صدر كتاب اميركي جديد ومهم للصحافي البارز ويليام غريدر يحمل عنوان "اميركا الحصن: المؤسسة العسكرية الاميركية ونتائج السلام". وتقوم فرضية غريدر على ان خوف اميركا من الاتحاد السوفياتي طوال ما يقرب من نصف قرن دفع المؤسسة العسكرية الاميركية الى بناء آلة عسكرية تمتاز بتنامي قدرتها التدميرية وكلفتها الباهظة. وعلى امتداد معظم النصف الثاني لهذا القرن ابتلعت الموازنة المخصصة للبنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية الاميركية "سي آي أي" حوالي نصف الموازنة الفيديرالية للولايات المتحدة التي تحكّمت بها عملية التخصيصات المالية السنوية. وساير الكونغرس هذه الوجهة عن طيب خاطر، وكان يلح في أحيان كثيرة على زيادة الانفاق العسكري بمستوى يفوق ما كانت هيئة الاركان المشتركة تراه ضرورياً. وبدا ان القاعدة السائدة هي ان لا حدود على الانفاق طالما كان الطلب يحمل علامة "الدفاع". شكّلت موسكو، بمعنى ما، حافزاً لتضخم موازنة الدفاع الاميركية. وبدا ان مخططينا العسكريين يسعون الى انقاذنا من حرب مع الاتحاد السوفياتي او، في حال نشوب حرب، ضمان ان نكون مستعدين لتحقيق الغلبة. ومع انهيار جدار برلين في 1989 وتفكك الاتحاد السوفياتي بعد ذلك بسنتين تلاشى فجأة الستار الحديدي. لم يعد هناك اتحاد سوفياتي، واختفى ذلك الوحش المفترض. ومنذ ذلك الحين، انهارت الى حد كبير القوة الاقتصادية والعسكرية للاتحاد السوفياتي السابق باستثناء بقاء جزء من القوة الصاروخية الهرمة لدى روسيا. اما القوة الشيوعية الرئيسية الاخرى، الصين، فإنها شهدت تحولات لدرجة اصبحت معها شريكنا التجاري الذي يتمتع بمكانة "الدولة الاكثر رعاية". هكذا، لم تعد البنية العسكرية الاميركية الضخمة التي اُنشئت لمواجهة الخطر العسكري الصيني - السوفياتي تواجه أي عدو جدي محتمل. ومع ذلك، لا يزال الانفاق العسكري الاميركي، رغم انه خُفض بشكل بسيط، لا يقل كثيراً عن مستواه في عهد الحرب الباردة. لكن يبدو ان هذا وضع موقت سيتم تصحيحه إن عاجلاً أو آجلاً تحت تأثير حقائق مرحلة ما بعد الحرب الباردة. يجادل غريدر بأن البنتاغون لا يدرك حسب ما يبدو، حتى الآن، ان انتهاء الحرب الباردة يقتضي انشاء بنية دفاعية جديدة انطلاقاً من تراجع التهديدات وخفض الموازنات. وبدلاً من خفض الانفاق وترشيق المؤسسة العسكرية وتحديثها يواصل البنتاغون نهجه القديم، ولكن مع وجود خطر واضح يكمن في دفع اقسام مختلفة من المؤسسة الدفاعية الى خوض صراع يتغذى فيه احدهم على الاخر. كما ان قادة المؤسسة العسكرية يسمحون، بل يشجعون، نشوء تناقضات في السياسة والممارسة من شأنها ان تضعف أمن اميركا بشكل عام. يقول غريدر ان "المجمع العسكري - الصناعي يفترس نفسه ... لايمكن للبنية المتشابكة المرعبة التي تضم القوات المسلحة والمصالح الصناعية والتحالفات السياسية، والتي امتدت لتشمل كل جوانب الحياة العامة في اميركا على مدى جيلين، ان تصمد طويلاً ...". ويتكهن غريدر انه رغم غياب العدو الذي كان مبرراً لهذا كله في السابق، فإن "المؤسسة العسكرية والصناعة لا تزالان موحّدتين في رغبتهما في ابتكار وانتاج انواع جديدة من انظمة السلاح المتطورة التي ستضمن التفوق على كم اكبر من الاسلحة الاقل تطوراً التي ينشرها مجتمع صناعي اقل تطوراً. هذا السعي المكلف يستمر حالياً، لكن من دون وجود عدو سوفياتي لتبريره. بل يبدو ان أنظمة السلاح الجديدة الذكية التي تنتجها الولاياتالمتحدة تشكل فعلاً الخطر الاكبر على انظمة السلاح الذكية بالفعل الموجودة في الترسانة الاميركية لأن هذه الاسلحة بالذات لا نظير لها في العالم". ماذا يعني ذلك؟ انه يعني جزئياً ان سقف الموازنة الجديدة لن يسمح للبنتاغون بأن يديم المستوى الحالي لقواته وقواعده واسلحته في الوقت الذي يزيد فيه الانفاق لانتاج اسلحة جديدة اكثر تعقيداً وكلفة. على سبيل المثال، لا يمكن إدامة الطائرات المقاتلة المتطورة كما ينبغي اذا خُصّصت اجزاء متزايدة من موازنة الدفاع لقوى جديدة كوسيلة لإدامة المصانع الحربية وتلبية سعي العسكريين المعتاد للحصول على اسلحة أحدث واكثر تدميراً. وحسب تعبير غريدر "لم تستوعب اميركا بعد نتائج انتصارها في الحرب الباردة. فالآن وقد انتهت هذه الحرب، بدأنا لتوّنا نقدّر تأثيرها العميق على تنظيم حياتنا العامة بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى على الطريقة التي نفكّر بها بأنفسنا كأمة. فقد مثّلت الهدف المركزي للبلاد والشرط الاساسي الذي يتقدّم على كل القضايا. واعطتنا نوعاً من الاحساس بتفوقنا الاخلاقي كقوى فاعلة في العالم تسعى لتحقيق مبادىء كبرى بالنيابة عن آخرين بالاضافة الى ضمان أمننا القومي. كما زودتنا احداث الحرب الباردة احساساً بالاثارة والمغامرة - اشبه برواية مثيرة حول رجال طيبين يكافحون ضد رجال اشرار على جبهات كثيرة. ولم تتخلل فكرة الرواية حياتنا السياسية فحسب بل ثقافتنا الشعبية ايضاً". وفي محاولة لاستبدال الحرب الباردة بمنافذ جديدة لمنتجاتنا العسكرية، تحرك البنتاغون بنشاط لبيع الاسلحة الاميركية خارج البلاد. وتدرك المؤسسة العسكرية انه اذا تراكمت لدينا اسلحة اكثر مما يجب، سيكون من الصعب ان تبرر انتاج المزيد والمزيد من الاسلحة الجديد، لذا فإنها تبحث بحماس عن اسواق تفرّغ فيها ترسانة اسلحتنا الحالية. هذه احدى التناقضات التي يلاحظها غريدر. باختصار، عندما نجهّز بلداناً اخرى في العالم الثالث باسلحة متطورة فإننا نخلق تهديدات محتملة على أمننا في المستقبل. كان ينبغي ان نتعلم هذا الدرس انطلاقاً من تجربتنا مع ايران. فقد بعنا لايران ما قيمته اكثر من 30 بليون دولار من الطائرات والدبابات وانواع الاسلحة، معتقدين ان الشاه يمكن أن يساعدنا على التصدي للاتحاد السوفياتي. لكن عندما سقط الشاه تحولت ايران المدججة بالسلاح الاميركي بشكل مفاجىء الى ألد اعدائنا. وفي الوقت الحاضر، في مجرى البحث عن تهديدات جديدة لتبرير بقاء النهج ذاته من دون تغيير، يقوم المجمع العسكري - الصناعي ببيع اسلحة الى بعض الدول، ما يجعلنا نتوخى الحذر بسبب احتمال ان توجّه هذه الاسلحة ضدنا او ضد بعض حلفائنا. وتُستخدم هذه الدوامة التي تكاد تكون هزلية لتبرير الحصول على اسلحة جديدة اكثر تطوراً لضمان أمننا. ان ما نحتاج اليه الآن هو قيادة سياسية تملك من الحنكة والشجاعة ما يجعلها قادرة على مواجهة تحديات عالم ما بعد الحرب الباردة. فالواقع والمنطق السليم يستوجبان امتلاك قوة عسكرية اصغر حجماًً واكثر كفاءة، مصممة وفق مقاييس عالم اليوم، وليس عالم الامس. كما يستدعي منا ان نكبح التنافس على بيع الاسلحة في الخارج بدلاً من الاستمرار في احتلال المركز الاول عالمياً على لائحة بائعي السلاح. ويتطلب منا استخدام الاممالمتحدة بدرجة اكبر في التحرك الجماعي لدرء تهديدات مرحلة ما بعد الحرب الباردة التي تنجم عن اعمال ارهابية تنفذها دول منبوذة. لا تواجه الولاياتالمتحدة حالياً اي عدو عسكري كبير في أي مكان. ما نواجهه فعلاً هو هموم دولية متزايدة، مثل وباء "الايدز" والاحترار العالمي وشح المياه والتلوث والنمو السكاني المنفلت والامية وعدم الاستقرار السياسي والازمة الحالية في الاقتصاد العالمي. نحتاج الى تخصيص المزيد من موازنتنا الدفاعية لمواجهة هذه التهديدات الحقيقية بدلاً من إدامة التوجهات البالية لايام الحرب الباردة. * سناتور سابق. المرشح الديموقراطي للرئاسة في انتخابات 1972. حاليا سفير الولاياتالمتحدة الى وكالة الغذاء والزراعة الدولية في روما.