الغربيون الذين يزدرون الثقافات الأخرى, ومن ضمنها الإسلام, ويرمونها بالتعصب, لم يكونوا يوماً متعصبين فحسب, بل كانوا يستخدمون الدين ذاته لشرعنة تعصبهم في الوقت الذي نشهد فيه, كما يلحظ المفكر العربي: محمد أركون في كتابه( من فيصل التفرقة إلى فصل المقال) صراعات إيديولوجية عنيفة بين الإسلام والغرب, لا تفتأ الدوائر المعنية هناك, والمهتمون بالإسلام كبعض المستشرقين, من إذكاء تلك الصراعات بوصْمها الإسلامَ بالتعصب والانغلاق والتكور على ذاته, وبأنه غير قادر على هضم مكتسبات الحداثة قياسا بالمسيحية! هذه النظرة السلبية للإسلام بأنه دين متعصب ربما ظهرت لأول مرة هناك خلال القرن الثامن عشر, حينما وصل الأمر بفلاسفة ذلك القرن إلى حد استخدام الإسلام, كما يقول أركون في نفس الكتاب, كمثال على التعصب وعدم التسامح (كتاب فولتير: التعصب أو النبي محمد), ثم كمنتْ حينا من الدهر حتى أعادت إليها وهجها أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م وما تلاها من أحداث إرهابية أخرى تولى كبرها أناس ينتسبون إلى الإسلام. والمشكلة التي يحاول هذا المقال أن يجر المعنيين إلى الإسهام في تفكيك ما يترتب عليها من تبعات سلبية بحق الإسلام والمسلمين, تنطلق من منطلقين, أولهما: أنهم يصمون الإسلام بتلك الصفات السلبية, بوصفها صفات جوهرانية ذاتية فيه لا علاقة لها بالسياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية. وثانيهما أن هذه المقابلة التي تضعها الدوائر المتنفذة في الغرب بين تسامح الغرب وتعصب الإسلام, لا تضع في الغالب الإسلام كدين بإزاء الغرب: الفلسفة والحضارة والتنوير, وإنما قد تضعه مقابل الديانة المسيحية. وهنا قد يوحي المفهوم المخالف إذا استعرنا لغة الأصوليين لهذه المقابلة, أن المسيحية كانت, ولمَّا تزل ديانة متسامحة, وهذا وفقا لمفهوم المخالفة ذاته هو الذي جعل المسيحية (بالذات) تهضم مكتسبات الحداثة والتنوير في الغرب, عكس الإسلام الذي لا تقبل بنيته الفكرية الاندماج في معطيات الحداثة. صحيح أن الفكر الأوروبي الحديث لا يتردد في ربط التسامح بصعود فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر, ثم بصعود فلسفة الحداثة بشكل عام فيما بعد, مع ذلك, تظل تلك التصورات على المستوى الشعبي, وخاصة خارج أوروبا الغربية, تضع الإسلام مقابل المسيحية, على أن أحدهما متعصب وهو الإسلام بجوهره لا بعرضه, والأخرى وهي المسيحية متسامحة بجوهرها لا بعرضها أيضا. والحق أن هذه المقابلة بين الإسلام والمسيحية تمثل قفزا على المنهجية الصحيحة, مثلما تمثل قفزا على التاريخ في كلتا الجهتين وما جرى فيه بالفعل. ذلك أن المنهجية الصحيحة تقتضي بحثا تاريخيا وأنثروبولوجيا وفيلولوجيا عن مكونات الديانات الإبراهيمية كلها, ليُرى إن كانت الصفات الجوهرية لها تختلف فيما بينها من حيث التسامح التعصب, وبالجملة النظرة إلى الإنسان المخالف, أم أنها كانت, ولمَّا تزل مجالا لتأويل الفاعلين الاجتماعيين إلى حيث الوجهة التي يريدونها, تعصبا كانت أم تسامحا. إن الأديان والمذاهب والثقافات لا تولد في بيداء منبتة عمن يخصبونها برغباتهم وقيمهم من الفاعلين الاجتماعيين في زمان ومكان معينين! الغربيون الذين يزدرون الثقافات الأخرى, ومن ضمنها الإسلام, ويرمونها بالتعصب, لم يكونوا يوما متعصبين فحسب, بل كانوا يستخدمون الدين ذاته لشرعنة تعصبهم. الغربيون الذي يدَّعون أنهم متسامحون لأن المسيح قال ذات يوم: "من صفعك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر", وأنهم علمانيون ومدنيون لأن المسيح قال ذات يوم: "أعطوا ما لقيصر لقيصر, وما لله لله", و"مملكتي ليست من هذا العالم", هم أنفسهم الذي كانوا يحتقرون الأمم الأخرى, بل ويشنون الحروب عليها ويقتلعونها من ديارها, ويقتلون أبناءها ونساءها ورجالها اعتمادا على ما جاء في إنجيل متى عن المسيح من أنه قال: "لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام إلى الأرض, ما جئت لأحمل سلاما بل سيفا. جئت لأفرق بين المرء وأبيه, والبنت وأمها, والكنة وحماتها, فيكون أعداءُ الإنسان أهلَ بيته". وبالمثل, فإن الحضارة العربية الإسلامية التي نشأ في ظلها أفراد وجماعات متعصبون قتلوا وسفكوا الدماء, وأعطوا صورة قاتمة عن المسلمين, كالحشاشين والقرامطة قديما, وكالقاعدة حديثا, هي نفس الحضارة التي دُشِّنت في ظلها سياقات اجتماعية لا تتسامح مع المخالف دينيا فحسب, بل تحتفي به بوصفه شريكا في الحضارة وفي الإنسانية. نتذكر في هذا المجال, تلك العصور الكلاسيكية التي مر أبو حيان التوحيدي على ذكر "مقابسات" منها في كتابه الشهير(الإمتاع والمؤانسة). فلقد وصل التسامح, ومن ثم حرية الفكر في تلك العصور إلى حد أن مثقفي المقابسات الذين تحدث عنهم التوحيدي في كتابه السابق ذكره، كانوا, كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (المثقفون في الحضارة العربية), "من ديانات مختلفة، فإذا كان غالبيتهم من المسلمين، فإن جل المناطقة والأطباء والمهتمين بالعلوم القديمة كانوا مسيحيين, كيحيى بن عدي، وعيسى بن علي، وابن زرعة، وابن الخمار. بل إن فيهم المجوسي والصابئ والملحد، وهم على هذا التنوع والاختلاف عاشوا في جو من الحرية الفكرية والتسامح الديني قل نظيره. فلقد طُلِب مثلا من أبي إسحاق بن هلال (الصابئ) أن يعتنق الإسلام فامتنع، فتُرك وشأنه. كما ألف يحيى بن عدي، علاوة على ترجماته ومؤلفاته في المنطق والعلوم والأخلاق، عدة مقالات ورسائل وكتب في الدفاع عن العقيدة المسيحية ضد انتقادات المتكلمين الإسلاميين، أو ضد الفرق المسيحية الأخرى التي تخالف فرقته، حيث كان يعقوبي المذهب". وإضافة إلى ذلك, فإن فلسفة ابن رشد عندما رحلتْ إلى أوروبا في القرن الثالث عشر, وأنشأت هناك ما عرف ب "الرشدية اللاتينية", والتي أصبحت آنذاك كما يقول(ألان دي ليبيرا) في كتابه( التفكير في العصر الوسيط)" خطابا للمثقفين الجدد الذين هيمنوا على الحياة الثقافية في أوروبا في القرنين الثالث عشر والرابع عشر",أقول إن هذه الفلسفة الرشدية التي كانت عماد النهضة الأوروبية, كانت قد حوربت هي ومن يعتنقونها أو يتدارسونها من قبل الكنيسة والمتدينين وعموم الجمهور آنذاك بوصفها فلسفة كفر وضلال وغزوا فكريا آتيا من بلاد "الكفار!". ولعل من أكبر الدلالات على تعصب الغرب المسيحي آنذاك مقابل تسامح الحضارة الإسلامية, أننا نجد مثقفا من أبرز مثقفي الرشدية اللاتينية, وهو( بيير أبيلار) يشتكي, كما يقول الجابري في كتابه آنف الذكر, من الاختناق الذي كان يسود البلاد المسيحية, ومن اضطهاد رجال الكنيسة للمفكرين الأحرار, ما جعله يفكر بالرحيل إلى أرض العرب حيث الحرية الفكرية مكفولة, بقوله: "الله يعلم كم مرة فكرت تحت ضغط يأس عميق في الرحيل عن الأرض المسيحية والعبور نحو العرب للعيش هناك في سلام, دافعا الجزية لأعيش مسيحيا بين أعداء المسيح". ها نحن نضع العصر المسيحي الوسيط المتعصب, مقابل العصر الكلاسيكي الإسلامي المتسامح الذي كان المسيحيون واليهود الأحرار يتمنون أن يعيشوا فيه, متقابلين, فهل يجوز لنا أن نصم المسيحية بأنها متعصبة, وأن الإسلام متسامح, مثلما يحلو لكثير من المستشرقين والمتطرفين في الغرب المعاصر أن يصموا الإسلام بالتعصب, مقابل تسامح المسيحية؟ الحقيقة لا هذا ولا ذاك. وكل ما في الأمر أن الفاعلين الاجتماعيين في السياقات الثقافية والاجتماعية المختلفة هم من يجعلون المجتمع متسامحا أو متعصبا, اعتمادا على معطيات البنية الفكرية والسياسية والاجتماعية, بل والاقتصادية التي يعيشون فيها. وبجملة واحدة: فإن المزاج العام الناشئ من النسق القيمي المجتمعي هو نفسه من يجعل الدين أو المذهب متعصبا أو متسامحا, إذا سيجد الفاعلون الاجتماعيون في سلاح التأويل, إن لم يجدوا نصوصا تسعفهم, مخرجا لتوليد القيم التي يرغبون أن يشيعوها في سياقات معينة, اعتمادا على ما تتطلبه تلك السياقات نفسها. وبالتالي فمن الخطأ الكبير الادعاء بأن دينا أو مذهبا ما بعينه متسامح, وأن دينا أو مذهبا ما بعينه متعصب, كطبيعة جوهرانية فيه لا تتغير ولا تتبدل.