لا شك في أن سباق التسلح بين العرب وإسرائيل سيكتسب بعداً جديداً مع مطلع العام 1999، عندما تصل الى إسرائيل الغواصات الثلاث من طراز "دولفين" التي تعاقدت عليها مع ألمانيا وتم بناؤها في مدينة "كيل". وجاري التدريب على الغواصة الأولى حالياً بواسطة الأطقم الإسرائيلية في مياه بحر الشمال، وتكلفت ألمانيا ببناء غواصتين على أن يتم بناء الثالثة بأموال المساعدات الاميركية لإسرائيل، علماً أن ثمن الغواصة الواحدة يبلغ 400 مليون دولار. وتفيد الاصدارات الرسمية لسلاح البحرية الإسرائيلي أن طاقم هذه الغواصة يصل عدده الى 45 فرداً، ويبلغ طولها 57 متراً، وتتحرك بمحرك ديزل وكهرباء، وتصل حمولتها الى 1700 طن تحت سطح البحر، وهي مزودة بأنابيب لإطلاق عشرة طوربيدات، وصواريخ "أريحا" سطح/ أرض من تحت سطح الماء 4800 كم يمكن تزويدها برؤوس نووية، كذلك تسمح بانطلاق عناصر كوماندوس منها وهي تحت الماء والعودة إليها. وبدأ اهتمام اسرائيل بتطوير قواتها البحرية عقب حرب 1973 حين تمكنت البحرية المصرية من إغلاق مضيق باب المندب في وجه البحرية الإسرائيلية، وقطعت بذلك خطوط المواصلات البحرية عبر البحر الأحمر، وجعلت ميناء إيلات بلا قيمة، كما أسقطت دعاواها حول الاحتفاظ بشرم الشيخ المصرية في جنوبسيناء بزعم تأمين مضيق تيران الحيوي لها، ناهيك عن مغزى الضربة البحرية التي وجهتها مصر الى اسرائيل في كانون الثاني يناير 1968 عندما حطّمت لها أكبر مدمراتها "إيلات" أمام مياه بورسعيد. الأهداف والمهمات الاستراتيجية تلك الأحداث وغيرها، دفعت المسؤولين السياسيين والعسكريين في اسرائيل الى الاسراع بضرورة تطوير البحرية الإسرائيلية حتى يمكنها أن تحقق مهماتها الاستراتيجية وأبرزها تأمين القواعد والموانئ والمياه الاقليمية ضد عمليات الغزو أو "الإرهاب" وحماية خطوط المواصلات البحرية لإسرائيل من أي تدخل معادٍ. إضافة الى توفير القدرة في فرض السيطرة البحرية على كل مياه البحرين الأبيض والأحمر، وبما يمكّنها من توجيه ضربات بحرية ضد الاساطيل العربية في قواعدها وموانئها، ويكفل في الوقت نفسه تدميرها أو حصارها ومنعها من تأدية مهماتها، وقطع خطوط المواصلات العربية بشقيها المدني والعسكري، ومنع أي تعاون بحري بين الدول العربية في كل من حوض البحر المتوسط وحوض البحر الأحمر. من هنا يمكننا أن نفهم مغزى التعاون الاستراتيجي بين البحريتين التركية والإسرائيلية في شرق البحر المتوسط، الذي يستهدف في اساساً فرض حصار وتهديد بحري على سورية في حال نشوب حرب بينها، وبين أي منهما أو كليهما. كذلك مغزى التعاون الاستراتيجي بين اسرائيل وكل من اريتريا واثيوبيا في الجزء الجنوبي من البحر الأحمر عند مضيق باب المندب، اذ تحرص إسرائيل على أن يكون لها نقاط إنذار مبكر وتسهيلات في الجزر الحاكمة لهذا المضيق مثل "دهلك" و"فاطمة" وغيرهما. تطوير البحرية الإسرائيلية انطلاقاً من هذه الأهداف والمهمات الاستراتيجية المكلفة بها البحرية الإسرائيلية، خططت القيادة العسكرية الإسرائيلية لهذا السلاح لكي يتحول في القرن المقبل الى ما يسمى ب"أسطول المياه العميقة Blue Water Navy" حتى يكون قادراً على العمل بحرية ولفترات طويلة خارج مياه إسرائيل الاقليمية، وهو ما يعني التحول لقوة هجومية قادرة على تغطية كل البحر المتوسط حتى مخرجه الغربي عند مضيق جبل طارق، وكل البحر الأحمر حتى مخرجه الجنوبي مع المحيط الهندي. ويتطلب ذلك بالتالي امتلاك قطع بحرية كبيرة نسبياً تجمع بين القدرة على العمل على مسافات بعيدة والبقاء في البحر لفترة طويلة، الى جانب خفة حركة ومناورة عالية، وتسليح متطور بحر/بحر، وتوافر امكانات ذاتية للدفاع الجوي والاستطلاع البحري وقتال الغواصات بواسطة الهليوكوبتر المحمل على ظهر القراويطات والفرقاطات. ولتحقيق هذا التطوير تمكنت إسرائيل بمساعدة الولاياتالمتحدة من إنتاج ثلاث قراويطات صواريخ "سعر-5" مزودة بصواريخ "جبرائيل" سطح/سطح و"هاربون" بعيدة المدى 200 كم وأسرع من الصوت، كذلك صواريخ دفاع جوي قصيرة المدى "باراك" للدفاع الموقعي عن السفن الحربية، كما زودت هذه القراويطات التي تم بناؤها في الولاياتالمتحدة بأنظمة حرب إلكترونية تمكنها من تنفيذ إعاقة إدارية ولاسلكية على السفن العادية، وبما يفسد عليها الاشتباك بالصواريخ البحرية. وتملك البحرية الإسرائيلية حالياً 3 غواصات من طراز "غال" الذي ينتمي الى السبعينات، ولا تعتبر كافية لتنفيذ المهمات الاستراتيجية السابق إيضاحها. لذلك تشكلت لجنة في الثمانينات برئاسة الجنرال يسرائيل طال، الذي كان من أنصار إنتاج نظم تسليح متقدمة، أوصت بضرورة تحديث سلاح الغواصات. وبناء على توجيهات من رئيس الأركان آنذاك الجنرال روفائيل إيتان، قامت لجنة بدراسة الغواصات المنتظر بناؤها في عقد التسعينات في كل من الولاياتالمتحدةوألمانيا وبريطانيا وفرنسا، واستقر رأيها على أن أفضلها هو طراز "دولفين" الذي يتم بناؤه في ألمانيا. غير أن بعض كبار ضباط هيئة الأركان العامة الإسرائيلية عارض مبدأ بناء غواصات جديدة بالنظر لتكاليفها الباهظة، وأنه من الأفضل توجيه مثل هذه الأموال الى اسلحة أكثر أهمية في القوات البرية والجوية. إلا أن تصديق الحكومة الألمانية في العام 1989 على مشروع بناء الغواصات الثلاث الذي تقدمت به إسرائيل، أعاد الاهتمام بهذا المشروع، غير أنه لم يكن من الواضح حتى ذلك الحين كيف سيتم تمويل المشروع. وطلبت إسرائيل الحصول على تمويله من برنامج المساعدات العسكرية الاميركية، غير أن الولاياتالمتحدة عارضت هذا المشروع، خصوصاً بعد أن أدركت أن الاقتصاد الألماني هو الذي سيستفيد من العمل في المشروع، ومع هذا استجابت إدارة الرئيس جورج بوش في نهاية الأمر للمطلب الإسرائيلي، وقامت بتوفير الأموال اللازمة، خصوصاً بعد أن اتضح لها أنه ليس بمقدور أحواض بناء السفن الأميركية بناء مثل هذه الغواصات. وفي شهر شباط فبراير 1990 قامت الولاياتالمتحدة بتسديد الدفعة الأولى وكانت 200 مليون دولار، إلا أن وزير الدفاع آنذاك موشى آرينز قرر إيقاف المشروع، إذ تبين أن وزارة الدفاع ستضطر الى تخصيص جزء كبير من موازنتها لحسابه على رغم الأموال المخصصة له من المساعدات الاميركية خصوصاً أن وزارة المال أجبرته على تخفيض موازنة الدفاع عموماً. إلا أن هذا القرار أثار رياح الغضب في سلاح البحرية الإسرائيلية. يقول ميخارام قائد هذا السلاح: إن اللحظة التي علم فيها بإلغاء هذا المشروع كانت من أصعب اللحظات في حياته، واتخذ قادة وضباط وحدة الغواصات إجراءات عدة للإعراب عن اعتراضهم، فنشروا إعلانات في الصحف، ونظموا تحت قيادة العقيد يسرائيل ليشم تظاهرات عدة أمام مكتب رئيس الوزراء في القدس، إلا أن هذه التظاهرات لم تثمر عن شيء يذكر. ثم جاءت لحظة الرجوع في قرار إلغاء المشروع عندما نشبت حرب الخليج في كانون الثاني يناير 1991، واستئناف العمل في بناء الغواصات، إذ أعلنت الحكومة الألمانية أنها ستمول عملية بناء غواصتين، على أن تتولى إسرائيل تمويل الغواصة الثالثة بأموال المساعدات الاميركية. ويقال في إسرائيل إن "قرار الحكومة الألمانية كان تحت إحساس بالذنب إثر تسرب معلومات أفادت أن بعض الشركات الألمانية زوّدت العراق ببعض المواد اللازمة لإنتاج أسلحة كيماوية وتطوير صواريخ سكود". وعلى أثر القرار الألماني، وافق مجلس الوزراء الإسرائيلي في اذار مارس 1991 على استئناف العمل في بناء الغواصات. استراتيجية الردع في حديث القائد السابق لسلاح البحرية الإسرائيلي العميد بحري ابراهام بوتسر، نشر في مجلة "عيرف حداش" أوضح أن "هذه الغواصات ستفيد دولة إسرائيل، ليس فقط في مجال الاستراتيجية البحرية، ولكن أيضاً في دعم استراتيجية الردع بمفهومه الشامل لأنها ستقيد احتمالات لجوء العدو الى استخدام اسلحته غير التقليدية، لأنه سيدرك أنه سيتعرض في هذه الحال الى عقاب صارم". ومغزى هذا التصريح يكمن في قدرة الغواصات الإسرائيلية عندما تسلح بصواريخ "أريحا" ذات الرؤوس النووية على توجيه الضربة النووية الثانية من تحت الماء ضد الدول التي وجهت ضربة أولى بأسلحة دمار شامل كيماوية أو نووية أو بيولوجية الى إسرائيل، ومع افتراض نجاح هذه الضربة في تدمير جزء كبير من قاذفات ومقاتلات وصواريخ إسرائيل المجهزة لتوجيه الضربة الأولى. فمع الوضع في الاعتبار انتشار الصواريخ البالستية المسلحة برؤوس فوق تقليدية في الدول العربية وإيران، ومع احتمال أن تحصل الأخيرة على قدرات نووية في غضون 5 - 8 سنوات، اذ تقدر إسرائيل أن عدد الصواريخ البالستية في الدول العربية وإيران يصل الى 1200 صاروخ، ومع احتمال اعتماد الدول العربية وإيران على استراتيجية "الإغراق الصاروخي" أي توجيه ضربات كثيفة ومتتالية بالصواريخ ضد الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية ذات القوة المضادة العسكرية وذات القيمة المضادة المدنية فربما تعجز القيادة الاستراتيجية في إسرائيل على استخدام مقاتلاتها وصواريخها "أريحا" من قواعد أرضية لتوجيه الضربة الثانية. لذلك سيكون الاعتماد بشكل رئيسي على الصواريخ "أريحا" الموجودة في الغواصات للانطلاق نحو أهدافها في الدول المعادية لإسرائيل. وأشار البروفيسير يهو شباط هاركابي في كتابه "الحرب النووية والسلام النووي" الى هذه القضية، عند ما ذكر مصطلح "الضربة الثانية" وعرّفه بقوله: "إنه يعني توجيه ضربة ثأرية، ويتم في هذه الحال الاستعانة بما تبقى من القوات النووية". وذكرت صحيفة "الواشنطن بوست" نقلا عن بعض قادة الاستخبارات والشؤون الاستراتيجية في الولاياتالمتحدة وأوروبا أنه بمقدور الغواصات أن توفر لإسرائيل المقدرة على توجيه ضربة نووية ثانية، وجاء في هذا المقال: "إذا نجحت القوات العربية في المساس بالمفاعل النووي الإسرائيلي القائم في "ديمونة" بصوارخ أرض/أرض، وبقواعد سلاح الطيران الإسرائيلي فإنه سيصبح بمقدور إسرائيل الرد على هذا الهجوم من خلال الصواريخ التي ستطلق عندئذ من الغواصات". ونقلت الصحيفة في المقال نفسه أيضاً رأي الخبيرين بول روجرز الباحث في جامعة برادفورد البريطانية، وسات كاروس الاستاذ في كلية برود أيلاند البحرية، أنهما يعتقدان أن إسرائيل تمتلك فعلاً المعرفة والتكنولوجيا اللازمتين لإنتاج الصواريخ البحرية، وتكمن ميزة مثل هذه الصواريخ في قدرتها على التحرك في مسار محدد وعلى ارتفاع منخفض حتى تصل الى هدفها، ومن هنا فمن الصعب اعتراضها، والمقصود بذلك الصواريخ الطوافة "كروز" التي تتعاون إسرائيل مع تايوان لإنتاجها. لذلك من المتوقع أن يكون الانتشار الاستراتيجي للغواصات الإسرائيلية الست في حال نشوب حرب مقبلة، على أساس نشر 4 غواصات في حوض البحر المتوسط، منها اثنتان في شرق المتوسط أمام المياه الاقليمية السورية، وواحدة في العمق قرب جزيرة قبرص، والرابعة أمام المياه الاقليمية المصرية، لمنع أي دعم بحري مصري من التحرك صوب سورية. وسيكون نصيب البحر الأحمر غواصتين على أساس إحداهما عند مضيق باب المندب، والأخرى في المنطقة بين الموانئ المصرية والسودانية. الى جانب امتلاك إسرائيل لهذه الغواصات الست في نهاية العام 1999 تطور إسرائيل أسطولها من فرقاطات الصواريخ "سعر-5" التي ينتظر أن يرتفع عددها من 3 إلى 5 فرقاطات قبل العام 2000، كذلك 36 لنش صواريخ طرازات "سعر، ريشيف، عاليه، دفورا، فلاغستاف، إيلات، رامات"، و88 زورق مرور وحراسة و15 وحدة انزال بحري متوسط وثقيل، و6 سفن مساعدة، و6 طائرات استطلاع بحري. وتعطي اسرائيل أسبقية ثالثة لتحسين قدرات لنشات الصواريخ على الدفاع الجوي الذاتي، وذلك بتزويدها بصواريخ أرض/جو "باراك"، ورشاشات مضادة للطائرات، ونظم حرب الكترونية موجبة وسالبة، مع تحسين منظومات القيادة والسيطرة والملاحة والتوجيه وتوزيع واستقبال المعلومات، اضافة الى تعديل المحركات لزيادة قوة السفن وقدرتها على المناورة والعمل لمدى أبعد، الى جانب تزويد سفن السطح بطائرات من دون طيار صغيرة، ووسائل مضادة للصواريخ المعادية سطح/سطح. أما الاسبقية الرابعة فتعطيها اسرائيل لتدعيم الجناح الجوي للبحرية، بوجود هليوكوبتر "دولفين-سي" على سطح كل قراويطة، إضافة الى تمركز باقي سرب الهليوكوبتر 14 طائرة في القواعد البحرية، كما تعمل 7 طائرات "سي سكاف" في مهمات الدوريات والاستطلاع البحري، وسيتم خلال العقد المقبل دعم البحرية الإسرائيلية بنماذج معدلة من طائرات "سي. وند" كذلك جاري إنتاج جهاز رادار "أ.م.د.سي" لكشف صواريخ السطح آلياً، حتى يعمل بنظام النبض المتجانس "دوبلر"، فيحتاج الى عملية مسح واحدة بعد كشف الأهداف للتحقق منها قبل الانذار بها، يدخل في ذلك اكتشاف الصواريخ المعادية على مسافة 20 كم، لإمكان تجنبها أو تدميرها، والأهداف الطائرة على مسافة 7 كم. وكان وزير الدفاع اسحق مردخاي حضر أخيراً حفلة تدشين فرقاطة الصواريخ "يافا"، ويبلغ وزنها 488 طناً، تعمل بأربعة محركات ديزل، وسرعتها تصل الى ثلاثين عقدة، ويبلغ طولها 7،61 م، وعرضها 6،7م ويتألف طاقمها من 45 فرداً، وهي مزودة بثماني منصات لإطلاق الصواريخ "هاربون"، وست منصات لإطلاق الصواريخ "غابراييل" الى جانب مدفع "فولكان" عيار 76 مم، ونظام دفاع جوي أرض/جو "باراك". * لواء ركن متقاعد. خبير استراتيجي مصري