الكتاب: طروس الإنشاء وسطور الإملاء في الأدب العراقي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين المؤلف: أبو المعزّ السيد محمد القزويني تحقيق: جودت القزويني الناشر: بيسان للنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1998 في سياق التطور الثقافي تراجعت الى الخلف تلك الظاهرة التي كانت تسود التأليف الأدبي التي كانت تكشف عن جوانب خارج الكتابة بمعناها الإبداعي. غابت الرسائل والتعليقات والوقائع الحياتية الصغيرة والكبيرة من حياة الكاتب لمصلحة النص الذي ظل مبهماً سواء كان كاتبه معروفاً على مستوى شخصي او غير معروف. وما التراث الذي جمعه في كتب الأدب الجاحظ او القالي او التوحيدي او القيرواني او ابن عبدربّه وغيرهم سوى مثل هذه الرسائل والوقائع الحياتية الصغيرة والكبيرة التي غابت عن حياتنا الثقافية. ولا يزال تاريخ الأدب العربي في العراق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأول من هذا القرن يحفل بوقائع يومية على شكل طرف وتعليقات تخص العداوة الشعرية التقليدية بين اكبر شاعرين في ذلك الوقت وهما الزهاوي والرصافي. وبصدور كتاب "طروس الإنشاء وسطور الإملاء" لأبي المعزّ السيد محمد القزويني الذي حققه حفيده المحقق والشاعر جودت القزويني نكون قد تعرفنا على مثل تلك الوقائع والعلاقات في الأدب العراقي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فهو مجموعة من المراسلات الأدبية بين أبي المعزّ القزويني وأدباء عصره من المشاهير. وبعض تلك المراسلات لم تكن، من الناحية الأدبية على الورق، كما هي الرسائل، وإنما تمت بواسطة التلغراف. ولعل القرن المقبل يشهد جمع رسائل الأدباء عبر الفاكس او ال"انترنت"؟ وأبو المعزّ القزويني، المؤلف، ولد في مدينة الحلة عام 1845. ودرس العلوم الدينية في النجف ونال درجة الإجتهاد وكان من علماء عصره وزعيم أسرته وتوفي عام 1916، وقد كتب عدد كبير من معاصريه عنه. ومن أولئك الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والمؤرّخ الشيخ محمد علي اليعقوبي والسيد محسن الأمين والدكتور محمد مهدي البصير. يكشف "طروس الإنشاء" عن طبيعة الأدب الأخوانية في أدب نهاية القرن التاسع عشر في العراق، ويكشف جزءاً من الحياة الإجتماعية والثقافية السائدة. كما يعبّر من ناحية اخرى عن مواقف ووجهات نظر عدد من أدباء تلك الفترة. هناك القصائد المتبادلة بين أبي المعزّ القزويني وشعراء عصره، والتي تكرّس المشاعر الأخوية الشخصية تجاه الشخص الآخر وجوابه عليها شعراً، وهي الطريقة التقليدية للمراسلات بين الأدباء في ذلك العصر، حيث كان الشعر في تلك الفترة التي تمازجت فيها ملامح التجديد مع ملامح الركود التي اعتبرت امتداداً للفترة المظلمة. وكتب ابراهيم الواعظ سنة 1953 في كتابه "شخصيات عرفتها" مقالة عن ابي المعزّ نشرها في جريدة "البلد" العراقية وصفه فيها بأنه: "كان شاعراً مبدعاً وناثراً متضلعاً، ومن ألطف ما حفظته له برقيته التي طيّرها الى السيد سلمان نقيب بغداد سنة 1315 هجرية حينما قطع وكلاء النقيب الماء عن كربلاء قال فيها: لك عصبة في كربلا تشكو الظما من فيض كفك تستمد رواءها اتراك يا ساقي عطاشى كربلا وأبوك ساقي الحوض تمنع ماءها ومن الظريف أيضاً ما كتبه برقياً إلى والي بغداد سري باشا سنة 1307 يشكو عمل المهندسين الذي تأخر عن ايصال الماء الى الحلّة قال فيها: الى ان يعود الماء في النهر جاريا وتخضرّ جنبات تموت ضفادع كما كتب عبدالرزّاق الهلالي في مجلة "العربي" الكويتية عام 1964 مقالة عن أبي المعزّ وصفه فيها بأنه آخر رعاة الحركة العربية في العراق. وفي الفصل المعَنوَن "في المراسلات البرقية والمخابرات التلغرافية" نقرأ شعراً قصة وصول الحاج محمد حسن كبة الى مدينة الحلّة من بغداد وكان شاعراً وفقيهاً إذ يبعث اليه تلغرافاً شعرياً يقول فيه: في بابل طاب عيشي مع كل خل رشيق فصرت نعمان دهري لو أن عندي شقيقي فأجابه المخاطب برقياً ايضاً: رصافتي رصفتها مدامعي بالعقيق بها صبغتُ الأقاحي لكي يعود شقيقي وهكذا تمضي بقية الموضوعات التي تتحول شعراً بين المتخاطبين إذ يكتب الى الشيخ نعمان أفندي الآلوسي الذي عاد من القسطنطينية يحمل لقب رئىس المدرّسين في المدرسة المرجانية في بغداد: حباك مولاك سروراً كما حباك في عز وتأييد ونلت من دهرك اقصى المنى بالفرحتين العود والعيد وتبدو أكثر الأشعار إشارات لحوادث يومية عابرة فهي يوميات شعرية أخوانية أكثر منها إبداعاً شعرياً إذ يقول: "ونظرت يوماً في جريدة "الزوراء" فرأيت فيها قصيدة لذي الفضيلة السيد الحاج علي أفندي آلوسي زادة ولم أكن قبل ذلك رأيته فكتبت إليه من النجف: بدر من الزوراء أشرق وضياء نور قد تألق قد انبأت عنه الجري دة وهي في الخبار أصدق وروت حديث نظامه خبراً لديّ غداً محقق ونسيت عند حديثه خبري جرير والفرزدق وتفصح الحوادث الشعرية عن أسماء كثر من أعلام الأدب والقضاء والفقه ورجال الدولة العثمانية في بغداد والأستانة والحلّة وسامراء والنجف وكربلاء الأمر الذي يوحي بالإنسجام الإجتماعي والتقارب الفكري آنذاك بين تلك الأسماء. فهو يتراسل شعراً مع جميل صدقي الزهاوي عبر أخيه ذي السعادة رشيد باشا زهاوي زادة بحسب أسماء وألقاب ذلك الزمن. كما يتراسل شعراً مع معروف افندي الرصافي قائلاً: وكتب لي من بغداد أبياتاً تتضمن الوداد والشوق على البعاد، ذو الفضيلة، والمآثر الجميلة، معروف أفندي الرصافي، على غير اجتماع منا ولا مشاهدة: قف بالديار الدارسات وحيّها واقر السلام على جآذر حيّها وانشد هنالك للمتيم مهجة فنيت من الأهواء في عذريّها وهي قصيدة طويلة ويقول ابو المعزّ: "فكتبت له في الجواب على الروي والقافية إلا أنه مضمومة: هي روضة قد رشها وسميُّها طلاً وفاح بعطره جوريُّها وحديقة قد أينعت أشجارها وشدا على أغصانها قمريُّها وجرياً على هذه الطريقة نستطيع التعرّف على مراسلات ابي المعز وعلى ملامح ثقافية واجتماعية وسياسية من تلك الفترة التي لا تزال قيد الدرس والبحث والإستقصاء. وقد بذل المحقق جودت القزويني جهداً كبيراً في الهوامش التي أكملت مهمة التعريف بشخصيات تلك الفترة وبكتبهم وإنتاجهم الأدبي، فضلاً عن تزيين الكتاب بصور نادرة سواء عن الشخصيات الأدبية والإجتماعية والسياسية او عن الحياة في ذلك العصر.