استقطبت دول الخليج العربية بلايين الدولارات في مشاريع استثمارية مشتركة مع دول اجنبية ضمن برامج "الاوفست" التي تطبقها بهدف تخفيف وطأة الانفاق العسكري المرتفع وتنويع مصادر الدخل الوطني. وتقدر قيمة الاستثمارات التي ضُخّت في هذا المجال في دول مجلس التعاون الخليجي بأكثر من خمسة بلايين دولار، ويتوقع ان ترتفع في شكل كبير في السنوات المقبلة. وكانت المملكة العربية السعودية أول من طبق هذا البرنامج الذي تلتزم بموجبه الشركات المصنعة للسلاح استثمار جزء من قيمة الصفقة الدفاعية في مشاريع انتاجية مدنية في البلد المبرمة معه تلك الصفقة. ودفع تسارع تدفقات رؤوس الأموال الاجنبية الحكومة السعودية الى توسيع مثل هذه البرامج لتشمل العقود المدنية الرئيسية، ولتصبح أول من يطبق مثل هذا النظام في الوطن العربي. وتوقع خبراء ان تصل قيمة الاستثمارات الاجنبية في السعودية ضمن برامج "الأوفست" الى اكثر من ثمانية بلايين دولار في السنوات القليلة المقبلة نظراً الى ارتباطها بعقود دفاعية كبيرة وتوجهها الى اعطاء دور اكبر للقطاع الخاص الذي يمتلك موارد ضخمة لم تستغل تماماً بعد. وأشار الخبراء الى ان هذه المشاريع ستوفر اكثر من 9000 وظيفة للمواطنين وستؤدي الى دعم القطاعات غير النفطية التي تركز عليها الحكومة السعودية ضمن استراتيجية تنمية طويلة الأمد لتخفيف الاعتماد على صادرات النفط المتقلبة. ويعتبر مشروع "اليمامة" الدفاعي الموقع مع بريطانيا منتصف الثمانينات والبالغ اكثر من 15 بليون دولار، اضخم مشاريع الپ"أوفست". وهناك ايضاً مشاريع "أوفست" رئيسية ابرمت في اطار عقود توريد عسكرية مع شركات "بوينغ" و"هيوز" و"جنرال دينامكس" و"ماكدونل دوغلاس" وشركات اميركية وفرنسية وبريطانية اخرى. اما في المجال غير العسكري فتم تنفيذ عدد من المشاريع من قبل الشركات الاجنبية اكبرها تلك المرتبطة بالعقد الممنوح لشركة "اي. تي. اند تي" الاميركية والبالغة قيمته نحو أربعة بلايين دولار ويشمل تطوير شبكة الهاتف في المملكة وتوسيعها. ولم تكشف الحكومة السعودية حجم الاستثمارات في مشاريع "الاوفست" المرتبطة بهذا العقد، الا ان مصادر غربية في الخليج قدرتها بنحو 400 مليون دولار. ويعد برنامج "الأوفست" السعودي من اكثر البرامج مرونة اذ تعتمد درجة التزام الشركات الموقعة معها العقود المدنية او العسكرية على حجم العقد وحاجات السوق المحلية وأهمية المشروع وعوامل اقتصادية وفنية واجتماعية. اما في الامارات العربية المتحدة، وهي الدولة الثانية في مجلس التعاون الخليجي التي تطبق برامج "الأوفست" فحددت نسبة التزام الشركاء الاجانب في مشاريع "الأوفست" بحد اقصى يبلغ 60 في المئة من اجمالي قيمة الصفقة الدفاعية. وعلى عكس السعودية، لا تطبق الامارات هذه البرامج على العقود المدنية باعتبار ان ضمانة الانفاق الدفاعي تكفي لاجتذاب استثمارات كبيرة في هذا المجال في الوقت الحاضر على الأقل. وبدأت الامارات بتطبيق هذه البرامج عام 1992 بعدما اطلقت حملة لتعزيز قدراتها الدفاعية في اعقاب الغزو العراقي للكويت، ووصل اجمالي الاستثمار في مشاريع "الأوفست" الى نحو بليوني درهم 545 مليون دولار شملت اكثر من 25 مشروعاً مدنياً، من اهمها "شركة ابو ظبي لبناء السفن" البالغ رأس مالها 178 مليون درهم 48 مليون دولار و"شركة الواحة للتأجير" برأس مال يبلغ 84 مليون درهم 23 مليون دولار و"شركة الامارات للشحن" برأس مال يبلغ 155 مليون درهم 42 مليون دولار. اما اكبر مشروع "أوفست" في الامارات فهو العقد المبرم في اطار صفقة الدبابات الموقعة عام 1993 مع شركة "جيات" الفرنسية والبالغة قيمتها نحو 3.8 بليون دولار. وينتظر ان تتسارع التدفقات المالية الى الامارات في شكل كبير في الفترة المقبلة، اذ تعتزم الحكومة شراء نحو 30 مقاتلة "ميراج" فرنسية بقيمة 3.7 بليون دولار و80 مقاتلة "أف - 16" اميركية بقيمة تراوح بين سبعة وثمانية بلايين دولار. وفي تقديمه لتقرير اصدره "برنامج الأوفست" في الامارات، قال رئيس اركان القوات المسلحة الفريق الشيخ محمد بن زايد آل نهيان: "اننا نعتبر برنامج المبادلة الأوفست اداة مهمة لمساعدتنا في تحقيق اهدافنا الوطنية". وأضاف: "ونعد بأن شركاءنا الذين يلتزمون بالتعاون معنا في وضع هذا البرنامج موضع التنفيذ ويساهمون في تطوير تجربتنا سيجدون منا العون الصادق والتعاون المثمر بما يخدم مصالحنا المشتركة". وشدد مدير "برنامج الأوفست" أمين بدرالدين على ضرورة مواصلة تنفيذ مثل هذه المشاريع لما لها من اهمية في اجتذاب التكنولوجيا ودعم الاقتصاد الوطني ما يخفف من تأثير الانفاق الدفاعي على الموازنات الحكومية. وقال في التقرير: "علينا تحويل الكلفة المادية والاجتماعية الناتجة عن الانفاق العسكري الى قنوات استثمار مدنية ليستفيد منها المواطن عن طريق مساهمته في مشاريع انتاجية". وأضاف: "من الواضح ان برنامج المبادلة يوفر لنا امكان استقدام التقنيات الدولية من دون اللجوء الى الانفاق المتزايد عليها. وفي الوقت نفسه، يتيح البرنامج للدولة استقطاب الخبرات الدولية الضرورية لمثل هذا التحول الاقتصادي". وذكر التقرير ان اهداف برنامج "الاوفست" تتضمن تنمية اقتصاد الامارات وتوسيع القاعدة الصناعية وخلق فرص عمل للمواطنين ودعم القطاع الخاص وتنويع مصادر الدخل القومي وتحقيق الأمن الاقتصادي للدولة. اما الفوائد التي يجنيها المواطن من مشاركته في البرنامج فتشمل توفير اسواق جديدة للصناعات المحلية وتطوير القدرات الصناعية والتسويقية في الدولة والاستفادة من نقل التقنية وتوفير الأنظمة الادارية الحديثة للسوق المحلية واستغلال رأس المال الذي تستثمره الشركات الاجنبية، اذ انها تستثمر 49 في المئة كحد اقصى في رأس مال اي مشروع والطرف المواطن 51 في المئة كحد أدنى طبقاً للقوانين المعمول بها. كما طبقت الكويت برامج "الأوفست" على بعض العقود وهناك اتجاه لتوسيع هذا النظام وتطبيقه في الدول الاعضاء الاخرى في مجلس التعاون الخليجي وهي سلطنة عمان والبحرين وقطر. وتختلف شروط تنفيذ مشاريع "الأوفست" من دولة الى اخرى لكن الأهداف الرئيسية تصب في قناة واحدة وهي استقطاب التكنولوجيا اللازمة لدعم جهود دول المجلس في عملية تنويع مصادر الدخل التي لا تزال تعتمد الى حد كبير على مبيعات النفط الخام. وقال مسؤول عسكري خليجي: "نحن لم نعد نريد من الدول المنتجة للسلاح ان تنظر الينا كسوق لمنتجاتها بل كشركاء لهم مصالح متبادلة وعليهم التزامات مشتركة". وأضاف: "نحن نلتزم كلياً العقود الموقعة وعليهم الالتزام بتنمية اقتصادنا الذي بات بحاجة ماسة الى التكنولوجيا المتطورة اللازمة لتطوير مصادر دخل بديلة عن النفط". وتتهافت شركات دولية كثيرة على تقديم عروض بمشاريع "اوفست" في دول مجلس التعاون الخليجي على أمل الفوز بصفقة عسكرية او مدنية. ويتضح من المشاركة المكثفة لهذه الشركات في معرض "ايدكس" الدفاعي في ابو ظبي مدى الأهمية التي تعلقها على سوق السلاح في الشرق الأوسط التي تعد من اكبر الأسواق في العالم. وهناك شركات تقوم بتنفيذ مشاريع "أوفست" مسبقة اي قبل الفوز بعقد دفاعي وذلك بهدف التأثير في صانعي القرار في عملية ارساء العقد العسكري. وفي حال عدم فوزها فإنها تكتفي بالمشاركة في المشروع وتحقيق أرباح اضافة الى اتخاذه قاعدة للانطلاق الى مشاريع اخرى قد تؤهلها للفوز بصفقات دفاعية محتملة. وعلى رغم تأخر دول المجلس في تطبيق نظام "الأوفست" فانه بدأ يؤتي ثماره اذ ساعد على نمو القطاعات غير النفطية في دول المجلس وشجع نجاح مشاريعه القطاع الخاص على توسيع استثماراته. وتوقع مسؤولون ان يستمر القطاع غير النفطي في تحقيق نمو ايجابي في السنوات المقبلة بصرف النظر عن التذبذبات الحادة في اسعار النفط والتي تؤدي عادة الى انخفاض الاستثمارات الحكومية وبالتالي تباطؤ النمو في عدد من القطاعات. وبموجب انظمة "الاوفست" في دول مجلس التعاون الخليجي يمكن موردي السلاح الاستثمار في اي مشروع مدني الا ان الحكومة تفضل المشاريع الانتاجية وتلك الموجهة الى التصدير بهدف استغلال امكانات القطاع الخاص ورفع الايرادات غير النفطية. وتشمل المشاريع المتعلقة بنظام "الأوفست" في دول المجلس قطاعات الصناعات التحويلية والزراعة والسياحة والخدمات ومشاريع تعتمد على التكنولوجيا المتطورة ونسبة ضئيلة من الأيدي العاملة ما يجعلها من اكثر المشاريع ربحية. ويتوقع ان تلعب برامج "الأوفست" دوراً بارزاً في عملية التنمية في مجلس التعاون الخليجي في المرحلة المقبلة نظراً الى تمسكها بهذه البرامج وارتفاع الانفاق الدفاعي ما يؤدي الى استقطاب رؤوس اموال كبيرة. وتبذل دول المجلس جهوداً متواصلة لتطوير مصادر دخل بديلة عن صادرات النفط عن طريق ضخ استثمارات ضخمة في القطاعات الاخرى وخصوصاً القطاع الصناعي الذي اجتذب حتى الآن اكثر من 60 بليون دولار استثمرت في نحو عشرة آلاف وحدة صناعية. وما يدفع دول المجلس الى تكثيف هذه الجهود هو الانخفاض الحاد في عوائدها النفطية التي هوت الى ما دون 60 بليون دولار عام 1998 مقابل نحو 90 بليون دولار عام 1996 وأكثر من 180 بليوناً عام 1980. وانخفضت تلك الايرادات في الوقت الذي استمر فيه ارتفاع حاجات التنمية في دول المجلس بسبب النمو السكاني السريع اضافة الى انخفاض القيمة الشرائية للدولار وارتفاع معدلات التضخم الدولية. ووصف خبير اقتصادي خليجي برامج "الأوفست" بأنها وسيلة مثلى لتنويع مصادر الدخل وجلب التقنية المتطورة وتخفيف الآثار السلبية الناجمة عن ارتفاع الانفاق الدفاعي في دول المجلس والذي وصل متوسطه الى نحو 25 في المئة من اجمالي الموازنات الحكومية. وقال الخبير: "اعتقد ان مثل هذه البرامج من افضل الوسائل لتحقيق اهداف دول المجلس في عملية التنويع الاقتصادي اذ انها تضمن تدفق رؤوس الأموال وتعطي القطاع الخاص فرصة ذهبية لاستغلال طاقاته واكتساب الخبرة التقنية والتسويقية من الشركاء الاجانب".