اتخاذها والاستمرار في تفعيلها، تتطلب الى جانب تأمين توافق عربي لها ان تشرك مؤسسات المجتمع المدني ذات العلاقة بمضامين محتملة للمبادرة حتى يكون التوافق بين الدول هو انعكاس للتوافق بين المجتمعات العربية. هذا يعني ان المبادرة المطلوبة يجب ان تنطوي على التزام واضح بأن الشرعية الدولية لا تكون قائمة أو معترف بها الا من خلال الأممالمتحدة - مؤسسات وقراءات. لكن هذا يتطلب مراجعة جذرية لكيفية تعامل الدول العربية مع بعض القضايا والتحديات المصيرية بمعنى ان هل يجب إعادة تفعيل دور الأممالمتحدة في قضية النزاع العربي - الاسرائيلي في إعادةالنظر بالتفسرات الانكلو - أميركية بالقرارات المتعلقة بالعراق، خصوصاً استمرار العقوبات على شعبه والضربات الجوية العسكرية على أراضيه وغيرها من قضايا التنمية وسيادة القانون الدولي وعدم اجازة التسلط للأقوى. صحيح ان القيام بمبادرة كهذه سيصطدم بمعوقات ذاتية في الجامعة التي سيحاول ان تفرضها انظمة تفضل المراهنة على دور أميركي في ادارة الأزمات العالقة. كما ان هذه المبادرة ستصطدم بالمعوقات الاقليمية والدولية التي تجد في احياء شبكة متصلة بين المنظمات الاقليمية من جهة والأممالمتحدة تقليصاً واضحاً للهيمنة التي يعمل الحلف الأطلسي على فرضها بحيث يصبح هو الأفعل في توفير آليات التنفيذ بما يقرره اعضاء الحلف. لعله مبادرة من هذا النوع تصطدم ايضاً بالاستياء العارم لما تقوم به السلطة في بلغراد من اعتداءات صارخة وممارسات مدانة تستحق المعاقبة والادانة. لكن لا بد أن يكون هناك فصل بين تثبيت الحلف الأطلسي كآلة ضبط وادارة للنزاعات وبين حصر مرجعية القرارات المتخذة بالحلف نفسه. وإذا تم التنفيذ عسكرياً على عدوانية النظام اليوغوسلافي الصربي يكون هذا العقاب استحقاقاً متمتعاً بمقبولية سائدة. لكن من جهة أخرى على المجتمع الدولي ان يعمل فوراً على أن لا تكون ادارة أزمة كوسوفو - عسكرياً أو ديبلوماسياً - سابقة تؤدي الى عولمة الناتو الحلف الأطلسي وتهميش عالمية الأممالمتحدة. هنا تكمن أهمية المبادرة التي على الجامعة العربية القيام بها - مع باقي المنظمات الدولية خصوصاً تلك التي تشكل الدول النامية معظم اعضائها لوضع الأسس اللازمة لإعادة الاستقامة والتعادلية في العلاقات الدولية. هذه المبادرة اذا اتخذت من شأنها ان تستمد من واقعها القومي الحيوية المطلوبة للاسهام في انجاز الحقوق العربية - الوطنية منها والقومية - وانجاز التكامل المغيب بين أطار الأمة. وانا مدرك ان هذا التمني سيوصف باللاواقعية وبنوع من "البراءة" السياسية. لكن مصدر هذا الوصف هو ان الأوضاع الراهنة طاغية على احتمالات الرؤيا المستقبلية لحقيقة ما يجب أن يكون عليه النظام العالمي في مستهل القرن المقبل، وما يجب أن يكون عليه دور العرب فيه. * مدير مركز دراسات الجنوب في الجامعة الاميركية.