يبدو ان الانهيار النقدي الذي عصف بأسواق كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ، بدأ يأخذ شكلاً وبائياً. اذ ان عدوى الأزمة انتقلت الى اندونيسيا وأطاحت بنظام سوهارتو، ومن ثمَّ الى روسيا، وحالياً تهدد نظام ماليزيا السياسي. وإذا استثنينا روسيا، فإن بقية الدول التي تعاني من الأزمة النقدية كانت تعرف باسم "مجموعة نمور شرق آسيا"، لأنها حققت معدلات نمو تراوحت بين ستة وسبعة في المئة منذ منتصف السبعينات حتى مطلع التسعينات. وهذه معدلات قياسية لم تسجلها اي دولة منذ الحرب الكونية الثانية - اذا استثنينا النمو الصيني باعتباره حال تنموية مختلفة شكلاً ومضوناً -. وهذا يعني انها اسواق قوية، ومع ذلك عصفت الأزمة بنقدها الوطني، وأصابت اقتصادات هذه البلدان بكساد غير عادي، ادى الى هروب اكثر من خمسين في المئة من رؤوس الأموال الاجنبية والوطنية، فضلاً عن اغلاق مؤسسات اقتصادية عدة، مما يساهم في ارتفاع حجم البطالة وتضييق فرص العمل امام قوى العمل الشابة التي تدخل الى ميادين العمل يومياً. لكن هل يمكن لهذه العدوى ان تنتقل الى الأسواق العربية؟ وما هي احتمالات تداعياتها في ما لو أصيبت الأسواق العربية بانهيارات نقدية؟ وما هي وسائل الوقاية لتجنبها؟ وفي النهاية هل الانهيار النقدي هو أحد الاشكال الوبائية التي يمكن ان تنتقل من سوق الى اخرى مثلما يعلن المسؤولون الماليون في البنك وصندوق النقد الدوليين عن خشيتهم من انتقال العدوى الى اميركا اللاتينية؟ قبل الاجابة عن هذه التساؤلات لا بد من العودة قليلاً الى الازمات المشابهة التي حصلت في السابق. فمثلاً اصيبت المكسيك بأزمة نقدية هددت بانهيار قيمة "البيزو" قبل اربع سنوات. وسارعت الولاياتالمتحدة بضخها قرضاً ضخماً قيمته 50 بليون دولار. وكان محللون توقعوا ان تكون المكسيك مرشحة لدخول نادي الفقراء بعد توقيع اتفاقية "نافتا". وذلك قبل وقوع الازمة بتسعة اشهر تقريباً. اذ تحدثوا حينها عن خطورة الاستثمار القصير المدى في الاسواق التي تعتمد بآلياتها وهياكلها الاقتصادية على التخطيط المركزي. ولا سيما عندما يبدأ هذا النوع من الاستثمار من دون مقدمات وطنية او محلية لجهة مكونات رأس المال وشروطه الاستثمارية. وهذا ما حصل للمكسيك عندما فتحت اسواقها امام الشركات الاميركية في الثمانينات للاستثمار مستفيدة من العمالة والمواد الأولية الرخيصة. وهذا هو بالتحديد ما يفسر اقدام الولاياتالمتحدة منفردة على معالجة الازمة ولم تنتظر التشاور مع شركائها الصناعيين في الدول السبع او مع البنك وصندوق النقد الدوليين والمؤسسات الرديفة لهما. لا بل نفذت خطة تعويم الأسواق المكسيكية بسرعة قياسية بحيث لم تترك الفرصة لتحليل الازمة ونشر هذا التحليل على مدى واسع. علما ان المكسيك كانت منذ بداية هذا القرن حتى التسعينات تشكل نموذجاً ناجحاً للاقتصاد المركزي المخطط في اطار نظام غير اشتراكي. وتناول المحللون الاقتصاديون هذا النموذج بدراسات مطوّلة. وبات - الى حد ما - يشكل مذهباً اقتصادياً وسطاً بين الاشتراكية والرأسمالية لأنه نما منذ الثلاثينات في مناخ سياسي غير شيوعي او اشتراكي وفي الوقت ذاته غير ديموقراطي او ليبرالي، وانما هو اقرب الى الديكتاتورية بالمعنى السياسي. وهذا النموذج شكل أساس التوجه الاميركي نحو كوريا الجنوبيةوهونغ كونغ وتايوان خلال فترة السبعينات. وبعدما تحققت التنمية السطحية - إن صح التعبير - برؤوس أموال اميركية وأوروبية ويابانية بدأت التحولات في النظم السياسية في نهاية عقد الثمانينات ومطلع التسعينات. وكانت الغاية الاميركية والأوروبية من اقامة هذه النماذج الاقتصادية الناجحة وبتسهيلات كبيرة، وضعها مباشرة امام كوريا الشمالية الشيوعية بالنسبة الى كوريا الجنوبية، والصين بالنسبة الى هونغ كونغ وتايوان، هذا من الناحية السياسية. غير ان الآليات الاستثمارية او التنموية التي اعتمدت كانت نسخة طبق الأصل عن النموذج المكسيكي. لذلك ليس غريباً ان يحصل الانهيار النقدي في كوريا الجنوبية وتايوان وأندونيسيا لاحقاً - طبعاً باستثناء دولار هونغ كونغ بسبب انتمائه حالياً الى سوق الصين العملاقة ليس الا - على الطريقة التي حصل فيها بالمكسيك عام 1995. ويمكن هنا للمتابعين لتفاصيل هذه الازمات النقدية مجتمعة، ملاحظة ثلاث مسائل مهمة: أولاً: محاولة البنك وصندوق النقد الدوليين تشخيص سبب الازمة في مجموعة النمور. فمثلاً ربطت الأزمة في كوريا الجنوبيةوهونغ كونغ باقدام بعض البنوك على المضاربات في سوق البورصة. وعزت الانهيار في اندونيسيا الى البيروقراطية والفساد الاداري وغياب الشفافية في السياسة المالية والتعاملات البنكية. بينما في المكسيك لم تحدد علة محددة الا ترسيخ عمليات الخصخصة وانفتاح السوق، علماً ان السوق المكسيكية اصبحت مفتوحة كلياً منذ التوقيع على اتفاقية نافتا. ثانياً: اعتبرت الولاياتالمتحدة ان الازمة المكسيكية هي ازمة اميركية وسارعت الى حلها بالفعل بينما بالنسبة الى شرق آسيا ما زالت حتى اليوم تبحث في سبل علاجها مع شركائها في الدول الصناعية ومع المؤسسات المالية الدولية. وآخر المشاورات بهذا الخصوص بين وزراء مال الدول الصناعية ومديري البنوك المركزية في هذه الدول بالاضافة الى البنك وصندوق النقد الدوليين والمنظمة الدولية للتجارة، تمت مطلع الشهر العاشر من العام الماضي في واشنطن. وتعهد المجتمعون "بالتنسيق في شكل اكبر من اجل دعم الاقتصادات الدولية وتأمين استقرار الأسواق المالية. واعتبر المجتمعون ان الاجراءات لتهدئة الاسواق يجب ان تترافق مع وجود قواعد اقتصادية سليمة وسياسات اجتماعية مناسبة وتحرير غير تمييزي للتجارة واصلاحات بنيوية للقطاع المالي وتكامل منظم للأسواق المالية". وبالطبع المقصود بالاجراءات هو القروض التي وعدت دول شرق آسيا بها من قبل البنك وصندوق النقد الدوليين. ومع ذلك لغاية اليوم لم يكشف عن حجم هذه القروض باستثناء ما اعلنته اليابان عن حجم مساعدتها لجيرانها الآسيويين والذي حددته مباشرة بثلاثين بليون دولار. اما اميركا وبقية الدول الصناعية الاخرى فلم تعلن عن تقديم اية مساعدات مباشرة وانما تركت هذا الامر للبنك وصندوق النقد الدوليين. ثالثاً: ان حجم الاهتمام الدولي الاميركي والأوروبي والياباني مع المؤسسات المالية الدولية بالأزمة النقدية في شرق آسيا لم يكن بذات المستوى عندما طالت الازمة روسيا. ففي بداية الازمة كان الاهتمام بها يأتي فردياً على شكل بيانات او تصريحات للمسؤولين الماليين الدوليين او في البلدان الصناعية، ومسؤولو البنك وصندوق النقد الدوليين هم الذين تولوا زيارة هذه البلدان للبحث مع حكوماتها عن حلول. بينما شكل الاهتمام بالأزمة، اختلف كلياً عندما طالت روسيا. ويمكن القول: كما كان الاهتمام بالازمة المكسيكية اميركياً، فان الاهتمام بالأزمة الشرق آسيوية كان يابانياً. وهذا ببساطة يؤكد ان حجم الاهتمام بالازمات النقدية والاقتصادية عموماً تحدده مدى الارباح او الخسائر التي يمكن ان تجرها هذه الازمات على الدول الصناعية. اما المسألة الاخلاقية لجهة محاربة الفقر الذي يعتبر وصمة عار على جبين الحداثة وثورة المعلومات والتقنية بخواتيم القرن العشرين، فهذه مسألة "يبقى التعامل معها بعقلية القرون الوسطى او بأحسن حال، عقلية العهود الاستعمارية". والحديث الممجوج الذي يكرره المسؤولون الماليون عن احتمال انتقال الازمة الى الارجنتين وفنزويلا تنطبق عليه مقولة "كلام حق يراد به باطل". لأن هذه البلدان هي بالفعل مهددة بأزمة مشابهة ولكن ليس بتأثير الأزمة الشرق آسيوية او الأزمة الروسية على الطريقة الوبائية. وانما لأن هذه البلدان اعتمدت في تنميتها خلال الأعوام العشرة الماضية الاسلوب نفسه الذي اعتمد في دول شرق آسيا والذي اشرنا له سابقاً. وتعويم الأسواق الآسيوية لن يمنع حدوث الازمة في اميركا اللاتينية، لأنه ببساطة حصلت الازمة في شرق آسيا على رغم معالجتها السريعة في المكسيك. وعليه يمكن القول ان الاسواق العربية ليست معرضة لتلك الازمة لا من قريب او من بعيد. وذلك لأن آليات هذه الاسواق هي مفتوحة بطبيعة الحال منذ فترة ليست قصيرة، ومع ذلك لم تجلب رؤوس الأموال الاجنبية لأسباب سياسية وأمنية في معظم الاحيان. هذا في الوقت الذي تستثمر به رؤوس الأموال العربية في الخارج والتي تقدر بپ850 بليون دولار. ولكن من حسنات الازمة الشرق آسيوية ان تكون سبباً لهروب رؤوس الأموال الاجنبية من شرق آسيا الى غربها وجنوبها والى افريقيا عموماً. وهنا لا بد ان تحظى البلدان العربية باهتمامات المستثمرين الاجانب، حينها يتوجب على المسؤولين الماليين العرب التأكد من عمل آليات اسواقهم ونوعية الاستثمار الذي تحتاجه كي لا يواجهوا بأزمات مشابهة، لأن الركود الاقتصادي يأخذ الطابع الدولي. فحسب التقرير الذي قدمه صندوق النقد الدولي في تقريره السنوي يوم 30 ايلول سبتمبر الماضي، ان الانكماش الاقتصادي اصاب مختلف الاقتصادات القوية بدءاً بالولاياتالمتحدة التي تراجع نمو اقتصادها من 3.5 في المئة الى 2 في المئة وكذلك الأمر بالنسبة الى اليابان وأوروبا. اما بالنسبة لحماية الأسواق العربية من الانهيارات النقدية والكساد الاقتصادي الذي يعصف بالاقتصادات القوية فلا مجال الا من خلال العمل على التوازن اولاً بين الاستثمار في القطاع العام والقطاع الخاص. وثانياً بين الاستثمار الصغير المدى والاستثمار الطويل المدى. طبعاً من دون تناسي تأهيل الخبرات والاعتماد على رؤوس الأموال الوطنية والعربية بالدرجة الأولى.