الحديث عن سلاح الغواصات يشبه الى حد ما الحديث عن انتشار الاسلحة غير التقليدية كالنووية والجرثومية والكيماوية في دول العالم الثالث، اذ ان ابرز ما فيه هو ان اقتناءه لا بد من ان يثير رعب ومخاوف الكثيرين في الحلقات الاضعف من هذه البلدان، لكنه حديث يستثير في الوقت نفسه لعاب مصنّعي هذا السلاح، فالفرص اكثر من ذهبية والارباح لا يمكن ان تقاوم. والحديث عن الغواصات يعود بالذهن فوراً الى الاتفاق الذي وقعته ايران مع روسيا في ربيع عام 1993 للحصول على اول غواصة من طراز "كيلو" ما اعتبر في حينه تهديداً جدياً لحركة الملاحة البحرية عبر مضيق هرمز الذي تعبر منه ناقلات نفط تحمل نحو ربع الانتاج العالمي من النفط ومشتقاته. افرزت الحرب الباردة، التي كان انهيار الاتحاد السوفياتي رمزاً لنهايتها، لعبة قط وفأر متوترة بين اسلحة البحرية الغربية عموماً والاميركية خصوصاً من جهة، وبين الخصم الشيوعي من جهة اخرى. كانت الغواصات التقليدية والنووية من الجانبين تلعب دوراً بارزاً فيها، الا انه مع تراجع درجة الخطورة المدمرة التي اتسمت بها تلك الحقبة بدأت تطفو على السطح وعلى نحو تدرجي حزمة من الاولويات المتقاطعة حتى التضارب احياناً. فالبحرية الاميركية تعبِّر عن القلق من التهديدات التي يمكن ان تنتج عن تنامي قوة الغواصات في بلدان العالم الثالث، التي يمكن ان تلعب دوراً فعالاً في المياه الساحلية الاقليمية والدولية في شواطئ العالم، اضافة الى ظهور مخاوف تتعلق بمصير البنية الصناعية التحتية التي ازدهرت وترعرعت في احضان الحرب الباردة لدى الجانبين. وفي الولاياتالمتحدة تزايدت الضغوط الداخلية الهادفة الى تقديم تكنولوجيا هذا السلاح الى بلدان حليفة تقليدياً وأخرى نامية استجد تحالفها مع الغرب بعدما كانت في الجانب الآخر، وخصوصاً الغواصات التي تعمل بالديزل وليست تلك العاملة بالوقود النووي. وليس جديداً القول ان نحو 20 بلداً نامياً تملك اكثر من 150 غواصة هجومية تقليدية. ففي كوريا الشمالية يعتقد بأن هناك ما لا يقل عن 25 غواصة، وفي الهند 18 غواصة، في حين تمتلك تركيا نحو 15 غواصة واليونان عشر غواصات، فيما تضم البحرية المصرية ثماني غواصات، وتمتلك ليبيا وباكستان ست غواصات لكل منهما، على رغم ان معظمها مصنف غواصات قديمة ومتهالكة، الا أنها مع ذلك يمكن ان تكون خصماً لا يستهان به امام الاساطيل الغربية المتطورة. حصلت بلدان العالم الثالث على غواصاتها الحربية في شكل رئيسي من روسيا وبعض بلدان اوروبا الغربية التي تملك منشآت وقواعد اساسية لبناء غواصات تزيد عن حاجتها الفعلية. ويقدر بعض الخبراء ان كلاً من دول حلف شمال الاطلسي قادرة على انتاج اكثر من 19 غواصة متطورة ، في حين لا تشتري كل من الدول الاعضاء في التحالف اكثر من ثلاث غواصات في السنة على اكثر تقدير، وهو ما يعني بالضرورة ظهور مطالبات قوية وذات جدوى اقتصادية واضحة للتصرف بالفائض الانتاجي للقاعدة الصناعية المنتجة لهذا السلاح. فألمانيا مثلاً تعتبر من البلدان الرئيسية في انتاج الغواصات وتصديرها، وينبع القلق في الموضوع الالماني من كون الالمان لا يكتفون ببيع الغواصات بل يبيعون معها ادوات ومعدات انتاجها وخبراتها، وما يسمى ب "الانتاج المشترك"، وهو اسلوب آخر لمواجهة المنافسة التجارية والحصول على اكبر عدد من عقود التسليح البحرية، ما يعني ازدياد عدد الدول التي ستتنافس على بيع الغواصات لمشتريها، وهو أمر يزيد من صعوبة السيطرة على انتشار سلاح الغواصات. وقد ابرمت المانيا عقوداً مع كوريا الجنوبيةوالهند والارجنتين، فيما تتطلع روسيا بيأس الى عقود تسليح من اجل الحصول على العملة الصعبة التي يحتاجها اقتصادها المتدهور. ولا تتكتم البحرية الروسية على نياتها بيع الفائض من انتاجها الى من يدفع اكثر، وبين أبرز زبائنها المحتملين الهند والجزائر وكوريا الشمالية وليبيا وايران، اما فرنسا فباعت غواصات من طراز "اغوستا" و"دافني" لباكستان ، كما باعت الصين غواصات قديمة من طراز "روميو" لكوريا الشمالية، وتسعى السويد الى بيع غواصات لبلدان في جنوب شرقي آسيا مثل ماليزيا، كما تسعى تايوان الى شراء مجموعة من الغواصات الهولندية، فيما تعرض بريطانيا غواصاتها الزائدة عن الحاجة والتي يقدر عددها بأربع غواصات للايجار بطواقمها من المرتزقة المحترفين. ومع تقلص المخصصات المالية للمجهود الحربي منذ مطلع العقد الحالي على نحو ملحوظ بسبب تراجع مخاطر الحرب الباردة وتلاشيها تقريباً، شرعت شركات تصنيع الاسلحة في الولاياتالمتحدة وغيرها بحملة شرسة لتوسيع رقعة اسواقها من خلال استهداف اسواق جديدة مثل البلدان المطلة على خليج عمان وبلدان ساحل البحر المتوسط وبحر العرب وشمال الهند وجنوب بحر الصين. وشكّل تحقيق هذه الشركات لنجاحات نسبية في الاعوام القليلة الماضية دليلا على خطورة الوضع المستجد على الاستقرار العالمي الذي يروج له الساسة في الغرب. وعلى رغم ان البحرية الاميركية قادرة، بسهولة نسبية، على تدمير أية غواصة ساحلية تشغل بالديزل، ولا تستطيع الغوص لاكثر من مئة متر تحت سطح الماء، الا ان حصول بلدان من العالم الثالث على نسخ مطورة من هذه الغواصات يجعل خطرها قائماً باستمرار، وهو ما يتطلب رقابة دائمة لحركتها وقدراتها التكنولوجية الاضافية في المستقبل ومن اخطرها قابلية تركيب منظومات طوربيد اكثر تطوراً وأوسع مدى وأفضل من الناحية التدميرية، ناهيك عن احتمالات استخدام وتطبيق تقنيات مطورة محلياً لنصب صواريخ باليستية متوسطة او حتى بعيدة المدى في مثل هذه المركبات البحرية. ومن المعلوم ان كلفة تصنيع الغواصة عالية جداً قياساً بالصاروخ او غيره من الاسلحة غير النووية، فكلفة انتاج غواصة فرنسية من طراز "اغوستا - 90" تعمل بالديزل لبلد مثل باكستان قد تصل الى اكثر من 230 مليون دولار على رغم المنافسة الصينية القوية، فباريس وبكين تقدمان صفقات تمويلية مغرية تقلص قليلاً من هامش الربح من اجل انجاز عملية البيع، وليس هناك في الاسواق بلد مستعد ان يدفع نقداً لمثل هذه الصفقات ما يزيد من حدة المنافسة ويرفع من درجة الخطورة السياسية المترافقة مع هذه المغامرات التجارية التي تلفها من دون شك غيوم سياسية كثيفة. وما يزيد من درجة مخاطر شيوع بيئة التنافس على بيع الغواصات الحربية المقاتلة هو ان العديد من صفقاتها، من جانب المشتري الباحث عن التكنولوجيا بقدر بحثه عن المنتج النهائي والبائع الذي يتحرق للحصول على افضل الاسعار شاملة التصاميم والرسوم والبحوث التكنولوجية المرافقة، تنقل تدريجاً المعرفة التي قد تؤدي الى اعطاء القدرة للبلدان المرشحة للحصول على مزيد من الغواصات كالبرازيل وكوريا الجنوبية وربما الهند، على بناء غواصات تنافس البائع التقليدي وتضع امر الاشراف الاستراتيجي من الدولة على المصنعّين في ذيل القائمة ، أي ان مخاطر انتشار هذا السلاح ستكون في المستقبل اكبر من الصواريخ والاسلحة البيولوجية والكيماوية. والمثال في هذا هو المانيا التي باعت على مدى 20 عاماً غواصات من طراز 209 على رغم ان البحرية الالمانية لا تملك حتى واحدة منها، وهو نموذج مباشر لخضوع الدولة لضغوط المصنعين التجاريين الهادفة ليس فقط الى تحقيق الربح بل المحافظة على البنية التحتية الضخمة التي تقف وراء صناعة كبيرة من هذا النوع، وهو ما يطرح سؤالاً معقداً هو: هل ان احد افضل الحلول المقيدة لانتشار سلاح الغواصات هو منع بيع او تصدير او تصنيع الاسلحة التي يمكن ان تحملها ، ومن أخطرها الصواريخ الطوربيدية وصواريخ كروز المضادة للسفن القادرة على اغراق سفن ضخمة بضربة واحدة دقيقة. وعلى رغم ان واشنطن كانت بادرت لتحقيق هذا الهدف من خلال منعها بيع صواريخ "هاربون" التي تحملها الغواصات القادرة على توجيه ضربة مميتة لحاملة طائرات من على بعد 145 كيلومتراً وهي مسافة ابعد بكثير من الدفاعات الذاتية المباشرة حتى عند اكثر حاملات الطائرات تطوراً. ويعتبر امر تقييد بيع الطوربيدات او صواريخ كروز بالنسبة للحكومة الاميركية او غيرها من الحكومات الاوروبية اسهل واقل احراجاً من تقييد بيع الغواصات نفسها، فتلك الصواريخ لا تزيد اثمانها عن عدة مئات من آلاف الدولارات، في حين يبلغ ثمن الغواصة الواحدة مئات عدة من ملايين الدولارات. وعلى رغم ان الغواصات التي تملكها دول من العالم الثالث لا يمكن اعتبارها سلاحاً تصل خطورته الى مرحلة تهديد شامل وجدي للقوى المسيطرة على العالم، ومن ابرزها الولاياتالمتحدة، الا ان اتساع رقعة مبيعاتها وانتشار التكنولوجيا الخاصة بها يمكن ان يكون خطراً مستقبلياً يحمل معه مفاجآته غير المحسوبة. ويبدو ان البلدان الصناعية المنتجة لهذا السلاح تحتاج الى النظر بتمعن لمصالحها التجارية القصيرة الامد وضروراتها واحتياجاتها الامنية البعيدة الامد، وعليها البدء في محاولة ايجاد موازنة عقلانية بين الحصول على مليارات عدة من الدولارات والوقوع في مصيدة تحويل قط اليوم الى نمر خلال اعوام قليلة. * صحافي عراقي مقيم في لندن.