عندما تقاعد محمود السيد من العمل في إحدى الصحف الرسمية في دمشق لأكثر من عشرين عاماً، منعزلاً في بيته المطل على نهر بردى في مصيف دمر الذي أصبح جزءاً من دمشق بعدما توسعت المدينة شرقاً وغرباً، جلس متأملاً زمناً طويلاً ليكتشف فيه خامة الشعر، وأراد لهذا التوق في عالم الشعر المختلف كلياً عن عالم الصحافة أن يجد متنفساً لهذا الشعر له ولغيره، فأسّس مجلة "ألف" التي أصدر منها أعداداً عدة، ثم انحسر محبطاً بسبب التدخلات في توجهات المجلة التي أرادها محمود السيد للشعر وللشعر فقط، مما زاد في عزلته النفسية، وهروبه من نور النهار إلى سكون الليل. لكن هذا السكون أعطاه أولاً مجموعته الشعرية "مونادا" التي طبعت مرتين، ثم بعد سنوات طويلة قدّم لنا مجموعتيه الشعريتين الجديدتين "تتويج العشب" و"سهر الورد". ولا أقول عن كل منهما مجموعة شعرية، بل كل كتاب قصيدة واحدة، تنهل من النفس والروح تداعيات الشاعر مع الحياة والوجود على نحو من الاستغراق والتأمل، وأحياناً من الحزن واليأس. فالتأمل في فوضى الحياة يقود الشاعر، شاء أو أبى، إلى اليأس وإلى الحزن وإلى استحضار الماضي التراثي الذي يساعد ولو قليلاً على النسيان. في الكتابين إذاً، قصيدة واحدة، تمتد على مسافات الكلام الذي لا ينتهي، خصوصاً وأن الرصيد في ذلك معاناة، بل أكثر من ذلك اختناق الروح في رذاذ الواقع السام. إذا أخذنا شيئاً من "سهر الورد" فنلاحظ كيف يلعب الشاعر باللفظة المرموزة بين الورد وشفافية "السهروردي" الصوفي الشهير، ولذلك يطلق الشاعر على القصيدة عبارة: تجليات السهروردي في الورد والدم، فيتماشى منذ اللحظة الأولى مع جلال الدين الرومي في "المثنوي والديوان": "قد وضع أمامك منذ جئت عالم الوجود سلم الخلاص كنت جماداً، فصرت نباتاً، ثم صرت حيوانا كيف خفي هذا عليك؟ ثم صرت إنساناً، فانظر أي زهرة صار هذا الجسم الترابي وإذا جاوزت الإنسان تصير، ولا ريب، ملكاً جاوز الملكية أيضاً وادخل ذلك البحر، لتصير قطرتك بحراً هو مائة بحر.." إلا أن النفري الذي سمح لنفسه أن يتصدر مدخل القصيدة تراه أكثر توغلاً في الحس الصوفي تجاه الحياة، هذا الشيخ الذي يرى الإنسان بقدرته يدخل من خرم الإبرة، فيقول في المخاطبات: "أوقفني في المدينة، فما رأيت مدينة، ورأيت قبوراً شاهقة. أوقفني في الإنسان، فما رأيت إنسانا ورأيت رؤوساً تنتعلها الأحذية. أوقفني في الأبجدية، فرأيت كل الحروف إلا الألف. يا عبد الحروف كلها مرضى إلا الألف، أما ترى كل حرف مائل. أما ترى الألف قائماً غير مائل، إنما المرض الميل للسقام فلا تمل." الموت هو الحياة وهكذا تخاطب العاشقة حبيبها منذ اللحظة الأولى في النشيد الطويل، وبأسلوب نشيد الأناشيد "أنا سوسنة الأودية"، بينما عند محمود السيد "أنا العاشقة الوردة" فتناديه لتمتلئ بنفسه. وتعطي جسدها للتربة فتنطق الأشجار لغة الثمار. وللصمت عند محمود السيد هذا التأمل الشغيف في اللغة. ليست لغة القواميس، بل لغة المعاناة المختلفة جذرياً، ربما في القاموس كلمة واحدة لمعنى المعاناة، لكن هذه الكلمة تصبح عند الشاعر كلمات وسطوراً بل وكتاباً بعد كتاب: "ما أبلغه الصمت يسهر في العشق، مبتدئاً تلاوة النهار انهر جسدي لئلا يغويك الضجيج" أو: "ونبتدئ اللغة في الصمت نبتدئ الحياة في الموت" إذاً الموت هو الحياة عند الشاعر، ففي سياق القصيدة الحياة هي الحلم الممتلئ بالكوابيس، والعطش، والصحراء، وفراق الأحباب والرمل المعشّش فوق الجرح. ولا شك أن لمحمود السيد المقدرة العجيبة على استيلاد معنى من معنى، يندرج فيوحي لك أنه لا يهدر الكلام على عواهنه، بل يستولد من رحم الكلام ولادة جديدة لكل استرسال فتمتلئ بالغرابة والدهشة. لا يشعر المرء وهو يقرأ أن ثمة تكراراً، مع أن هناك تكرار للكلمات بالفعل، لكن هذا التكرار في كل مرة يعطي إحياء جديداً. فالعبق الذي تزدحم به القصيدة، هو عبق الحب أولاً وأخيراً ف"ليس من يعرف أينا الوردة وأينا العبق"، لذلك يجد الشاعر، وتجد الحبيبة، أن حلم الحياة له نهاية، وهما طيران لا يتسع هذا الكوكب لطيرانهما. والموت هو الذهاب إلى الأبعد، إلى السماوات المتلاحقة بعضها وراء بعض، فالأرض شكل من التراب، والسماء شكل من اليباب: "ألا فلتسمع الشجرة تقول الشجرة: أقف عبر ذاتي، وامتد في فضاء فوق، وفي فضاء تحت. وهذا بشري لا يقف، ولا فضاء له ألا فلتسمع الزهرة تقول الزهرة: أعلن اشتهائي، وأتعرى فرحاً للقاح. وهذا بشري يمارس اشتهاءه بيده". ليس لهذا الكتاب ختام، كأن البقية تأتي، وقد فعل السيد خيراً عندما أنهاه بلمحة عن حياة الشيخ شهاب الدين بن حبش السهروردي وما قال النقاد فيه. تتويج العشب أما قصيدة، او كتاب قصيدة "تتويج العشب" الطويلة، فهي أيضاً لا تخرج في مبناها ومعناها عن قصيدة "سهر الورد" وهي في جزءين إن شئنا الدقة: تتويج العقل، وتتويج العشب، كلاهما نص احتفالي بآلاء الجسد وإشراقاته. كذلك كلام يندرج من روح التصوف قديماً وحديثاً متوجاً بعبارة الشاعر السوري القديم ملاغر: "فإذا كنت سورياً أين هي الغرابة، أيها الغريب؟ إننا نقطن بلداً واحداً هو العالم، وشيء واحد أنبت كل البشر". وتختصر المتصوفة الكرملية تريز كل هذا اللغط بعبارة واحدة: "نحن لا نحب لنمشي بل لنطير". والنشيد هنا، نشيد العاشق لا نشيد العاشقة كما كان في "سهر الورد"، لكن ما يلفت هنا قسوة العبارة في السياق، هل أراد الشاعر ذلك؟ أم أنه أراد الإختلاف والإختلاق بين الرجل والمرأة؟ في الحقيقة استغربت ذلك. كنت أقرأ في "سهر الورد" بسهولة وبانغماس في جنون الحنان الهادر كالبحر، بينما في تتويج العشب وجدت نفسي أقرأ بصعوبة مثل قوله ص65: "آه من نسوة لا تمسّهن شهامة حلم، وفي مخادعهن المسخ المنحني بالأوسمة، ضب فرار يلبس رداء قائد مظفر، خرتيت خزي مزجج بحاميات!.. وفي كل الأمكنة تعتمر الضباع صيغاً بشرية تتموّه بأزياء العصر ولا تحفل إلا بموائد طقسية، تقدم المسالخ فوق مفارشها المخملية، وصحافها الذهبية شواء مشبعاً بتوابل المحنة". في مجمل القصيدة هذه اللغة الصخرية القاسية، التي أراد بها الشاعر أن يعبّر عن حياة لا فائدة منها، حياة لا يجد المرء فيها إلا الموت، وأن كل شيء عابر ما عداه، إنه السرمدي والأبدي الذي يخطف من العيون نورها ومن كل قلب دماه. قصيدة تتقن نزيفها - إن صح التعبير - ويدرك الشاعر أنه يدخل عالم اللغة فيضيع فيه، يحاول الإمساك بالكلمات لعلها تنجده في جودة التعبير، فيفقد فيها الحنان، والشعر في الأصل هو حنان الكلمة وعذوبتها وشفافيتها، من دون ذلك يخرج الشعر من عباءته إلى النثر، إلى الكلام، مجرد الكلام: "هكذا الكلمات التي ليست كلمات. هكذا الشعر. فلتخرج العاشقة بي لفعل شعري عظيم". ويبدو واضحاً تأثر الشاعر بالحضارات القديمة التي عُرفت في سورية الطبيعية، بل اعتمد عليها في تأليف القصيدة ورواية الشعر، لذلك كان من المفيد في نهاية الكتاب أن يقدم لنا إشارات عن هذه التأثيرات تباعاً، مثل كتاب "نسف الأضاليل" أو "معجم الحضارات السامية" أو "العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود" الخ. فبالإشارة إلى بنات عشتار، حيث الشاعر يستوحي قائلاً: "اقتنصني أتحرر، نعم أيها الربان، بيد نقبض على الجمر، تستثير السفن وأيضاً، يستثير البحر متربعاً فوق أرائك محظيات مدهشات يهزهزن أردافهن سخرية من آلهة تخذلها الفراسة. فلا ترى بنات عشتار ملوحات لعصيان يهتك وقار الكهنة ها هن ولا احتشام في عريهن، بل حضور مروّع وفاتن، بل علو يصبو لاحتدام يخرب البراءة .. والنهك، كل النهك لكائنات تتحنط بالدعة والطاعة. وها أنا أيضاً أحرر صراخي من الحياء، جسدي من الوداعة، وأبزغ بالمرأة بي، وحشية تغير ككائن نبيل، محطمة طقوس الموتى. رموز الحجر، وأنظمة الرماد". هذا الثائر لا ينسجم وقصائد عشتار، في تلك الترتيلة البابلية من القرن السادس قبل الميلاد، حيث نقرأ - كما في الشرح - عن سيدة الحب والدافع الجنسي: "موشحة بالحب والمنعة تفيض طاقة وسحراً شفاهها عذبة وفي فمها الحياة" فيا لهذه البساطة في التعبير، لأن الحياة يومذاك لم تكن على هذه الصورة البشعة والرديئة التي نحياها اليوم، وما من شاعر يريد أن يتعاطف مع الحب، إلا وقد وجد نفسه في صراع مع حياة ليست بديلاً لتلك الأيام النقية. لقد كان شاعر تلك الأيام الغابرة اكثر حرية مع نفسه ومع الحياة، وكان يعبّر عن واقعه من دون تعقيد. وشبكات كلمات متقاطعة التي كاد محمود السيد يقع في شباكها.. لكن "سهر الورد" يفغر كثيراً ل"تتويج العشب" حيث في الأول شفافية اللغة، وفي الثاني قسوتها وحجريتها. * صدر الكتابان عن "دار ألف للكتابة الجديدة" - 1998.