منذ استقلال سيراليون عن الاستعمار البريطاني عام 1961 نشأت احزابها السياسية على وسائط عرقية وجهوية. مما مهد السبيل للانقلابات العسكرية وحكم الحزب الواحد وسوء الادارة والفساد المالي مطيحة بالقيم الاجتماعية على أيام الاستقلال. تحت هذه الوطأة من التيه السياسي اعتبر انتخاب الرئيس أحمد تجان كاباح في ابريل 1996 مؤشراً الى اعادة النظام الاجتماعي المنشطر والاستقرار لا سيما بعد بدايته الرصينة التي عززها بتوقيعه اتفاق السلام مع خصمه الثائر وزعيم الجبهة الثورية المتحدة فودي سانكوح 65 عاماً في تشرين الثاني نوفمبر 1996 في أبيدجان عاصمة ساحل العاج. لقد انتقد المراقبون سلبيات النظام الانتخابي الذي تمظهر بعد حرب اهلية طاحنة حيث انشطر النظام الاجتماعي عمودياً من جراء النزاع القائم بين قوات الأمن وثوار الجبهة الثورية المتحدة التي بدأت نشاطها المسلح منذ عام 1991. ولحقت بها وحدات ساخطة من الجيش وعناصر عسكرية غير نظامية قادمة من ليبيريا واحتفظت بقواعد لها في سيراليون. أفرز هذا الوضع عدم تمكين بعض الفرقاء في المشاركة في الانتخابات أو التسجيل، فنقموا على كاباح باعتبارهم شركاء في العملية الديموقراطية. وفشلت حكومة كاباح في اعادة الانسجام الاجتماعي بعد انتخابها وعيل صبر بعض القطاعات لبطء ثمار العملية الديموقراطية مما جعلهم منتقدين عدم تنفيذ الوعود الانتخابية، فاتسع الخرق بعد عام من انتخابه على الراتق الديموقراطي تجان كاباح. وانضاف الى ذلك توجهات حكومة كاباح نفسها التي عدت اهم الاسباب لمفاقمة الوضع الملتهب أصلاً. ومنها، ان احمد تجان كاباح تباطأ في تنفيذ بنود اتفاقية السلام مع غريمه الثائر فودي سانكوح الذي يتزعم جيشاً مسلحاً يضم حوالى خمسة آلاف مقاتل تمرسوا على شن حرب العصابات من قواعدها في ليبيريا بدعم صريح من شارلس تايلور زعيم الجبهة الوطنية الليبيرية. ومن الشروط التي وردت في اتفاق السلام نزع سلاح الفصائل المسلحة ودمج الثوار في المجتمع المدني واقتسام السلطة ووقف العمليات العسكرية في كافة الجبهات. لقد استفاد الثوار من تباطؤ كاباح فصعدوا من هجماتهم المسلحة في جنوب شرقي البلاد. مما حمل بعض عسكريي الجيش الحكومي الى العمل مع ثوار فودي سانكوح ليلاً والعودة الى مواقعهم الحكومية نهاراً فأفرزت ظاهرة ازدواج الولاء التي اسماها الشعب بپ"زوبل" وقوى فودي سانكوح من شوكة جبهته التي عجزت اربع حكومات في الفترة ما بين 1991 الى 1997 عن كسر شوكتها. وانتقدت الحكومة ارهاب الجبهة الثورية التي كانت تستهدف المواطنين بارتكاب اعمالاً شنيعة ومروعة حتى يلحقوا بجيشها. وبرزت فجأة الى الساحة ميليشيات عرفت باسم "كاماجور" التمست لها دوراً وطنياً عرّفته بحماية "سيادة الأمة" ضد تمرد المنشقين فودي سانكوح وأدى هذا الحدث الى تباعد الصلة بين حكومة أحمد تجان والجيش ودافعة الى استقطاب حاد انشطر معه المجتمع نسبة لأن ميليشيا الكاماجور قد جُندت من 30 الف عنصر على اساس إثني، فلما اعترضت المعارضة على تلك الخطوة لم يحفل برأيها بل عمدت حكومة احمد تجان الى تصفية رموز المعارضة السياسية البرلمانية فعلّقت عضوية د. جون كاريغا من البرلمان لمدة عام. وعيب على احمد تجان كاباح تفضيله لميليشيات الكاماجور على الجيش الوطني وتفضيله لإثنيته المندى على التيمني. ولحق بهذا غضب ضباط الجيش الذين اتخذوا موقفاً سياسياً من الحكومة الديموقراطية بقولهم ان الانتخابات التي جرت تحت رعاية جيمس جوناه وزير المال في حكومة كاباح ثم تزويرها عن قصد لتمكين حزب الشعب من الفوز وهو حزب طائفة المندى وجهوياً كان تمثيل الشمال ضعيفاً في حكومة كاباح حيث قال العسكريون ان اصوات الاقليم الشمالي لم يتم فرزها بنيّة مبيتة لعزله من المشاركة السياسية. ونتيجة لذلك الوضع السائد قام صغار ضباط الجيش في 25 أيار مايو 1997 باطاحة حكومة تجان كاباح بعد 14 شهراً من انتخابها. ودعت الثوار بقيادة فودي سانكوح للمشاركة في الحكم. ولكن فودي سانكوح كان محبوساً في نيجيريا نسبة لأنه اضطر الى الذهاب هناك لتجيير دعم الجنرال ثاني أباشا للضغط على حكومة احمد تجان كاباح لتنفيذ بنود اتفاق السلام السابق. وقاد العميد بول كروما حكومة الانقلاب بعد ان عيّن فودي سانكوح المعتقل نائباً للرئيس. فاضطر كاباح الى العيش في المنفى في غينيا. وفي تموز يوليو عام 1997 ادانت الأممالمتحدة مجلس الأمن الانقلاب واعتمدت قرار وزراء خارجية منظمة دول غرب افريقيا القاضي بالحوار مع المجلس الثوري العسكري تحت ضغط وإكراه فرض العقوبات واستخدام القوة حال فشل الحوار. وفي نفس العام علق الكومنولث عضوية سيراليون مشترطاً إبدال المجلس الثوري للقوات المسلحة بحكومة منتخبة ديموقراطياً بعد ان اعلن رئيسه بول كروما دمجه مع حزب الجبهة الثورية بقيادة سانكوح. وتدخلت من ثم قوات الايكوموغ بقيادة نيجيريا بعد الاطاحة بحكومة احمد تجان لازاحة حكم بول كرومه المتحالف مع الجبهة الثورية وهذه قضية اخرى يمكن ايضاحها في الآتي: ينص ميثاق منظمة الوحدة الافريقية على تسوية النزاعات القائمة بين الدول الافريقية عبر التفاوض والوفاق والوساطة والتحكيم والتزام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاعضاء ومن ثم انشاء آلية لبناء الثقة بين الاعضاء. وفي خطوة عملية لمأسسة الحاجة للأمن الجماعي ولحل الصراعات والنزاعات سلمياً ثم قيام قوة دفاع افريقية والتي كانت حتى التسعينات مجرد قوة افريقية محلّية انشأت عام 1981 وطالها الفشل لعدم وضوح الرؤية وانعدام التعاون وعدم توفر الدعم المادي اللازم. ولكن جيوش ست دول اعضاء المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا ECOWAS سعت لاستعادة السلام والأمن في ليبيريا عام 1990 فانضمت اليها دولتان من شرق افريقيا تحت مظلة منظمة الوحدة الافريقية عام 1994. أنشأت المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا عام 1975 ومن اهم مبادئها عدم العدوان والتزام بروتوكول الدفاع المشترك لعام 1978. ولكن لتصاعد وتيرة الاحداث في ليبيريا عام 1990 تم تكوين مجموعة الرقابة التي عرضت بالايكوموغ ECOMOG. وهي تجربة تمازج بين التعاون العسكري والديبلوماسي في آن واحد. واستفادت الايكوموغ من العون النيجيري المادي وهذه الثلاثية كانت أول بادرة افريقية لحل الاشكاليات القارية الأمنية. ويعاب على مجموعة الرقابة المذكورة باعتبارها قوة حفظ سلام اقليمي الآتي: * ان تدخلاتها فاقمت من حدة الاشكاليات القائمة في غرب القارة. * انها بسبب عدم حيادها دخلت في الصراعات الافريقية مشايعة فريقاً ضد آخر من اطراف الصراع الافريقي. * كانت سبباً لبروز نزاعات هيكلية وتنافسية مما عصف بالقصد منها كآلية محايدة لفض النزاعات وصنيعة لغرب القارة الافريقية. * انها أول تجربة واقعية لنظام اقليمي - افريقي للأمن الجماعي. * عدم وجود الغطاء الدولي الحقيقي. ونلاحظ ايضاً من تجربة التدخلات في ليبيريا وسيراليون ان القوات ذات الثقل النيجيري قد تعرضت لحفيظة القوى المحلية المناوئة للدور النيجيري المتعاظم. ونلاحظ ايضاً ان نيجيريا بثقلها الديموغرافي والعسكري والاقتصادي تلعب دوراً مفتاحياً في الايكوموغ. وهذا مرده الى ان نشأة المجموعة الاقتصادية تمظهرت عن مبادرة ديبلوماسية نيجيرية في السبعينات، ولذلك عوّلت الايكوموغ على الموارد والسياسات النيجيرية رغم ان نيجيريا سعت للتعاون مع القوى الاقليمية الاخرى لانجاز التفويض المتعلق بوقف اطلاق النار ونزع سلاح الفرقاء المتحاربين. ويمكن ملاحظة ان الدور النيجيري البارز منوط بمحفزات اخرى اقليمية وسياسية: * ان انفلات الأمن في دولة عضو في المنظومة يؤثر بدوره امنياً على سائر دول المنظومة الاقتصادية لدول غرب افريقيا * القلاقل وازدياد بؤر الحروب يفضي الى ظاهرة اللاجئين ويعرض المصالح الغربية للمخاطرة. * طموح نيجيريا للعب دور مفتاحي قيادي في القارة الافريقية نسبة لنجاحها منذ الستينات في تجاوز محنة الانفصال من اقليم بيافرا وهي تقدم مثالها. * لا تريد نيجيريا نشوب الثورات او الجبهات الثورية المسلحة في غرب القارة لا سيما التي تستهدف مصالحها وكذلك ساندت حكم صموئيل دو في ليبيريا. ونلاحظ ايضاً ان الدول الانغلوفون ساندت تدخلات الايكوموغ بينما ابدت الفرانكوفونية توغو - بوركينا فاسو - السنغال - مالي تحفظاتها. وعلق بعض المراقبين على تدخلات الايكوموغ لا سيما في ليبيريا بأنها فاقمت من حدة اضطرام الحرب التي كانت تتجه الى الانتهاء بعد الثمانية شهور الأولى. بينما تحولت مهمة حفظ السلام في سيراليون الى مهمة تحكم سياسي مباشرة. وفي الاطار الدولي نجد ان عملية الGood Guys التي نفذتها بريطانيا لاطاحة المجلس الثوري العسكري بقيادة بول كروما في شباط فبراير 1998 واعادة احمد تجان كاباح الى السلطة كانت تهدف الى احتواء الطموحات الاقليمية لنيجيريا على عهد الجنرال السابق ثاني أباشا. وكانت بريطانيا بقيادة العمال تعتبر ميليشيا الكاماجور فصائل مسلحة تلعب دوراً هاماً لسند قوات الايكوموغ ومن ثم احداث التوازن بين المصالح النيجيرية والاهداف البريطانية. فيما نجد ان القوات النيجيرية اتخذت موقفاً متشدداً من ميليشيات الكاماجور لأنها كانت ضالعة في اعمال انتقام تعسفي وزعم انها سندت الجونتا ونهبت حقول الماس الذي تزخر به سيراليون مما يفاقم من حدة الصراع الاقليمي والدولي حول مركز السلطة في فريتاون. ولذلك وجدت صفقة السلاح التي وقفت وراءها بريطانيا مساحة كبيرة في التغطية الصحافية والانتقادات التي وجهت للموقف الرسمي ازاء ايكال امر الدول الصغرى الى الوحدات العسكرية الخاصة فضلاً عن شركات التنقيب عن الاحجار الكريمة والماس التي تأتي على رأسها شركة ساندلاين انترناشونال ذات الوشائج التخابرية الغربية. الآن بعد عودة احمد تجان كاباح واطاحة الجونتا واضطرام موجة الصراع المسلح الذي بلغ العاصمة فريتاون ومحاولات التفاوض التي تقودها الأممالمتحدة، نجد ان الارضية التي يتحرك فيها احمد تجان كاباح مليئة بالألغام: * انه مدين لنيجيريا التي اعتقلت فودي سانكوح وبعثت به الى فريتاون وانه اعدم اربعة وعشرين شخصاً ممن عدوا موالين لنظام الجونتا السابق مما أثار موجة غضب منظمات حقوق الانسان الغربية. * انه لم يحسن حساب القوة الحقيقية لخصمه الثائر العجوز فودي سانكوح الذي تدعمه دول اقليمية مثل بوركينا فاسو وليبيريا وتدعمه ايضاً ليبيا معمر القذافي حيث تدرب عددٌ كبير من مقاتليه هنالك. يعول عليه القذافي لخلط الأوراق على اميركا وبريطانيا في العمق الافريقي. ونجد ان احمد تجان كاباح عاد اسيراً للرؤى العسكرية الشيء الذي يضع حكمه الديموقراطي الملطخ بالدماء برمته في قبعة العسكريين وتزايد الحاجة اليهم وبالتالي ضغوط العسكرية النيجيرية والجبهة الثورية المسلحة وجيشه الناقم من قبل والذي تشكو قيادته من ان احمد تجان لا يصغ الى نصائحهم. فيما طاول صدور حكم الاعدام على فودي سانكوح نجد ان كاباح بحاجة الى اعادة تقويم قوى الفرقاء الناشطين ضده وان عنف الحكومة لا يقال بحال عنف المعارضة المسلحة. مما يفرض عليه التزام احكام اتفاق السلام الممهور في ابيدجان في نيسان ابريل عام 1996. والدليل على قوة فودي سانكوح الميدانية انه بمجرد اعلان حكم الاعدام عليه لم ينفذ انقلبت قواته التي كانت تنافح قوات اليكوموغ بقيادة نيجيريا، واتجهت ميممة شطر العاصمة فريتاون والاحداث التي تصاعدت في الشهر الماضي كانت نتيجة طبيعية لذلك القرار. ان احمد تجان كاباح هو المتعلم القانوني والموظف الدولي الوحيد مقارنة برصفائه من حكام غربي القارة الافريقية وهذا بدوره مدعاة لاثارة العزلة حول نظامه لا سيما ان علمنا ان الانظمة من حوله كلها عسكرية او تقودها شخصيات ذات ماض ثوري ضالع في حرب العصابات مثل تايلور في ليبيريا الذي يسند الجبهة الثورية المتحدة بقيادة فودي سانكوح. ان الرهان على سند جنرالات نيجيريا هو ايضاً من منظور قيمي يهدد تجربة الديموقراطية الوليدة في افريقيا ويوهن قبضة المدنيين على صنع القرار السياسي والتحكم في الجيوش وان اتجاه نيجيريا نفسها الى الانتخابات الديموقراطية في عهد الجنرال عبدالسلام يأتي بمثال جديد في نيجيريا التي واجهت العقوبات والعزلة من الكومنولث لاجهاض دورة الانتخابات التي أتت بمشهور أبيولا قبل وفاته. وان الدعم المادي الذي تقدمه نيجيريا لقوات الايكوموغ لن يكون مفتوحاً ولكنه مرتهن الى احداثيات سياسية معينة قد تعجز نيجيريا عن ملاحقتها ان تحول الحكم فيها الى المدنيين واعادة اولويات نيجيريا لاراء الجبهة الداخلية حتى لا تقصف بالديموقراطية فيها ضربة عسكرية الفيّة جديدة. وخاتمة القول هو ان احد المراقبين الغربيين قال "لو كنت امجد تجان كاباح، لانهيت الحرب القائمة ودعوت فودي سانكوح لتولي منصب نائب الرئيس وأوكلت اليه عملية النهوض بالاصلاح الاقتصادي والتنموي ازاء القرى التي دمرتها فصائل الجبهة الثورية وصناعة اطراف صناعية للذين حزت قواته اطرافهم.. فان هذا كفيل بالقضاء على تهافته الاشتراكي وخطابه الحماسي". * سيفشل كاباح ان ارتهن الامور الى شرعيته الديموقراطية السابقة باعتباره رئيساً انتخب ديموقراطياً فأطيح حكمه عسكرياً ولذلك لا بد من فرط اعناق المتآمرين ومنهم الثوار بقيادة فودي سانكوح. وان مائدة المفاوضات وحدها هي التي توقف العنف الدائر في سيراليون مما يعطي الآخرين لا سيما شركات النصب اللاهثة للموارد الافريقية بنهب الماس والاحجار الكريمة. * ديبلوماسي سوداني سابق.