تعددت الآراء حول تحديد المكان الذي دفن فيه المعبود "أوزيريس" فهناك من رأى أنه لا يخرج عن كونه "أون" عين شمس الحالية شمال شرق القاهرة، وثان رأى أنه "أبيدوس" في صعيد مصر، وثالث قال انه "أبو صير" في قلب الدلتا المصرية. وترجع معظم الآراء اختيار المكانين الاخيرين ليكون احدهما "مقام اوزيريس" وخصوصا "أبيدوس". تعد ابيدوس اهم البقع الدينية في مصر القديمة. فهى المركز الرئيسي لعبادة اوزيريس، سيد الابدية، ورب الموتى، وحاكم العالم الاخر، ورمز الخير والنماء، وأبيدوس هي الاسم اليوناني لتلك المنطقة التي عرفت في اللغة المصرية القديمة ب"آبجو" وفي القبطية ب"إبوت" أو "أبوت" وتقع على الحافة الغربية الملاصقة للصحراء من الاقليم الثامن من أقاليم مصر العليا في مصر القديمة. وتعرف الآن ب"العرابة المدفونة" في مركز البلينا في محافظة سوهاج" وتبعد عن جنوبه الغربي بحوالي 11 كم. وتعود اقدم آثارها الى حضارة "نقادة الأولى" في عصر ما قبل الاسرات المصرية، إذ عثر على بقايا التجمعات السكنية البسيطة التي عاشت في تلك الفترة. واتصلت ابيدوس قديما بنهر النيل عبر قناة مائية صغيرة. وفي عصر بداية الاسرات، اصبحت أبيدوس آهم مكان للدفن في الارض المصرية، لما اقامه ملوك الاسرتين الاولى والثانية منمقابر فيها. واصبح معبد رب جبانتها المعبود المحلي "خنثى إمنتيو" إمام الغربيين: الموتى مركزاً دينياً مهما وفي عصر الاسرتين الخامسة والسادسة، اتحد هذا المعبود مع اوزيريس، وأخذ الأخير كثيراً من صفات الأول حتى طغى على وجوده، وأصبح أوزيريس مقدما عليه وصار اسمه "أوزيريس خنثي إمنتيو". وفي عصر الدولة الوسطى صارت ابيدوس المركز الديني الشعبي والرئيسي في مصر وطغت شهرتها الدينية على ما عداها من المراكز الأخرى، وبدأ ملوكها بناء معابدهم الجنائزية فيها. وتبعهم ملوك الدولة الحديثة في ذلك، في ما امتازت معابدهم بالعظمة والضخامة والروعة، مثل معبدي الملك ستي الأول "وابنه الملك رمسيس الثاني" وغيرهما. وعلى شهرة أبيدوس الدينية العريضة والممتدة عبر عصور التاريخ المصري القديم كافة حتى دخول المسيحية لم تكن في يوم من الأيام عاصمة لمصر او صاحبة أي نفوذ سياسي مفضلة الدور الديني على السياسي في ما يُظن. يعد أوزيريس أهم وأشهر مجمع المعبودات المصرية القديمة. وبدأت عبادته في الظهور في عصر الأسرة الخامسة تحديدا. عندما ورد اسمه في "متون الاهرام" في هرم الملك "ونيس" يكتب أوناس أحياناً آخر ملوك الاسرة وفي مقابر نبلائها واعتبره المصري القديم رباً خالقاً لها القدرة على الابداع والابتكار، ومثّله سيداً للعالم الآخر والموتى والأبدية. ورغم اعتقاد المصري أن كل الارباب عرضة للموت ما عدا اوزيريس، فإنه تعرض لمحاولة غدر وخيانة من قبل أخيه الشرير "ست" الذي قتله ووزع اجزاء جسده عبر الارض المصرية، ونجحت اختاه "إيزيس" و"نفتيس" في تجمعها واعادته للحياة مرة اخرى وفقا للاسطورة الاوزيرية. ويصعب تحديد أول أماكن عبادته وتجيء "أون" في البداية، إذ جُمع "متون الاهرام" مع "إيزيس" و"ست" و"نفتيس" كواحد من أبناء رب الارض "جب" وربة السماء "نوت" وكواحد من "تاسوع أون" المقدس. وأبوصير وأبيدوس هما أهم مكانين ارتبط بهما. ففي "أبوصير" إتحد مع ربها القديم "عنجتي" وأخذ كثيرا من صفاته. بينما في أبيدوس اتحد مع معبودها "حنتي إمنتيو" ومع الملوك الموتى، وصار حاكما لعالم الموتى وسيدا للغرب وإماما للغربيين. وصُور في هيئة آدمية بشعر مستعار ولحية مقدسين. وأخذ أيضا شكل المومياء ذات الأرجل المتصلة الملتصقة إشارة الى طبيعته الجنائزية وارتباطه بعالم الموتى. وفي الدولة الوسطى، ارتدى التاج الابيض دلالة على أصله الصعيدي. وارتدى تاج "الآتف" كذلك. وارتبط بالزراعة والبعث والاخضرار والنماء والخصوبة. وكان صاحب الدور الاعظم في محكمة الموتى في عالم الآخرة حيث يثاب المرء أو يعاقب وارتبطت به آلهة مصرية مهمة عدة. اعتقد علماء المصريات أن مدفن اوزيريس إما ان يكون في واحد من مكانين أبوصير أو أبيدوس. أو على الأقل يحويان اهم اجزاء جسده. ويُعتقد ان أبيدوس تحوي رأس أوزيريس وفيها مكانان مناسبان ليكون احدهما مدفن اوزيريس، الأول هو "الأوزيريون" الذي بناه الملك "سيتي الاول" 1294 - 1279 ق.م من الأسرة التاسعة عشرة في الدولة الحديثة والثاني هو مقبرة الملك "جر" ثاني ملوك الاسرة الأولى 3000 - 2980 ق.م. تمتد جبانة ابيدوس خلف قرية العرابة المدفونة من ناحية الصحراء. وقسمت الى قسمين، القسم الشمالي الغربي وعرّفه الفرنسي "أوغست مارييت" ب"الجبانة الشمالية" فيما عرّف الجزء الجنوبي الشرقي ب"الجبانة الوسطى". وعلى بُعد 7.1 كم من الحافة الزراعية، تقع جبانة "أم الجعاب" في قلب الصحراء وعرفت بهذا الاسم نتيجة لوجود كميات هائلة من الفخار وكسراته فيها. وكانت تعرف قديما ب "تا دِ شرت" الارض الحمراء وتختصر الى "الحمراء" وتحوي آثاراً من فترات تاريخية عدة وبنى فيها ملوك الاسرتين الاولى والثانية مقابرهم. وأصبحت مكانا للحج وتقديم القرابين ونذر النذور على اعتبار احدى مقابرها هي مقبرة اوزيريس، وتحديدا مقبرة الملك "جر". وتمتلئ أم الجعاب بكسرات الفخار بكثرة، وبخاصة فوق مقبرة الملك "جر" ومن فوقها بدأ الفرنسي إميل أملينو موسم حفائرة الأولى لإعادة اكتشاف "الاوزيريون" العام 1898م. ولفت نظره كثرة الفخار المنقوش باسم اوزيريس فوق مقبرة هذا الملك، وعثر اثناء حفائره على تمثال صغير لأوزيريس مما أكد صدق ظنه بأن مقبرة "جر" هي مقبرة اوزيريس. وبعد اربعة ايام من ابتداء الحفائر، ظهرت جدران حجرات تشكل مقبرة تشبه جميع مقابر المنطقة. وكانت مكونة من عدد من الحجرات. وكانت حجرة الدفن مربعة الشكل تقريبا، وذات مقصورة خشبية مركزية، ومحاطة من ثلاث جهات بمخازن من الطوب اللبن واحتوى بعضها على بقايا الاثاث الجنائزية مثل جرار التخزين الضخمة وكان البعض الآخر فارغا من أي شيء أو يحوي لوحات أثرية صغيرة. وربما فرشت ارضية تلك الحجرة الخشبية الرئيسية بالخشب وعانت المقبرة ككل من فعل النيران، وكان هذا الحريق في ما بين الأسرة الثانية وبداية عصر الدولة الوسطى. وأثناء قيام رجال أملينو بتنظيف الجزء الغربي من المقبرة، عثروا على تمثال كبير من البازلت الاسود يمثل أوزيريس راقداً على جانبه الأيسر على نعشه أو سريره وشكل جانبا السرير على شكل أسدين. وكانت الصقور تحرس كل جانب من جوانب السرير. تهيمن حدأة تمثل "إيزيس" فوق الأسدين حتى تشبع نفسها وتحمل بالطفل الصغير "حورس" من ابيه "أوزيريس" الراقد في منتصف السرير. وفي إحدى الحجرات على الجانب الشرقي من المقبرة، عثر "أملينو" على جمجمة، نسبها إلى أوزيريس بناء على النذور التي وجدها على سطح المقبرة من لوحات وغيرها. واعتقد ان مدخل المقبرة الذي كان على شكل سلم يوصل الى حجرة الدفن يمثل المرقى الى المعبود العظيم كما ذكرت النصوص عن أوزيريس. ورغم ان نتيجة فحص الجمجمة أثبتت انها صغيرة وربما كانت لامرأة، عارض "أملينو" هذا الرأي وقال ان اوزيريس ربما كان صغير الرأس بناء على ظهوره في تماثيله وادعى أيضاً أن المقبرة كانت المستقر الأخير لكل من المعبودين "حورس" وعمه "ست" ابن اوزيريس وأخيه العدو اللدود!! وابتداءً من العام 1899م، بدأ أبو علم المصريات الحديث الاثري الانكليزي الشهير السير وليم فلندرز بتري، حفائره في ابيدوس التي اثبتت ان ما اعتقده إملينو مقبرة اوزيريس ليس إلا مقبرة الملك "جر" ثاني ملوك الاسرة الأولى. وأبانت حفائر بتري في الموسم التالي العام 1900 - 1901م أن مقبرة "جر" عُدلت في تاريخ متأخر لتكون مقبرة اوزيريس وحتى يكون بها سرير أوزيريس المنحوت والمقام فيها والذي عثر عليه "إملينو" وان السلم المؤدي الى مدخل حجرة الفن اضيق لكي يكون مناسبا لزيارة حجاج أبيدوس. الحج الى أبيدوس بداية من منتصف الاسرة الثانية عشرة على الأقل، بدأ الحجاج يتوافدون على ابيدوس من جميع انحاء مصر ليشهدوا الاحتفال السنوي الكبير بمعبودهم الاكبر اوزيريس. ومن لوحة الموظف عظيم الشأن "إخر نفرت" من عهد الملك "سنوسرت الثالث" 1874 - 1855 ق.م والمحفوظة في متحف برلين نعرف ماذا كان يحدث في هذا الاحتفال المهيب. يقول "إخر نفرت": "فعلت كل شيء طلبه جلالته، ونفذت أمر سيدي من أجل أبيه، أوزيريس - خنتي إمنتيو" سيد أبيدوس، عظيم القوة، الموجود في إقليم شني. وكنت الكبش المحبوب من أبيه "أوزيريس خنتي إمنتيو". وزينت مركبة الخالد العظيم، وصنعت له مقصورة تُظهر وتُشرق بحسن وبهاء "خنتي إمنتيو" من الذهب والفضة واللازورد والبرونز وخشب السِدر. وصاحبت الآلهة في رحلته. وصنعت مقاصيرهم المقدسة من جديد. وجعلت الكهنة يمارسون واجباتهم بحب، وأن يعرفوا طقوس كل اليوم: عيد رأس السنة، وسيطرت على العمل فوق المركب، وزينت المقصورة وصور سيد أبيدوس باللازورد والفيروز، والشفاه الإلهية بكل حجر كريم. وغيرت ملابس الإله في حضوره، كسيد للأسرار وكاهن أعظم. ونظفت ذراعه وأصابعه. ونظمت خروج الإله "وبواووت"، فاتح الطرق العظيم، عندما قرر الانتقام لأبيه، وطردت المتمردين من المركب، وهزمت أعداء أوزيريس، واحتفلت بهذا الخروج العظيم. وتبعت الإله عند ذهابه، وجعلت المركب يبحر، وأدار الدفة الإله حجوتي سيد الحكمة، وأمددت المركب بمقصورة وبالزينات الجميلة الخاصة بأوزيريس عندما تقدم الى منطقة "باقر" في أبيدوس. وأرشدت الإله للطرق التي تقوده الى مقبرته قبل "باقر". وانتقمت ل "ون نفر" أوزيريس في هذا اليوم ذي القتال العظيم، فطردت كل أعدائه من على الشاطئين: وجعلته يتقدم في مركبه العظيم. وأخرجت الى الناس جماله، وجعلت أصحاب المقابر في الصحراء الشرقية سعداء. وشاهدوا جمال المركب وهو يتوقف بأبيدوس، عندما أحضرت "أوزيريس خنتي إمنتيو" الى قصره، وتبعت الإله الى بيته، وقمت بتطهيره وأوسعت له مقعده وحللت له كل مشكلات إقامته بين حاشيته المقدسة. حُدد مكان مقبرة أوزيريس ب"باقر" الذي يبدو واضحاً أنه جبانة أم الجعاب ليس إلا، وفي وقت ما من الدولة الوسطى، اكتشفت هذه المنطقة وأشير الى إحدى المقابر الملكية القديمة على أنها مقبرة أوزيريس. لكن هذا الاقتراح لم يجد ما يدعمه من الصحة، والأكثر منطقية أن نقول إن جبانة أم الجعاب تمثل جبانة ملوك مصر الأوائل، ومن ثم لا بد أن يكون أوزيريس مدفوناً فيها. والذي جعل من مقبرة الملك "جر" مقبرة لأوزيريس، هو وجودها في مقدم الجبانة، وهذا أنسب للحجيج متى يمارسون طقوس وشعائر احتفالهم السنوي الكبير بمعبودهم الأهم أوزيريس. ومع نهاية الأسرة الثانية عشرة وبداية الثالثة عشرة، زادت مساحة الجبانة بشكل كبير وامتدت حوالي 5،1 كم الى الجنوب الغربي من قرية "كوم السلطان" الحالية، واصبحت أبيدوس المركز الرئيسي لعبادة أوزيريس. وأخذت عملية الحج أثناء الحياة والموت تزداد بكثرة. ورغب كثير من المصريين أن يُدفنوا في أبيدوس، في رحاب معبودهم الأكبر أوزيريس، سيد الأبدية والعالم الآخر، حتى ينعموا برفقته في عالم الآخرة ويفوزوا بالرحمة والنجاة. وكانوا يتركون أشياءهم التذكارية، قفي هذا المكان المقدس في ما بين معبد أوزيريس ومقبرته. وهكذا تطور مقام أوزيريس من مكان بسيط لا يحوي الإ عدداً قليلاً من اللوحات النذرية البسيطة، الى مزار رمزي كبير لا ينقصه سوى وجود المومياء. ونصبت الآثار واللوحات النثرية حول ضريح الإله تعبيراً عن ولاء المصريين لمعبودهم الأرحم أوزيريس، وذلك أثناء زيارتهم السنوية لأبيدوس ليشهدوا أو يشاركوا في الاحتفال العظيم ببعث وقيام ربهم أوزيريس الخيّر. الأوزيريون اصطلاح أطلقه الإغريق على المقاصير الخاصة بأوزيريس ويعني "قصر أو ضريح أوزيريس". وكان "بتري" أول من أطلقه من علماء المصريات على المبنى الموجود خلف المعبد الجنائزي الخاص بالملك "سيتي الأول" من الناحية الغربية في أبيدوس. واكتشف في شتاء العام 1901 - 1902، واكتمل تنظيفه العام 1926. ويقع على محور معبد الملك سيتي الأول نفسه وله التخطيط والنقوش نفسها. ويشبه مقبرة ملكية، ومدخله ممر طويل منحدر، والحجرة الرئيسية به هي قاعة كبيرة تشبه الجزيرة، تحيط بها المياه من كل جانب، وفي قلبها يقع التل الأزلي الرامز الى إعادة بعث وقيام أوزيريس. وربما دُفن أوزيريس في هذا المكان. وسُقفت هذه الحجرة بعدد من الأعمدة الجرانيتية الضخمة، فيما بقي وسط سقفها مفتوحاً. وحُمل السقف على أعمدة جرانيتية مربعة تماثل أعمدة معبد الوادي للملك "خفرع" بالجيزة ما جعل البعض يرجع بالأصول الأولى للمعبد الى الأسرة الرابعة. وكانت المقبرة مغطاة في السابق بتل أرضي محاط بأشجار على مسافات منتظمة. وتمثل هذه المياه، المياه الأزلية وإعادة عملية الخلق من العدم، والمحيط الأزلي المعروف ب "نون" العظيم. وهناك حجرة أخرى لها سقف منحدر مزين بنقوش فلكية، وهي تشبه تابوتاً حجرياً. والنقوش غير مكتملة، وتغطي سطوح الممرات الداخلية فصول من كتاب "ما هو موجود في العالم الآخر" و"كتاب البوابات" من كتب العالم الآخر بالإضافة إلى بعض المناظر التي تمثل "سيتي الأول" و"مرنبتاح" يتعبدان الى أوزيريس، فيما تغطي أسطح الأجزاء الخارجية فصول من "كتاب الموتى". ويمثل هذا المبنى في عمومه ضريحاً رمزياً تجري فيه دفنة رمزية تجمع بين الملك المتوفي وسيد العالم الآخر أوزيريس. وتاريخ المبنى مختلط ويعود الى عهد الملك "سيتي الأول". وأكمل نقوشه حفيده الملك "مرنبتاح" ابن الفرعون "رمسيس الثاني" العظيم. واستمرت زيارة هذا "الأوزيريون" حتى نهاية القرن الثالث الميلادي كما ذكر المؤرخ الروماني الشهير "استرابون". والشيء الغريب حقاً هو ما اكتشف أخيراً في هضبة الجيزة، بالقرب من الطريق الصاعد الخاص بهرم الملك "خفرع" من ملوك الأسرة الرابعة حيث عثر على بئر عميقة، عبارة عن ثلاثة مستويات، المستوى الأول والثاني، عبارة عن فجوات في الجدار، فيها تابوت مكسور، أو غطاء تابوت، ولكن الشيء المهم هو المستوى الأول أو الأخير. حيث توجد مياه، ربما تشير الى المياه الأزلية، تحيط بتابوت يثوي في مربع حجري، ويحمل سقف هذه الحجرة أربعة أعمدة حجرية ضخمة، فهل دُفن أوزيريس في الجيزة وأن "الأوزيريون" مقام أوزيريس، في الجيزة، أم أن هذا مقام من مقاماته العديدة. * باحث مصري.