أصدر مركز أبحاث أميركي أخيرا دراسة مثيرة للجدل حول، "النفقات الاضافية لانتاج الغازولين في الولاياتالمتحدة". وحسبما استنتجه معدو الدراسة تنفق الحكومة الأميركية مبالغ فلكية في هذا المجال سنويا ، منها: اعفاءات ضريبية لصالح شركات النفط بمبلغ 0.437 بليون دولار، ونفقات ادارية وأبحاث تناهز 1.5 بليون دولار، ومخصصات لحماية المصادر النفطية بمبلغ يراوح من 55 الى 96 بليون دولار. ولم ينشر "المركز العالمي لتحليلات التكنولوجيا" احصاءاته المشار اليها بدافع الدعابة الا أن دراسته بمجملها لم تثر ردود أفعال جدية في أوساط صناعة النفط، ربما بسبب صفتها غير الرسمية واحجامها في الوقت نفسه عن التوصية بتحمل "النفقات الاضافية" محطات الخدمة، ولو فعلت لما كان من السهل التكهن بما سيحدث تحت تأثير الضغوط المحتملة للسيناريو الافتراضي. وأوضح معدو الدراسة أن ترجمة النفقات الاضافية تعني رفع أسعار الغازولين في محطات الخدمة بنسبة 15 ضعفاً، لتصل الى نحو اربعة دولارات لليتر، مقارنة بنحو 0.26 دولار فقط لليتر في الوقت الراهن، ومؤكد أن تطور من هذا النوع لن يسعد الكثيرين، مثل صناعة التكرير والمستهلك الأميركي الذي يقطع بسيارته نحو30 ألف كلم سنويا في المتوسط. هموم جدّية لكن صناعة التكرير الأميركية مشغولة بهموم أكثر جدية من السيناريوهات المفترضة ولا ترى نفسها معنية حتى بتقلبات أسعار النفط، اذ تركز اهتمامها على الخروج من أزمة الربحية التي تعانيها منذ نهاية العقد الفائت ولا تجد وسيلة للتعامل معها سوى البحث عن خيارات بديلة تعوضها عن أساسيات السوق المحلية التي تبدو عاجزة عن تنشيط الطلب على المحروقات، أقله في المدى القريب. وحسب مصادر الصناعة انخفض العائد الاستثماري لشركات التكرير الأميركية في الفترة من 1989 الى 1995 بنسبة 12 في المئة وتراجعت ارباحها في الفترة من 1993 الى 1995 بمعدل دولار ونصف الدولار للبرميل. ويعزا السبب في الحالين الى جملة من العوامل منها اضطرار الشركات الى زيادة الانفاق الرأسمالي منذ صدور "قانون الهواء النظيف" المعدل سنة 1990 وضعف معدلات النمو. ولم تحدث تطورات مثيرة في السنوات اللاحقة فعلى رغم تحقيق أداء جيد في النصف الأول من سنة 1997 الا أن انفجار الأزمة الأسيوية بداية النصف الثاني دفع المصادر المذكورة الى استبعاد حدوث تحسن قوي في الطلب قبل سنة 2002. وفعليا بلغت نسبة النمو العام الفائت نحو 1.5 في المئة ويتوقع ألا تزيد نسبة النمو في العام الجاري عن 2.3 في المئة، أي أقل من النسبة المتوقعة لمجمل الاقتصاد الأميركي. ويعتقد بعض المراقبين أن صناعة التكرير تعتبر أكبر المستفيدين من انخفاض أسعار النفط الخام فيما تصر هذه الصناعة على أن ربحيتها تنحصر في الهامش القائم الفرق بين ما تدفعه ثمنا للنفط الخام حسب الأسعار السائدة وما تجنيه منتجاتها من ايرادات السوق ولكن قبل طرح نفقات التشغيل والمصروفات غير المباشرة، ما يعني أن بند المصروفات وليس تقلبات أسعار النفط الخام هو الذي يمنحها فسحة للمناورة حين تعجز عن تحقيق عوائد مجزية لاستثماراتها الضخمة في منشاءات التكرير ونظم التسويق. وقال مسؤول تنفيذي في احدى الشركات الأميركية الكبيرة ل"الحياة" الاسبوع الفائت: "هناك أمور ليس بوسعنا التأثير في مساراتها مهما فعلنا، وشأنها متروك لأساسيات السوق، لكن بند المصروفات يقدم فسحة للمرونة وممارسة خيارات عدة منها عمليات الدمج كوسيلة لخفض النفقات وتحسين الربحية في المدى البعيد". ولجأت شركات التكرير في الوقت نفسه الى رفع الانتاج في منشاءاتها وبلغ متوسط معدلات التشغيل لمجمل الصناعة الى أعلى مستوياته التاريخية في العام الفائت نحو 96 في المئة واستفاد بعض المنشآت في هذا المجال من ظاهرة اغلاق أعداد كبيرة من المصافي الصغيرة في حركة مستمرة منذ العقد الفائت، بسبب توافر الامكانات الفنية لدى صناعة التكرير على زيادة الانتاج بتكلفة زهيدة. لكن زيادة الانتاج لم تمكن شركات التكرير الأميركية من ضمان تغطية كاملة لسوقها المحلية، مفسحة المجال أمام استمرار تدفق الواردات التي بلغت في العام الفائت نحو 1.8 مليون برميل يوميا، ما يعادل، حسب معطيات ادارة معلومات الطاقة التابعة لوزارة الطاقة الأميركية، نحو 10 في المئة من اجمالي الاستهلاك المحلي من المنتجات النفطية. وحافظت كندا على أكبر حصة في هذا المجال نحو 343 ألف برميل يوميا ما يعادل نحو 19.7 في المئة من اجمالي الواردات الأميركية، لكن نظريا فقط اذ تستورد كندا كميات كبيرة تساوي ما نسبته نحو 42 في المئة من صادراتها، وبشكل خاص من الولاياتالمتحدة التي ترتبط معها بوسائل متنوعة للنقل تجعل عملية تبادل المنتجات النفطية عبر الحدود سهلة وزهيدة التكلفة. وتعود أكبر حصة فعلياً الى فنزويلا التي بلغت صادراتها الى السوق الأميركية العام الفائت نحو 325 ألف برميل يوميا 18.7 في المئة فضلا عن نحو 1.4 مليون برميل يوميا من طاقات التكرير التي تملكها شركة النفط الفنزويلية كلياً أو جزئيا في الولاياتالمتحدة، من خلال شركات فرعية مثل سيدغو ويونو فين ومشاريع أخرى مشتركة مع بعض الشركات الأميركية. ومن بين الدول العربية المنتجة للمحروقات انفردت الجزائر بحصة نسبتها 15.6 في المئة من الواردات الأميركية وبلغ متوسط صادراتها العام الفائت نحو 240 ألف برميل يوميا، وتوقعت مصادر نفطية ازدياد الصادرات الجزائرية في السنوات المقبلة مع استكمال شركة النفط الوطنية بناء مشاريع عدة طموحة في صناعة التكرير. حصة سعودية وبلغت حصة السعودية من الواردات الأميركية في الفترة نفسها نحو 6.4 في المئة بمعدل 112 ألف برميل يوميا، لكن أرامكو السعودية تملك في المقابل حصة نسبتها 32.5 في المئة من شركة موتيفا انتربرايزز وهو مشروع مشترك مع تكساكو وشل وتبلغ طاقته التكريرية زهاء 800 ألف برميل من النفط الخام يوميا، غالبيتها من النفط السعودي. وليست العوائد التي يجنيها الموردون في السوق الأميركية واحدة بسبب عامل تكلفة النقل مقارنة بتكلفة الانتاج التي تختلف اختلافا كبيرا بين دولة وأخرى الا أن المنتجين المحليين والموردين مقيدون بحصة معينة من المبيعات، اذ لا يزيد نصيب الغازولين عن 57 في المئة من ما يدفعه المستهلك في محطات الخدمة، في ما يوزع الباقي بنسب متفاوتة على خزائن الضرائب الفيديرالية والولايتية نسبة إلى الولاية. وتنفرد الولاياتالمتحدة من بين الدول الصناعية بنسبة متدنية من ضرائب المحروقات لكن حصة الحكومة من مبيعات الغازولين فقط بلغت في العام الفائت زهاء 50 بليون دولار، على رغم أن الغازولين لا يشكل سوى 43 في المئة من اجمالي استهلاك المحروقات وتقل ضرائبه بنسبة ستة في المئة عن الضرائب المجباة على مبيعات الديزل، وهو الوقود الاكثر استخداماً للشاحنات الكبيرة. وبالمقارنة تجد محطات الخدمة نفسها الأقل حظا في سلسلة الحلقات الرئيسية لانتاج الغازولين فعلى رغم أن مباني وتجهيزات المحطات تكون مملوكة من قبل شركات التكرير ونظم التسويق التابعة لها الا أنها تدار غالبا بموجب امتيازات تجارية وتجني أرباحها من عمولات تتقاضاها عن المبيعات وتحسب على اساس نسبة معينة من سعر الوحدة وهي الغالون 3.7 ليتر في الولاياتالمتحدة. ظاهرة الانتشار ويتميز سوق تجارة التجزئة في الولاياتالمتحدة بظاهرة الانتشار الكثيف لعلامات تجارية مشهورة لا تتجاوز عدد أصابع اليدين، اذ تمتلك تكساكو، المصنّفة رابعاً في لائحة اكبر، الشركات الناشطة في صناعة التكرير نحو 23 ألف محطة خدمة، ويتبع شركة "موتيفا انتربرايزز" التي تشارك ارامكو السعودية في ملكيتها وتبيع منتجاتها تحت علامتي تكساكو وشل نحو 15 ألف محطة وتمتلك الشركة الفنزويلية عدداً مماثلاً. والملفت أن ظاهرة الانتشار الكثيف تلاحظ على الطرقات السريعة أكثر من المدن، خصوصا الشبكة المركزية للطرق السريعة المسماة ب شبكة "ايزنهاور"، ويرجع السبب الى أن هذه الشبكة التي يبلغ طولها 256 ألف كيلومتر، تحمل 40 في المئة من اجمالي حركة النقل و75% من حركة الشاحنات و90% من الحركة السياحية على رغم أنها تشكل نحو 4% فقط من اجمالي الطرق المعبدة في الولاياتالمتحدة. لكن ظاهرة الانتشار الكثيف، فضلاً عن ظاهرة تجمع عدد يراوح من خمس الى ست محطات مختلفة في مكان واحد، أدت الى قيام منافسة ضارية أبرز مظاهرها الملموسة في المحطات المتجاورة وتتمثل في فروقات في الأسعار تصل نسبتها الى خمسة في المئة وحملات دعاية غير مألوفة مثل لجوء احدى محطات الخدمة في ضواحي دالاس الى تعليق لوحة على واجهتها الزجاجية كتب عليها عبارة، "تدار هذه المحطة برأسمال أميركي". وكانت أطرف ألوان المنافسة التي تواجهها محطات الخدمة في السوق الأميركية من نصيب مغترب عربي يدير محطة تقع في ضواحي مدينة ناشفيل ولاية تينيسي وتبيع المحروقات تحت علامة، احدى شركات التكرير المشهورة، ولأن هذه المحطة تجني، حسبما أكده مديرها، نصف أرباحها من تجارة الغازولين والنصف الآخر من خدمات البقالة فهي تجد نفسها في منافسة شرسة مع محطات الخدمة ومحلات البقالة المجاورة لها في آن واحد.