الدكتورة كريستيانا كولر من أبرز علماء المصريات في استراليا. حصلت على درجة الدكتوراه في الآثار المصرية القديمة من جامعة هيدلبرغ الالمانية العام 1993، ثم على منحة من جامعة بنسلفانيا الاميركية لمدة عامين في ما بين 93 - 1995. وابتداءً من العام 1996، تدرّس الآثار المصرية في جامعة ماكوري في سيدني، وأسست فيها قسم دراسة عصور ما قبل التاريخ وبداية الاسرات المصرية القديمة، ومنذ العام 1988، تُجري كولر الحفائر في مصر، ففي البداية عملت في حفائر بوتو القديمة تل الفراعين غرب دلتا النيل لسبع سنوات. وفي العام 1991، اشتركت في حفائر البعثة الاميركية في منطقة ابيدوس في صعيد مصر، ثم عملت مساعدة لرئيس البعثة الالمانية في المنطقة نفسها، الدكتور غونتردارير، حيث قامت باكتشافات اثرية مهمة. وقامت بحفائر اخرى خارج مصر، في تركياواستراليا والمانيا، في تخصصها الدقيق: عصور ما قبل التاريخ. ومنذ العام 1997، ترأس كولر البعثة الاسترالية التابعة لجامعة ماكوري العاملة في منطقة "عزبة الوالدة" في ضاحية حلوان جنوبالقاهرة.. "الحياة" التقت كريستيانا كولر في مقر إقامتها في القاهرة، وكان معها هذا الحوار: لماذا اخترت حلوان لإجراء حفائرك في هذه الفترة تحديداً؟ - حلوان من اهم المواقع الأثرية في مصر، وأنا زرتها للمرة الاولى العام 1995، فلاحظت ان هناك ثراءً في المادة الاثرية الموجودة فيها والتي لم تفحص بدقة، كما لاحظت محاصرة المساكن العشوائية لها من كل الجهات بشكل مفزع، فقلقت على الموقع، وتذكرت الصور التي نشرها المرحوم زكي سعد عن حفائره فيه، لم يكن هناك في ذلك الوقت شيء يحيط به سوى الصحراء فقط. كما انني خلال دراستي لفترة عصر الاسرتين الاولى والثانية، وجدت ان تقارير حفائر حلوان غير كافية، لذلك كله قررت حفر هذه المنطقة مرة ثانية، وتنبغي الاشارة هنا الى ان الدكتور زكي سعد رحل قبل إتمام نشر نتائج حفائره. اما عن اهمية حلوان الحضارية، فهي في موقع متوسط بين الشمال والجنوب، كفل لها حرية الاتصال بينها وبين كل ارجاء مصر من ناحية، وبينها وبين جيران مصر الأقرباء مثل سوريا ولبنان وفلسطين من ناحية، وكانت مركزاً للاستيراد والتصدير مع هذه البلدان المجاورة لمصر، وقامت بالدور نفسه مع ابيدوس والنوبة في الجنوب، وفي حلوان يمكن ملاحظة كل التأثيرات الوافدة والمحلية، علاوة على انها درست جيدا في فترات سابقة ولاحقة، لكنها في فترة العصر العتيق تحديداً، لم تدرس جيداً، لذا كان التركيز على هذه الحقبة دون غيرها. المعروف ان زكي سعد حفرها قبلك.. فما تقويمك لحفائره؟ - بداية، علمتني فترة حفائر ابيدوس، التي حفرها كل من املينو وبتري وبيت، ثم المعهد الالماني للآثار بعد ذلك، انه من الممكن ان تخرج بأشياء جديدة من مواقع كنت تعتقد انها قتلت بحثاً وحفراً، لذلك قررت إجراء حفائري في حلوان لمرور حوالي نصف قرن على الحفائر القديمة التي قام بها سعد، وشجعني على ذلك تقدم تقنيات البحث الاثري في الفترة الأخيرة، ويعاونني فريق عمل من جنسيات وتخصصات مختلفة، يستغرق عملنا حوالي عشر سنين، وأظن انها غير كافية. وماأهمية هذا الموقع في رأيك؟ - من ناحية المساحة، يعتبر اكبر المواقع الاثرية في مصر، إذ يحوي أكثر من عشرة آلاف مقبرة، وهذا رقم مذهل قياساً على كل المواقع المصرية الأخرى. ويشير هذا الرقم الكبير الى ان الناس المدفونين في مقابر هذا الموقع، جاؤوا من مجتمعات عمرانية قديمة مثل مدينة "منف" المجاورة، فهم من سكانها في عصر الاسرتين الاولى والثانية، وعن طريقهم نستطيع ان نفهم بداية تكوين الدولة والتاريخ، وكيف نشأت الامة المصرية بهذا التناغم في ما بين البحر المتوسط شمالاً وحتى اسوانجنوباً، فهذا مهم جدا لفهم التطور العقائدي والجنائزي والاقتصادي والاجتماعي لدى هؤلاء البشر. وماذا عن اهمية الجبانة ذاتها؟ - لهذه الجبانة مميزات عديدة، لعل اهمها البناء بالحجر على نطاق واسع لدى الافراد العاديين، وهذا لم يكن معروفا لدينا، فكان اعتقادنا دائما ان البناء بالحجر في هذا العصر مقصور على الملوك فقط، وكان اول بناء حجري على نطاق واسع هو مجموعة الملك "زوسر" الهرمية في سقارة، ثم كان من بعدها هرم "ميدوم" وهرما دهشور، حتى وصلنا الى اهرامات الجيزة، الآن نستطيع ان نقول انه قبل بناء اهرامات الجيرة بحوالي ثلاثمائة عام، وجدت في حلوان مقابر مبنية بالحجر الجيري المجلوب من المحاجر، ويصل وزن بعض كتله الى اكثر من طنين احيانا، وأن اصحاب هذه المقابر مهما كانوا من الاغنياء، فإنهم لم يكونوا ملوكاً على الاطلاق، وكلفهم بناء بهذا الشكل تكاليف كثيرة من قطع احجار، وحملها الى الموقع واجور مهندسين وعمال...، وعندما نعرف ان لدينا سبعين مقبرة من الاسرة الاولى وحدها مبنية من الحجر الجيري، الذي يصل وزن بعض كتله طناً او اكثر قليلاً، فهذا شيء مدهش للغاية وغيّر كثيرا من مفاهيمنا عن مصر القديمة وعن عمارة المقابر الحجرية تحديداً. وما نتائج اكتشافك الأخير وأهميته؟ - بدأنا في العام 1997 اختبار الموقع وحفائره السابقة، وبدأنا حفائرنا، فاكتشفنا مقبرتين مميزتين معمارياً، الاولى على هيئة مصطبة مثل مصاطب سقارة في العصر العتيق وترجع الى نهاية عصر الاسرة الثانية حوالي 2800 ق.م وطولها حوالي 22 متراً وعرضها 12 متراً، وتتكون من جزءين، البناء العلوي ومبنى الطوب اللَبِن، وعبارة عن حجرات متعددة مختلفة المساحات، والبناء السفلي، ويحوي حجرة دفن وعدداً من المخازن حولها، وعثرنا على عدد كبير من الفخار ساعدنا في تحديد تاريخ القربة بدقة. اما المقبرة الثانية فهي على هيئة بئر عميقة، وترجع الى بداية عصر الاسرة الثالثة، وعثرنا فيها علي بقايا هيكل عظمي تم تسجيله ودرسه دراسة تحليلية ودفنه ثانية. والشيء المحير في هذه الجبانة هو ذلك التنوع الفريد في انماط المقابر المعمارية، مثل المقابر التي على هيئة حفرة مفتوحة مع وجود حجرة دفن في الصخر اسفل هذه الفتحة مباشرة، والمقابر في عمومها صخرية، وأشهرها ذلك النوع المعروف بالمصطبة والذي ساد في سقارة، الجبانة المجاورة، في العصر العتيق، وخير مثال عليه المقبرة الاولى المكتشفة اخيرا، وتختلف عن مقابر سقارة في ان جزءه السفلي منقور في الصخر وليس في تربة رملية. ويُظهر هذا الاكتشاف التشابه والاختلاف مع مقابر الجبانة الملكية في سقارة، ويوضح ما يميز جبانة حلوان عن جبانة سقارة التي كانت مقصورة على طبقة واحدة فقط، وان جبانة حلوان كانت لدفن كل الطبقات وليس لطبقة واحدة فقط. وكيف نفهم تطور المجتمع في مثل هذا الموقع؟ - أعتقد أن هذا يتضح في حلوان اكثر من غيرها من المواقع الاخرى، فعند النظر الى سقارة على سبيل المثال نجد ان بها مصاطب العائلة المالكة والنبلاء وكبار رجال الدولة فقط، اما في حلوان تستطيع ان ترى تراتباً اجتماعياً متناغماً، فتوجد مقابر لكل الطبقات: الطبقة العليا والوسطى والفقيرة، هنا في حلوان المجتمع ممثل بشكل جيد وعادل، ويُظهر هذا تنظيم المجتمع في ذلك التاريخ الباكر، على نحو رائع التنسيق والتوافق. ألم تفكرين في البحث عن التجمعات السكنية الخاصة بهذا الموقع؟ - انني ألوم نفسي، لعدم بحثي عن التجمعات السكنية لهذا الموقع، لكن حسبي قيام عضو البعثة الانكليزية "إين كيسي" بهذا الأمر مساعدة لنا ضمن مشروع انكليزي لفحص المنطقة حول مدينة منف القديمة بتمويل من "جمعية استكشاف مصر" البريطانية الشهيرة، وأتمنى ان يعثر على المساكن التي كان يعيش فيها هؤلاء الأقوام قريبا. وماذا عن تراث زكي سعد الموجود في المتحف المصري في القاهرة؟ - كل ما تركه زكي سعد موجود في الطابق الارضي للمتحف المصري، في حوالي 157 صندوقاً من أحجام مختلفة، ويصل عدد القطع الاثرية داخل هذه الصناديق الى حوالي ثمانية آلاف قطعة متنوعة. وابتداء من العام 1997، وبعد نهاية الحفائر، نذهب الى المتحف للعمل في هذه الآثار لمدة شهر، فنقوم بتسجيل كل قطعة ورسمها ووصفها وتحليلها وتصويرها بالابيض والاسود والألوان ومن كل الزوايا وفقاً لأحدث تقنيات التسجيل والتصوير، خصوصاً ان كتالوج زكي سعد لم تُنشر به اغلب القطع، وهناك ثلاث لوحات لم تنشر من ضمن خمس عشرة لوحة منشورة، وقطع اخرى غير معروفة للعالم، ولم يسمع بها احد، وتمثل هذه اللوحات النماذج المبكرة للتقدمات الجنائزية، حيث يظهر صاحب المقبرة جالساً الى مائدة القرابين المليئة بالخيرات المتنوعة، وكان اصحاب هذه اللوحات من ابناء وبنات الملوك الثانونيين المسؤولين عن مصر السفلى، والكهنة، وتضيف هذه اللوحات الكثير الى معلوماتنا عن حياتهم ومعتقداتهم عن عالم الآخرة، فهي مفيدة جدا لفهم تطور الافكار الدينية والجنائزية منذ بدايتها. وما المخاطر التي تهدد حلوان كموقع اثري مهم في رأيك؟ - أولا الزحف العمراني المدمر للموقع، ويعد، في رأي، المشكلة الكبرى التي لا نستطيع السيطرة عليها، فقد بنيت المنازل من آثار الموقع وفوقه مباشرة، وحلوان في منطقة منخفضة والقرى تحيط بها من كل ناحية، وأتمنى من المجلس الاعلى المصري للآثار حلها بالتعاون معنا. وهناك قضية اخرى مقلقة، فحلوان اكبر مناطق العالم من حيث التلوث البيئي، والاثر مثله مثل الانسان، يعاني من التلوث. واتمنى ان تساعدنا وزارة شؤون البيئة في جعل حلوان محمية طبيعية.