الرسالة الثانية هذه وثيقة حب. أوقّعها بعد تسع وثلاثين سنة... وسوف أوقعها بعد خمسمئة سنة... بعد خمسة آلاف سنة... ولا أشعر بضرورة حذف أي حرف منها... أو إضافة أي حرف اليها... "أحبَّك" هذا هو النص التاريخي الذي أصبح تراثاً تدرسه الأجيال بعدك... ومن بعدي... "أحبك" أربعة حروف فقط، تساوي كل الأبجديات، وكل الكتب، والمكتبات، وكل الأناشيد، وكل الملاحم.... "أحبك"... مكتوبة في كل مكان قبل أن تكون الكتابة، في الكلام الذي لم أقله، وفي الأحلام قبل أن أحلم بها، وفي أعياد ميلادي التي لم أحتفل بها... اليوم، فكرت وقررت وحدي أن أوقع بأني أحبك، سأغمض عيوني وأوقع لك... على زرقة البحر سأوقع لك... على حبات المطر سأوقع لك... على ذرات الثلج سأوقع لك... على زجاج القمر سأوقع لك... على الثلج... على النار... على دفاتر الشعر... على فناجين القهوة السوداء... على جسور فينيسيا... وغابات فينا... وخلجان باربيدوس... وعلى شجرات الأرض في لبنان... وعلى معبد أبي سمبل... وعلى بنادق الجنوبيين... وعلى ذهب رمال الخليج العربي... عبدالله... يا رفيق الأيام الخضراء... ويا صديق العمر الجميل... عندما تزوجتك... اكتشفت معك للمرة الأولى اللون الأخضر... وفرحت باكتشافي... رأيت العالم معك... بألوانه الحقيقية... وقبلك كان العالم مرسوماً بالأبيض والأسود... "أبو المبارك" يالذي لا أعرف ماذا أسميه؟!... علمتني كيف أقرأ معك للمرة الأولى... كتاب الألوان... وكتاب الغابات... وكتاب الأزهار... وكتاب القيم والمروؤات... وكتاب الحرية... وكتاب الحب... وكتاب الأمومة... وكنت مأخوذة بقراءاتي معك... تعلمت كيف تتكىء الغيمة على كتف السماء... وأتكىء أنا على كتف حنانك... حتى لا أفقد التوازن... يا سيد هذا الكون... عندما رحلت... رحلت الألوان... واختل توازني... الرسالة الثالثة محمد... ولدي... أيّها الصديق الرائع... إنني ألجأ إليك لأتحرر من الخوف الذي أشعر به. ألجأ إليك لتحميني، وتقويني، وتستمع بقلب كبير الى أسراري الصغيرة، وهمومي الكبيرة... إنك توأم فكري الذي أستطيع أن أبوح له بكل شيء... دون أن يخونني، أو يكتب تقريراً عني الى المباحث العامة... إنك المكان الوحيد الذي ألجأ اليه أصرخ بحرية وأَضحك بحرية، وأبكي على كتفيك بحرية... إن الأمكنة في الوطن العربي موضوعة تحت الرقابة وواقعة في دائرة التنصت، والنساء بشكل خاص هن الأكثر تعرضاً للمراقبة. ألجأ إليك لأقول ما لا أستطيع أن أقوله أمام مجتمع لا يعترف إلا بسلطة غير سلطة الذكور، أو بأفكار غير أفكار الذكور. فأنا امرأة تكتب في الخط الأول للمواجهة... تقاتل بشجاعة، وبسالة فدائي، وتصرّ في أحلك اللحظات على الانتصار... وتؤمن بأن زمن البنفسج قادم... قادم. صحيح، ان واقعنا العربي في منتهى البشاعة والسواد، ولكن هل هذه الصورة نهائية غير قابلة للتعديل أو التجميل؟ أعتقد - "يا شمس عمري القادم" - ان حركة التاريخ تعلمنا أن للحضارة مداراً، وللانحطاط مداراً. فالنقطة التي كانت في القمة قد تصير، سفحاً... والنقطة التي كانت في السفح قد تغدو قمة... ان عصور الانحطاط لا تكون نهائية، إلا إذا ضرب الانحطاط إرادة الأمة بكاملها، وأنا أعتقد أن إرادة الأمة العربية لا تزال قوية وسليمة. فالقوى الشعبية لا تزال تتحرك، وليست المقاومة اللبنانية لجيش الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، ومقاومة الفلسطينيين في الأرض المحتلة سوى ارهاصات الغضب الشعبي الذي يتشكل كالأنهار تحت سطح التاريخ. أنا مثلك - يا ولدي - أحب أن أقرأ المستقبل بعيون البسطاء والطيبين والأطفال. وهذا الشعب العربي العظيم هو الذي سيخرج الشمس من جيب معطفه... وهو الذي سيفجر الماء في صحارى العطش واليباس... وهو الذي سيضرم النار في كتب وثقافة الانحطاط... ويبشر بولادة العربي الجديد... سنوات ونحن نحارب اسرائيل بالمسيرات، والمظاهرات والبيانات، والإذاعات، والتلفزيونات. لكن اسرائيل تنتصر... لأن الدبابات الإسرائيلية لا تجد أمامها سوى البيانات العربية... وأكوام الصحف والمجلات العربية... وقصائد الحماسة العربية... فتطحنها بغير اكتراث. فالدبابات لا تحسب حساباً للمؤتمرات الصحافية والإذاعات العربية... لقد أحدث الجنوبيون انقلاباً خطيراً في الإعلام العربي. فقد نسفوا كل قواعد الإعلام القديم... وحوّلوه الى اعلام مكتوب بالدم والنار. جاء الجنوبيون... طلعوا علينا كسنابل القمح من الأرض الخراب طلعوا كحقل من شقائق النعمان. جاؤوا يحملون المواسم، ورائحة العشب، وموسيقى الينابيع... جاؤوا يحملون الينا بدايات الماء... وبدايات التكوين... جاؤوا وفي عيونهم نار الشهادة... ورائحة الجنة... سنوات... ونحن ننتظر من ينقذ شرفنا، ويرد اعتبارنا... سنوات... ونحن ننتظر المطر فلا يسقط... وننتظر الربيع فلا يأتي... وننتظر الفجر فلا يطلع... فجاء الجنوبيون يلبسون أكفانهم... ينفجرون ويفجّرون الإسرائيليين. فتهتز الأرض تحت أقدامهم... * * * جاء الصادقون... جاؤوا ليغسلوا بالماء والصابون عالماً عربياً لم يعرف الحمام منذ سنين... حاؤوا ليخرجونا من مرحلة "الكوما" التي دخلنا اليها... جاؤوا ليتبرعوا بالدم، بعد أن نشف دم الحياء في شراييننا... جاء المحاربون، المطهّرون... يحملون الينا شمساً لم نرها من زمان... وانتصاراً لم نعرفه من زمان... قبلهم كانت الكرامة العربية تتسول على الأبواب.... وبعدهم أصبحت عنواناً للأخبار * * * وأخيراً جاء المثقفون... فثقافة الدم الجنوبي ألغت جميع كتبنا وأوراقنا... ألغت ثقافة الكلام... وكرست ثقافة الفعل... ألغت الثرثرة على الورق... وأعطت الأولوية لحوار الرصاص ألغت أقلام الكتابة... وقررت أن تكتب بدم الشرايين... وألغت جميع الشهادات، ولم تعترف إلا بشهادة "الاستشهاد". * الرسالة الأولى نشرت في صفحة "الرأي"، الأربعاء 10 آذار مارس 1999 وكان عنوانها "شكراً للنائب الذي حرّضني على الكتابة".