لم تلعب الأرقام دوراً في حياة كاتب، مثلما فعلت في حياة الارجنتيني خورخة لويس بورخيس الذي سيحتفى بمئويته في 24 آب اغسطس هذه السنة. وعندما اتحدث عن الأرقام اقصد الرقمين 3 و9، اللذين يمارسان عليه سحراً سرياً خاصاً، ويغلفان حياته بعجائبية مثيرة للانتباه حتى اليوم الاخير من حياته، بل وحتى بعد 13 سنة من ذلك التاريخ. وحين يتم الاحتفال بمئويته يلتف ويدور الرقم تسعة على نفسه 1999. الانجذاب الى الرقم تسعة كان لا بد ان يكون بالسليقة ومن دون تخطيط، عندما بدأ معه منذ ولادته، في نهاية الشهر الثامن عام 1899. منذ ذلك الوقت لم يغادره الرقمان، او بالأصح الرقم 3 مضروباً بنفسه. عاش تحت هذا الرقم في شارع مايبو، 994 في بوينس ايريس، هناك ماتت امه - التي كانت علاقته بها قوية - في الشهر التاسع ايضاً وكان لها من العمر 99 عاماً. وفي النهاية ودع المربية "فاني" بعد 39 سنة من الخدمة، وكان غداؤه الاخير في المطعم الذي يحمل رقم 963، وعرفت فاني بموته بعد 199 يوماً من مغادرته العاصمة الارجنتينية. وحتى اعماله لم تفلت من الرقم 9. ماريا أستير باسكيز، صديقته التي كتبت السيرة "بورخيس اللمعان والحطام"، تذكر القصيدة التي تغلق كتابه "ذهب النمور": "الخاتم الذي ينجب كل تسع ليالي، تسعة خواتم جديدة وهذه، تلد تسعة...". لكن الحضور الاكثر لغزاً يكمن في عمله "الخالد"، حين يرسم الخوف من الوقوع في المتاهة: "كانت هناك تسعة ابواب في ذلك السرداب، ثمانية منها تقود الى متاهة تنتهي خطأ الى الغرفة ذاتها، التاسعة ... تنتهي الى غرفة ثانية مدورة، تشبه الأولى. اتجاهل الرقم الكامل للغرف". وعندما كان بورخيس يُسأل عن هذه "الخرافة"، كان يجيب - كما تقول بازكيس ذاتها - "بضحكة خبيثة وهو يتحدث عن فضائل سحر الرقم ثلاثة والرقم تسعة والرقم ثلاثة وثلاثين"، ويعيد للتذكير دائماً بأن جنة عدن خُلقت في ثلاث وثلاثين سنة وان المسيح مات في الثالثة والثلاثين. عن هذه المفارقات في حياة بورخيس وغيره نشرة مجموعة من المختصين الذين عاشوا اللحظات الاخيرة من حياته بينهم زوجته، مجموعة شهادات عن الكاتب اللغز، ونكتشف من خلالها اموراً غريبة عرف بورخيس بالحدس انه ما ان يغادر بوينس ايريس، حتى يموت، وكأن الكاتب الذي كان يعتبره الكثيرون أوروبياً، اكثر منه ارجنتينياً او اميركياً لاتينياً، كان يعرف، ان تلك الأوروبية قدره ويجب ان تتكامل مع شخصيته بالموت. هكذا لم ينفعه اقدامه على دق ناقوس الخطر من ايقاف ما كان لا يستطيع تجنبه بعد 199 يوماً لاحقاً. ففي تلك الظهيرة - الاخيرة - وكأنه تنبأ بما سيحدث، راح يردد بصوت لم يخل من الاصرار: "لا ارغب بالسفر! اذا سافرت، سأموت هناك!". وتقول زوجته انه عندما كان يكرر قول ذلك، كانت يداه تبحثان عن مخلص، لذلك راحتا تقبضان على اعمدة سريره البرونزي. كان ذلك اليوم الخميس 28 تشرين الثاني نوفمبر 1985، وكانت المرة الأولى، في الأشهر الاخيرة من تلك السنة من عمره، تسرق منه نومة القيلولة، بسبب سفره الى ايطاليا ثم جنيف. في الخارج، كانت مدينة بوينس أيريس تعيش ربيعاً مضيئاً، ولم يعرف برحلته الا قلة من اعضاء عائلته وأصدقائه. على رغم ان اصدقاءه لم يعرفوا ذلك الا قبل يوم واحد، اثناء حضوره المعرض الوحيد المتكامل لطبعات كتبه الأولى، اذ اصرّ اصدقاؤه على تنظيمه وهو على قيد الحياة، في خلفية تشبه كثيراً تلك التي تصور فيها الجنة على شكل مكتبة كبيرة، مكتبة بحيطان من كتب قديمة وحديثة. وعلى مدى شهر كامل كان البيرتو كاساريس يحضر المعرض مع بورخيس عبر التلفون كل صباح. "اتصل بي حوالى العاشرة"، كان يقول له الكاتب، ومنذ اللحظة التي اعطاه فيها الإذن للشروع بتنظيم المعرض، صار كاساريس يتصل به كل يوم، وبعد ان يرن التلفون مرتين او ثلاث يرد الصوت ذو الوتيرة الواحدة لمؤلف "خيالات": "انها العاشرة"، يتحدثان عن كل شيء، حتى يصلا في النهاية الى النقطة المهملة في اليوم السابق. كان ذلك الطقس يجري كل يوم، لأن بورخيس لم يكن مقتنعاً تماماً في قرارة نفسه، على رغم موافقته على المشروع، اذ ظل اميناً على احتقاره وتصغيره تلك المدائح التي تُسدى الى الطبعات الأولى. وعندما حلّ يوم 27 تشرين الثاني نوفمبر، يوم افتتاح المعرض، اتصل كاساريس ببورخيس، ولم يكن يعرف انه في تلك اللحظة بالذات سيسمع صوتاً مختلفاً، صحيح ان اسمه بورخيس وانه صديقه، لكنه كان يعود اكثر الى صوت شخص لا يعرفه، فعلى عكس ما كان يسمعه كل يوم قال بورخيس: "انها العاشرة"، ثم صمت برهة، قائلاً بعدها، كأنه يعيد طقساً خاصاً به هذه المرة: "لا استطيع المجيء. سأسافر غداً الى أوروبا، ويجب ان أرتب بعض الأمور". شعر كاساريس بخيبة أمل تنزل على رأسه، وبساقيه يرتجفان، فالمعرض نظم، وكل شيء كان مهيئاً، ولم يبق له غير التوسل اليه ان يأتي ولو للحظة واحدة، لكن بورخيس "العنيد" لم يقبل، وظل محافظاً على رفضه. لكن كاساريس لم يكن الشخص الذي يستسلم بسهولة، لذلك فكر بالبحث عن مخرج، او منفذ، حتى خطر بباله، ان تلك المرأة، هي الوحيدة التي تستطيع ان تساعده فاني ابيفانيا اوفيدا دي روبليدو، التي كانت في الپ63، وكانت تخدم آل بورخيس حتى تلك اللحظة 39 عاماً وكان عليها الاعتناء بالكاتب بصورة خاصة شبه متفرغة له، بعد وفاة امه عام 1975. انتظر كاساريس خروج بورخيس من الدار، لكي يتصل. وبالفعل عندما اتصل، اخذت فاني السماعة، وأجابت على حيرته: "اتصل حضرتك عند الساعة الثانية، عندما يكون السيد وحده ولنر ما يحدث". عندما عاد بورخيس في منتصف النهار، ندم لعدم ذهابه الى المعرض. مشى بصمت، تحدث قليلاً مع فاني، انجز بعض الواجبات وفجأة هتف: "لماذا لا أذهب!". بعد الدقة الثانية لبرج الانكليز في محطة ريتيرو المجاورة للبيت، رنّ تلفون بورخيس، رفعه هذه المرة ليقطع بصورة مباشرة حديث كاساريس، ويقول له: "آمل ان لا تأتي لحملي الى هناك". لكن على رغم ذلك، اوقفت مارتا، زوجة المكتبي، سيارتها عند الرقم 994 من شارع "مايبو"، ولتضرب على جرس الدار "ب" في الطابق السادس، حيث كان يعيش آل بورخيس منذ الأربعينات. بعد ذلك بدقائق كانا يقطعان المدينة، كان الطقس حاراً بعض الشيء. في شارع آريناليس 1723 كان ينتظرهما كاساريس. نزل بورخيس من السيارة قبل ان يقطع البوابة، حيث كان الاصدقاء، من دون ان ينسى ان يقول بلهجة مؤكدة، انه هناك في المكان، حيث وقفت السيارة، كانت هناك مكتبة، لكنها كما يبدو لم تعد هنا. وقبل ان يجيب احد، اكمل: "في الزاوية هناك دار من المرمر، واجهة سوداء بعدها مرمر أبيض...". كان كل ما يقوله صحيحاً. تحرك ببطء، فتبعته مارتا وزوجها، وهما يرميان نظراتهما على الشارع الذي لم يعرفانه قبل ذلك اليوم، وربما لكي يتأكدا من انه كان على حق. حينها ابتسما. لبرهة ترك بورخيس خلفه المرح، لكي يدخل المكان حيث كانت رائحته المفضلة، رائحة الكتب التي يعلوها غبار السنين. لم يدخل هو أولاً، بل دخلت عصاه المصنوعة من المانغو قبله، وبعدها دخل هو، بورخيس بوجه ريفي وديع وأنيق جداً، بربطة عنق التمعت ببطانة صفراء، لونه المفضل الذي صاحبه حتى اللحظة الاخيرة قبل ان يصاب بالعمى. ادولفو بيوي كاساريس، "ادولفيتو"، الرجل الذي أصبح صديقاً له منذ 1931، كان ينتظره في المكتبة. الى جانبه اصدقاء اكثر ومعجبون غير معروفين مثل اليخيندرو باكارو الذي لم يكن يعتقد بأنه سيتقاسم المكان ذاته مع الكاتب الذي رآه للمرة الأولى في هذه المناسبة، وكان عليه ان يعلن عن حضوره، لكن من دون التحدث رهبة: "عن أي شيء سأتحدث معه؟". منذ شهر كان كاساريس حرر نفسه من الخوف ذاته، والاثنان كانا يعقدان مقارنة في ذلك الأربعاء بين الانساني والقدري في اشكالية اللغة التي كان يملكها مؤلف "مكتبة بابل" دائماً. تساءل بورخيس بأي عنوان من عناوينه الأولى عليه ان يبدأ الحديث، وقبل ان يكمل جملته، احس بكتاب "القصة الكونية للعار"، يقع بين يديه، ارجعه مباشرة الى صاحبه بعد تحسسه، وهو يعترف بصورة خطابية، انه عندما كتبه لم يكن يعرف ما هو "العار". بعد ذلك بوقت متأخر، سألته احدى النساء، اذا كان ممكناً ان يمنحها قبلة، فابتسم، وقال بصوت مسرحي: "طبعاً، ايتها السيدة". في منتصف المعرض ذكر انه على موعد عند منتصف الامسية مع بعض الاخصائيين "الهيسبانو = انكليز"، وهذا ما ذكّرته به ماريا كوداما، سكرتيرته منذ تسع سنوات، وأصبحت زوجته بعد تسعة اشهر من شغلها هذه الوظيفة مرة اخرى تسعة!. عند الساعة السادسة، ذكّره كاساريس بالموعد لكنه فضل ان يبقى اكثر من الوقت، حتى التاسعة. طوال ذلك الوقت لم يبطل التفكير بموضوع الرحلة الى أوروبا. لم يكن السؤال لماذا يذهب انما متى يرجع؟ لأنه حتى تلك الأيام كانت مضت عليه عشر سنوات من الطواف السرمدي عبر العالم، عبر مؤتمرات وكرنفالات. لكن لم يأخذ احد جوابه بالحسبان: "كلا، لن أعود، انا مريض". لم يفهم المرء ابداً لماذا لم يذهب الى اوروبا، ولماذا كان يخاف من الموت في اوروبا، لم يعرف الا القليلون انه كان يريد ان يُدفن في مقبرة لاريكوليتا، في بوينس ايريس، الى جانب والديه، ليونور آثيبيدو، وخورخة جييرمو بورخيس اللذين كان يزورهما مع فاني، وكان يقول امامها دائماً عندما يكونان عند القبرين: "هنا سأكون انا ايضاً". كان عند سريره كأس من الماء، وبعض الكتب، في تلك الظهيرة الاخيرة. وعندما بدأ الظلام يحل اعلن بورخيس قراره بالذهاب الى أوروبا. في اليوم التالي صحبته فاني ليتناول الغداء الاخير، غداء الوداع مع نورا، اخته الوحيدة. وكان المطعم المختار مواجهاً لبيتهم في شارع مايبو ويحمل الرقم 963، حيث يقع "غراند هوتيل". وبعد الغداء عادت اليه لكي ينام القيلولة، لكن فكرة السفر سرقت منه النوم. كان في غرفته، سرير مصنوع من البرونز، محاط ببورتريه لأمه، وبرفين صغيرين لمكتبة صغيرة وحصان من البرونز. وصلت لحظة الحسم، لكن يبدو ان ليست هناك قوة تستطيع وقف ما هو "مخطط"، ومد يده يبحث عن مسند فوق اعمدة سريره وهو يهتف "لا ارغب في السفر! اذا ذهبت، سأموت هناك!". اما فاني التي كانت قريبة منه، فاقتربت اكثر وسألته: "لم لا تبقى؟". في تلك اللحظة وصلت ماريا كوداما، زوجته وقالت له: "لماذا تقول ذلك؟ حضرتك لا تعرف المشكلة التي ستحدث لي لو حدث لك شيء". هدأت تلك الكلمات بورخيس بعض الشيء ليخرج صوتاً واهناً رقيقاً "حسناً، حسناً، يكفي". عند الخامسة عصراً ودع الآخرين بعبارته المعتادة: "أنا ذاهب". بعد ساعتين غادر صاحب "الألف" الارجنتين بطيارة عاجلة، لكي يصل في الليل. ولم تعرف فاني بموته الا من خلال الاخبار فقط، وفي 14 حزيران يونيو 1986 عرفت ان خورخه لويس بورخيس ابيثيدو مات في جنيف، في الطقس نفسه الذي غادر فيه بوينس ايريس، في الربيع.