عندما أصبح السيد محمد خاتمي رئيساً لجمهورية إيران الإسلامية الشقيقة استبشرنا خيراً، وسجلنا، على صفحات صحيفة "الحياة" الغراء، في عددها رقم 221716 الصادر بتاريخ 23/12/1997، آراء ناشدنا فيها الحكومات والشعوب العربية ضرورة التعامل مع الرئيس الجديد، وأهمية التجاوب العربي مع خطابه السياسي والديبلوماسية الإيرانية الجديدة التي أخذت تشق الطريق نحو إحداث تغيير في السياستين الداخلية والخارجية، خصوصاً تجاه الجيران في دول الخليج والجزيرة التي تنشد حسن الجوار والاحترام المتبادل وعدم تصدير الثورة الإسلامية وبناء جسور من الثقة والتعاون تلبي تطلعات هذه الشعوب، وإنهاء حال المواجهة والحرب التي ألحقت أضراراً هائلة بالتنمية والتعمير، ودمرت أمكانات هائلة، فكانت إسرائيل وحلفاؤها المستفيدين من ذلك أولاً وأخيراً. تمت خلال الفترة الماضية خطوات تقارب طيبة بين دول المنطقة، على رغم مواقف المتشددين في إيران وعدم الرضى من قبل بعض الدوائر الغربية والأميركية التي لا تخفي دعمها وانحيازها لإسرائيل... وكان ذلك ولا يزال محل ترحيب ورضى الناس جميعاً، حكاماً ومحكومين. وفي حين كان الجميع ينتظر زيارة الرئيس خاتمي للمملكة العربية السعودية الشقيقة، التي تبذل جهودها الديبلوماسية لتسوية الخلافات، وبعد زيارة اعتبرت ناجحة قام بها السيد هاشمي رفسنجاني، الرئيس الإيراني السابق، إلى السعودية والبحرين السنة الماضية، وكذلك زيارة ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز إلى طهران، اثناء عقد المؤتمر الإسلامي، يفاجأ العالم بالمناورات العسكرية البحرية الإيرانية، وقبلها بتغيير الأوضاع الإدارية والجغرافية في الجزر العربية الإماراتية، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، كما يفاجأ برد وزارة الخارجية الإيرانية في 5/3/1999 على بيان وزراء دول مجلس التعاون الخليجي. أثارت كل هذه التطورات الدهشة والاستغراب ليس لدى المراقبين والمهتمين بتطورات الأوضاع في هذه المنطقة الساخنة فحسب، وإنما أيضاً لدى شعوب المنطقة، وفي مقدمها الشعب الإيراني نفسه الذي بدأ يلمس ثمار العلاقات الودية بين إيران ودول الخليج العربي. إن الرد الفوري على بيان وزارة الخارجية الإيرانية الذي يجب أن يسمعه الحكام في إيران هو: نعم للحوار والتحكيم ولا للقوة واستعراض القوة. فالجزر العربية الإماراتية التي احتلها الشاه بالقوة ليست ملكاً لإيران. وليس هذا المنطق، الذي جاء به البيان، هو اللغة الصحيحة التي تخاطب بها دول المنطقة وشعوبها المسالمة التي عالجت هذه القضية بحكمة وصبر بعدما رضيت باللجوء إلى محكمة العدل الدولية أو التحكيم الدولي، متطلعة إلى أن الحكم سيكون لصالحها، شأنها في ذلك شأن اليمن الذي استعاد، بالتحكيم نفسه، جزر حنيش بعد قبول اريتريا اللجوء إلى التحكيم الدولي أيضاً. وكان ملفتاً أن يحصل هذا التصعيد بعد الانتخابات البلدية في إيران التي فاز بمعظم مقاعدها مؤيدو خط الرئيس خاتمي الذي يسير بقوة نحو ايجاد انفراج داخلي وخارجي، وتسوية ركام من القضايا المعقدة بعد انعزال وتشدد ومحاولة تصدير فاشلة لأفكار الثورة الإسلامية، تعكس الصراع الدائر في إيران وموقف الجانب المتطرف الذي لم يقدم أثناء حكمه غير تدمير امكانات هائلة تملكها إيران وجاراتها العربية وتأخير تطور مستوى المعيشة. يقتضي المنطق أخذ كل هذه الأمور بعين الاعتبار لتجاوز آثار الماضي المدمرة ومحنه القائمة، وفي الوقت نفسه تنبيه المسؤولين في إيران من مغبة اللجوء إلى فرض الأمر الواقع بالقوة، أو استعراض القوة في حل الخلافات الحدودية مع الجيران، وهو الأمر الذي تجنبته إيران مع حركة "طالبان" الأفغانية بعدما قامت هذه الأخيرة بقتل عدد من الديبلوماسيين الإيرانيين في شمال أفغانستان. هذه المواقف المتطرفة تعطي دول المنطقة الحق والمبرر لطلب المساعدة من دول كبرى لديها الامكانات للجم هذه العقلية التوسعية وسلوكها الاستعراضي على حساب شعوب آمنة وواحات مستقرة، هي نماذج للاستقرار والامان والخير والعطاء، قدمت ليس لشعوبها فقط الرخاء، وإنما للدول العربية والإسلامية مساعدات كريمة لا يمكن لأحد انكارها. العقلاء والحريصون لدى الجانبين هم الأقدر على أن لا يدعوا المنطقة تنجر من جديد، وبخاصة إيران، إلى مستنقع الخلافات والعداوات الدائمة والسباق على التسلح... وكل الأصوات المخلصة التي خلقت أجواء التقارب الأخير بين إيران والبلدان العربية، لا سيما الجهود الخيّرة التي قامت بها سورية وتجاوبت معها دول اعلان دمشق، ستظل تصرخ: لا لتدهور العلاقات بين إيران ودول الخليج .... وفي غياب ذلك، تبدو ملامح انتكاسة جديدة للعلاقات الدافئة التي عاشتها المنطقة قرابة عامين تلوح في الافق، وسنشهد مجدداً عودة التوتر إلى ربوع المنطقة الحبلى بالمشاكل والتحديات، ما يؤثر سلباً على شعوب المنطقة ويهدد الأمن والاستقرار فيها، وهو الأمر الذي يتجنبه كل العقلاء والمخلصين من أبناء الخليج والبلدان العربية وأيضاً أبناء إيران الإسلامية الشقيقة. وهذا عكس ما يحاوله بعض الأوساط المتطرفة في إيران، أو الدوائر المستفيدة من إعادة التوتر إلى هذه المنطقة التي هي بحاجة إلى الاستقرار والتنمية ومواجهة التحديات الجديدة، وأهمها انخفاض أسعار النفط التي تواجهه إيران قبل غيرها من الدول النفطية المنتجة. لنا أمل في أن لا نشهد من جديد ما شهدناه في العقدين الأخيرين، من حروب وتوتر أكلت الأخضر واليابس. ولنا أمل في انتصار صوت الحق والعدل والسلام. * عضو مجلس الرئاسة اليمني السابق.