المفاوضات متوقفة، والاتفاقات مجمدة، ومع ذلك فإن عملية التسوية السياسية تزداد تعقيداً على الأصعدة كافة. فحكومة بنيامين نتانياهو تستفز أقرب حلفائها من الأميركيين والأوروبيين، وإلى درجة دفعت بهؤلاء الحلفاء إلى إعلان مواقف أثارت ضجيجاً كبيراً في إسرائيل. وتأتي هذه الاستفزازات الإسرائيلية في سياق العملية الانتخابية المنتظرة في 17 أيار مايو المقبل، وبطريقة تكشف عن محاولات نتانياهو الاستفادة منها لصالحه. أوروبا والقدس هناك خلاف مديد بين أوروبا والكثير من دول العالم وإسرائيل حول وضع مدينة القدس، عبر عن نفسه تاريخياً برفض غالبية هذه الدول نقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس، لأنها لا تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل. لا بالقدس الغربية التي احتلتها إسرائيل عام 1948 ولا بالقدسالشرقية التي احتلتها عام 1967، وباستثناء دولتين أو ثلاث، فإن أغلب الدول تكتفي بفتح قنصليات لها في القدس وتبقي على سفاراتها في تل أبيب. وقد لجأ نتانياهو أخيراً إلى تصعيد تحديه للدول الأوروبية في موضوع القدس بالذات، فوجه رسائل متوالية إلى الدول الغربية يطالبهم فيها بوقف ارسال وفود ديبلوماسية تلتقي مع فيصل الحسيني في مكتبه بيت الشرق في القدس، ويبدو ان هذه الرسائل أثارت غضب الأوروبيين بحيث قرروا ابلاغ إسرائيل موقفاً حاسماً في هذه المسألة، فوجه الاتحاد الأوروبي برئاسته الألمانية الحالية، رسالة رسمية إلى الحكومة الإسرائيلية تشرح أن أوروبا لا تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وان عدم الاعتراف هذا يستند إلى القانون الدولي، أي إلى قرار تقسيم فلسطين رقم 181 الصادر عن الأممالمتحدة العام 1947، والذي قامت دولة إسرائيل استناداً إليه. وينص ذلك القرار على انشاء دولتين يهودية وعربية، كما ينص على استثناء مدينة القدس، ويعطيها صفة "كيان خاص" تشرف عليه الأممالمتحدة، وهو وضع يشبه تدويل المدينة. وقد تم ارسال هذه الرسالة قبل أسابيع إلى وزارة الخارجية الإسرائيلية، وتكتم الطرفان عليها، ولكن نتانياهو وشارون ارتأيا، كما يبدو، ان إثارة هذه المسألة تخدم معركتهم الانتخابية، فسربا مضمون الرسالة إلى الصحافة، وبدآ بعد ذلك حملة دفاع عن القدس كعاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل. وأثار التسريب غضب أوروبا حتى ان صحيفة "يديعوت أحرونوت" نقلت عن مسؤول ألماني رفيع المستوى قوله: "لقد نسف نتانياهو وشارون، في مناورة انتخابية قذرة، العلاقات الودية بين إسرائيل وأقرب دولة أوروبية لها، ان أوروبا لم تعترف أبداً بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل". ومع ان الضجة حول هذا الموضوع ستستخدم لاغراض انتخابية موقتة، ومع ان الأزمة الإسرائيلية مع أوروبا يمكن أن تسوى مع الوقت، إلا أن قضية مهمة وحساسة وضعت أمام الرأي العام العالمي بوضوح شديد، وسيكون لها أثرها على مستقبل المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية. الكونغرس والدولة الفلسطينية يتحرك اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة دائماً بالتنسيق مع إسرائيل، وبما يخدم مصالحها السياسية الآنية والبعيدة. وقد بالغت إسرائيل باستخدام نفوذها داخل اللوبي الصهيوني، وبطريقة تستفز المواطن الأميركي العادي، وتؤدي إلى فقدان الثقة العالمية بالمؤسسة الديموقراطية الأميركية، وذلك من خلال استغلال هذا اللوبي ضد الرئاسة الأميركية من جهة، ومن خلال استخدام التشريع القانوني لتأكيد مواقف سياسية آنية من جهة أخرى، فإذا كانت إسرائيل تعارض مثلاً أن يعلن الفلسطينيون دولة مستقلة في نهاية الفترة المحددة لاتفاق أوسلو أي في 4/5/1999، فإن إسرائيل تحرك اللوبي الصهيوني داخل مجلس النواب وداخل مجلس الشيوخ، لاستصدار قانون يلزم الرئاسة الأميركية بموقف سياسي. وهكذا أقدم مجلس النواب الأميركي يوم 15/3/1999 على صياغة "قرار" يحض الرئيس بيل كلينتون على معارضة إعلان منفرد لدولة فلسطينية مستقلة. وافق على القرار 380 نائباً وعارضه 24 نائباً فقط. وقال مات سالمون، النائب الجمهوري الذي تقدم بمشروع القرار: "إن إدارة كلينتون تتخذ موقفاً غامضاً من هذه المسألة... ان القرار ليس قانوناً، لكنه... يقول للرئيس إن عليه أن يؤكد ان الولاياتالمتحدة لن تعترف بدولة فلسطينية تعلن من جانب واحد". وواضح كيف ان هذا القرار يأتي قبل أيام معدودة من الموعد المحدد للقاء بين كلينتون وعرفات لبحث هذا الموضوع بالذات. إن استخدام المؤسسات التشريعية لفرض قرارات سياسية، مسألة تشكل تقزيماً للديموقراطية، كما تشكل تقزيماً للعمل السياسي نفسه. كذلك فإن استخدام سلطة التشريع والقانون لتقرير مسائل تخص شعوباً أخرى، من شأنها أن تثير غضب الكثيرين في العالم ضد المؤسسة الأميركية، وضد اسلوب استخدامها لموقعها القيادي العالمي. فالولاياتالمتحدة التي تتزعم الدعوة للحوار على مستوى العالم كله، لا تتورع عن إلغاء هذا الحوار بقوانين وبقرارات برلمانية تجمد عمل مؤسسة الرئاسة ومؤسسة وزارة الخارجية. الكونغرس والسفارة الأميركية وهناك سابقة أميركية أخرى في هذا المنحى، اقترب موعد استحقاقها، وتعود إلى العام 1995، ففي 24/10/1995 وافق مجلس الشيوخ الأميركي بغالبية ساحقة 93 صوتاً ضد خمسة أصوات على مشروع قانون يقضي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ونص هذا القانون على ما يلي: أولاً: ينبغي أن تبقى القدس مدينة غير مجزأة. ثانياً: ينبغي أن يعترف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل. ثالثاً: السفارة الأميركية في إسرائيل ينبغي ان تقام في القدس في موعد أقصاه 31/5/1999 أي قبل أيام من انتهاء مرحلة اتفاق أوسلو. وقد عارضت الإدارة الأميركية إصدار هذا القانون في حينه، وأنها كانت تدرك ان تطبيقه يقضي على عملية التسوية السياسية من أساسها، ولكن أقصى ما استطاعت الوصول إليه، وبعد مساومات معقدة، هو إضافة بند إلى القانون تجيز للرئيس الأميركي تحديد العمل به لفترة ستة أشهر قابلة للتجديد، وحسب ما يراه ضرورياً. وصدر في حينه بيان رسمي عن البيت الأبيض فريد من نوعه يقول: إن الرئيس كلينتون يعار ض القانون، ولكنه لن يستخدم حق الفيتو الإلغاء، ولن يوقعه لإقراره. وقيل في تفسير هذا الموقف، انه إذا لم يوقع الرئيس الأميركي النص تصبح له قوة القانون خلال عشرة أيام، وهو لن يستخدم الفيتو الرئاسي لأنه لن يغير النتيجة، لأن الأغلبية مضمونة للتصويت مرة ثانية وبما يزيد على أغلبية الثلثين. وهكذا أصبحت أمام قانون ملزم للرئيس الأميركي، ولكن موعد تنفيذه متروك له، وشكل هذا القانون أكبر عملية ضغط على الرئاسة الأميركية من قبل اللوبي الصهيوني، كما شكلا سابقة تتدخل فيها الولاياتالمتحدة في تحديد عاصمة دولة أخرى. أثار موضوع نقل السفارة الأميركية إلى القدس مسألة أخرى تتعلق بالأرض التي ستبنى عليها السفارة. فالحكومة الأميركية كانت قد استأجرت عام 1991، ولأمد طويل، أرضاً تعرف بوقف الشيخ الخليلي، وتقع بين القدس الغربية والقدسالشرقية، وهي تابعة للوقف الإسلامي ومسجلة في وثائقه، ويقول عدنان الحسيني، مدير الأوقاف الإسلامية في القدس، إن قطعة الأرض تم التنازل عنها للأوقاف الإسلامية قبل 200 عام من قبل الشيخ محمد الخالدي. وكانت الأوقاف تؤجر الأرض للجيش البريطاني حتى نهاية 1948. وقد أقام الدكتور أنيس القاسم دعوى لإبطال عقد الايجار الذي تم بين وزارة المالة الاسرائيلية والحكومة الأميركية. ولكن خبراء القانون الأميركيين درسوا المسألة استناداً الى القانون الاسرائيلي الذي ألغى ملكية الوقف الاسلامي في القدس الغربية، وأعلنوا قراراً قالوا فيه: انه تم درس الوثائق وتبين انه "لا يوجد بها غموض". ويطرح هذا كله مسألة قانونية بين الأوقاف الاسلامية وبين الحكومة الأميركية، لأنه لا يجوز بيع أراضي الأوقاف لأي جهة. الادارة الأميركية والاستيطان باشرت اسرائيل في أجواء معركة الانتخابات، عملية تشجيع واسعة للاستيطان الاسرائيلي، وباتجاهين: اتجاه توسيع المستوطنات، واتجاه بناء مستوطنات جديدة، عبر سياسة الاستيلاء على التلال، حسب توجيه شارون لهم "ويبدو أن هذه العملية قد مورست بكثافة أثارت حتى غضب الولاياتالمتحدة، لأنها اعتبرتها تحدياً لها يؤدي الى وأد عملية التسوية السياسية التي ترعاها وتشرف عليها، وتمنع أي طرف دولي من الاقتراب منها. وعبر هذا الغضب عن نفسه للمرة الأولى في تصريح أدلى به دنيس روس المنسق الأميركي لعملية السلام، فقال "ننظر الى النشاط الاستيطاني بوصفه مدمراً للغاية لمساعي السلام". وتلاه لاري شوارتس الناطق باسم السفارة الأميركية في تل أبيب الذي قال "يزعجنا توسيع المستوطنات القائمة خارج حدودها". ثم تلاه "جيمس روبن" المتحدث باسم الخارجية الأميركية فقال: "ان هذه المستوطنات تضع عراقيل كبيرة عبر تغيير الوقائع على الأرض". لقد كانت الادارة الأميركية أيام الرئيس جيمي كارتر تصف المستوطنات بأنها عمل مرفوض ومعرقل للسلام، ثم تراخى هذا الموقف أيام الرئيس رونالد ريغان، وأصبح يوصف بأنه عقبة في طريق السلام، وبلغ التراخي ذروته أيام الرئيس جورج بوش وأيام بيل كلينتون، حتى أن الإدارة الأميركية كانت ترفض رفضاً قاطعاً مناقشة مسائل الاستيطان ومصادرة الأراضي في مجلس الأمن، وتستعمل الفيتو دائماً ضد أي قرار يدين الاستيطان، وحجتها ان هذا الأمر يجب ان يناقش في المفاوضات الثنائية فقط. ولذلك فإن العودة الأميركية للحديث عن معارضتها للاستيطان ظاهرة تستلفت النظر. إنها تعكس انزعاجاً من سياسات حكومة نتانياهو دون شك، ولكنه انزعاج لا يرقى إلى مستوى اتخاذ اجراءات رادعة. ويعتقد البعض ان الهدف من هذا الموقف هو ارضاء عرفات، وتقديم شيء ما له، بانتظار موعد اللقاء معه، والذي سيتم ابلاغه فيه ان الولاياتالمتحدة تعارض التوجه الفلسطيني لاعلان قيام الدولة في الرابع من أيار مايو المقبل. هل سيكون هذا الموقف من الاستيطان هو سقف ما ستقدمه الولاياتالمتحدة كثمن للتأجيل؟ قد يكون ذلك، وقد تكون هناك وعود "شفهية" أخرى، ولكن الواضح والمؤكد ان قضية التسوية السياسية قد بدأت تثير أزمات سياسية بين إسرائيل والعديد من دول العالم، وبدأت تضغط حتى على أوضاع الإدارة الأميركية الداخلية. وهذا أمر يمكن الاستفادة منه في حال وجود ديبلوماسية عربية قادرة أو راغبة في دعم ديبلوماسية فلسطينية واضحة ومعروفة الهدف والغاية. * كاتب من أسرة "الحياة".