نصحني صاحبي: "دعك من الحداثة والشعرية والبلاغة والبنيوية والتفكيكية، فالأمور غدت كلها "مابعد". الحداثة صارت ما بعد - الحداثة، والبنيوية اصبحت ما بعد - البنيوية، ناهيك عن التفكيكية والماركسية والوجودية". لم أستطع ان أقنع نفسي بكل سهولة بما حملته النصيحة. ولم أتمكن من مقاومة شعور اليأس الذي خالجني، خصوصاً انها باغتتني وأنا أسارع الخطى للحاق بما يظهر انه اصبح في طي الماضي. ولم يكن في امكاني ان أدفع هذا الشعور الا بالاحتماء بسيل من التساؤلات: هل تبقّى مجال لما هو أبعد؟! وهل في الامكان الذهاب أبعد من اعتبار المنهج موضوعاً، والمضمون شكلاً، والمعنى بنية، والمكان زمانا، والأصل فروعا، والوحدة تعددا، والأنا آخر، والهوية اختلافاً والعمق سطحاً، والكائن انفصالاً؟! فربما لم يتبق مجال لتجاوز كل هذا أو الوقوف ضده، لا لأنه بلغ المطلق، او لأنه ينفي الضدية، بل ربما لأنه، على العكس من ذلك، يتخذ الضدّية "مذهباً"، اذ ان ما يميّزه اساساً هو كونه انفصالاً لامتناهياً ونفياً دؤوباً لا يتوخى لحظة تركيب. فربما لأجل هذا لا يمكن الذهاب ابعد منه، لأنه بالضبط يجعل المابعدية صميم حركته. وهو لا يقصرها على معناها الزماني الكرونولوجي. فهو لا يتجاوز ما قبله وانما يخالف ما ليس إياه. ولعل هذا هو ما يقصدونه بعصر النهايات عندما يتحدثون عن نهاية الفلسفة، ونهاية الانسان، ونهاية التاريخ، ونهاية الميتافيزيقا ونهاية الايديولوجيا... فربما ليس المقصود بلوغ نقطة تتوقف عندها كل حركة، وانما بالضبط جعل الحركة خاصية كل نقطة. ان الأمر لم يعد جرياً ولحاقاً بما يستجد من مذاهب و"موضات ثقافية"، وانما غدا جرياً لا يبرح مكانه، جرياً متوقفاً. كان ألكسندر كوييري يتحدث، بشأن ظهور التفكير الحديث، عن الانتقال "من العالم المنغلق الى الكون اللانهائي"، مشيراً الى اقتحام مفهوم اللانهائية مجال الفلك والمعرفة والأخلاق. ولعل الانتقال اليوم من العالم الى البوسْت - عالم Post - Monde هو أساساً نقل مفهوم اللانهائية هذا من مستوى الكل الى مستوى الاجزاء ومن الديمومة الى اللحظة. انه انفجار للكائن وتصدّع للحظة "بحيث لا يغدو الحاضر هو الآن الذي يمر، بل ذاك الذي يمتد بعيداً حتى يبلغ المستقبل الذي يستجيب للماضي". في هذا العالم اذن لا معنى للماقبل والمابعد، اللهم ان اقحمنا البعدية داخل الكائن وغدا العالم ذاته "عالم المابعد". * كاتب مغربي