ولكنَّ الفتى العربيَّ فيها غريبُ الوجهِ واليدِ واللسانِ المتنبي منذ القديم، جرى الكلام على غربة اللسان، أو على اللغة - المنفى. وفي العصور الحديثة، جرى كلام كثير على هذه الأخيرة لدى الأدباء والكتاب من ثنائيي اللغة Bilingues، الذين ربطوا - على هذا النحو أو ذاك - بين مفهوم اللغة ومفهوم الوطن، أو أنهم أقاموا واحداً منهما مقام الآخر. ولكنَّ الاجتياح الذي بات يتعرض له عالمنا اليوم من قِبَل اللغة الإنكليزية، أفسح في المجال أمام كلام كثير على تحول اللغات - الأمهات الى منافٍ. فالناطقون أساساً بلغات غير اللغة الإنكليزية - ونخصّ هنا الكتّاب منهم - باتوا يفتقرون الى الأمان، أو الى رحابة السكنى في لغاتهم الأصلية، شعوراً منهم بأن السيطرة اللغوية هي جزءٌ من سيطرة ثقافية شاملة، لا يسلم منها الفكر ولا الاقتصاد ولا السياسة... ولا غير ذلك. في بيروت، عُقد أخيراً مؤتمر لدعم اللغة الفرنسية والتغزل بها. كان عنوان المؤتمر "خيارات فرنكوفونية"، وشارك فيه كتابٌ فرنسيون، وآخرون من جنسيات مختلفة يكتبون بالفرنسية، بينهم اللبناني والفلسطيني والتركي والروسي والتشيخي... وغيرهم. وأقيمت في المؤتمر ندواتٌ تحت عنوان "عشق اللغة". وكان واضحاً أن وراء إقامة هذا المؤتمر تحسساً بالمخاطر التي باتت تواجهها اللغة الفرنسية، حتى أن أحد الفرنسيين المشاركين عبَّر عن شعور الشعب الفرنسي بعدم الأمان داخل لغته، ووصف الفرنسيين بالمنفيين لأنهم باتوا يشعرون بعقدة النقص اللغوي إزاء الإنكليزية الرائجة. إذا كان الأمر كذلك بالنسبة الى اللغة الفرنسية وكتّابها والناطقين بها، كيف هو الآن بالنسبة الينا والى لغتنا العربية؟ للمنفى الذي نعيشه اليوم داخل لغتنا وجهان: الأول شبيه بالمعاناة الفرنسية، والثاني هو تراجع العربية الفصحى في مستويات استعمالها كافة، من أدناها الى أعلاها الأدب. فليس بالخفي أن اللغة العربية - كما يجري استخدامها الآن - هي في وضع يثير الخشية أو الشفقة. لقد تقلَّص عدد الذين يحسنون التعبير بالفصحى الى حدٍّ مخيف، حتى أن التعبير على نحو سليم بات في كثير من الأحيان من الأمور المستهجنة أو النادرة، وذلك في مختلف المحافل والمجالات، وكذلك في المؤسسات التعليمية وعلى رأسها الجامعات. إنه لمن المُحزن حقاً أن يفتقر مدرِّسو اللغة العربية أنفسهم الى المعرفة الكافية بهذه اللغة. الى جانب المؤسسات التعليمية التي تُعاني من نقص وقصور فاضحين، هناك وسائل الإعلام - على اختلافها - التي تُظهر عدم اعتناء، بل عدم اكتراث، باللغة. وإذا كان اتقان اللغة غير شائع لا في التعليم ولا في الإعلام، فأين نذهب للبحث عنه؟ حتى في مجالات الأدب الذي يُكتب اليوم باللغة العربية، تصدمنا ظاهرة الضعف في اللغة. وإنه لمن أخطر الأمور وأطرفها في آن، أن تسمع أحياناً في الأوساط الأدبية أو النقدية دعوات الى العزوف عن الاهتمام باللغة. وكأن مثل هذا الاهتمام بات عادة رثّة! ما تُعانيه اللغة العربية لدى الناطقين بها، لسبب أو لآخر، يجعل القلة القليلة ممن يتقنونها تعيش في ما هو أكثر وحشة من المنفى، في ما يشبه القوقعة. ولكن هذه القلة، التي هي نخبة الأدباء والكتاب، تتحمل في الوقت نفسه مسؤولية في الحفاظ على اللغة، والعمل على تطويرها وفتحها على آفاق جديدة. قال أحد الفرنسيين الذين شاركوا في مؤتمر "خيارات فرنكوفونيّة" الذي أشرنا اليه، إن اعادة الاعتبار الى اللغة الفرنسية هي مهمّة الكتاب أنفسهم، وذلك عن طريق: إدراك الواقع، وإلغاء الطابع المقدس للغة، وإعادة النظر في الكم الهائل من الأدب الأميركي الذي يُترجم الى الفرنسية. ماذا نقول عن المهمات التي يواجهها الأدباء والكتّاب العرب حيال لغتهم العربية؟ ماذا يفعلون حيال الغربة ذات الوجوه المتعددة التي يعيشونها في لغتهم، أو في غيرها من اللغات؟ اللغة ليست آلة، إنها فضاء للتنفس. كيف لنا ألا نختنق؟ علينا أن نقاوم ضد الاختناق. فالذي يعيش غريب اللسان في هذا العصر، يعيش غريب الوجه، واليد، والفكر... والثقافة بعامة. علينا إذاً أن نهتم بلغتنا العربية، على الأقل في حقول التعليم، من خلال العمل على تحسين الطرائق التي تُدَرَّسُ بها. لماذا لا نتحسَّس الخطر الذي تواجهه لغتنا؟ فيما غيرنا في بلدان لا تعاني ما نعانيه يتحركون حيال المخاطر التي تواجهها لغاتهم. * كاتب لبناني.