بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، حلّق الفلاسفة الأمريكيون بمقولات "نهاية التاريخ" وصدام الحضارات، ثم كانت "العولمة" التي ستطوي تلك المراحل بخلق عالم مفتوح الحدود والفضاء، لكن هذه النشوة بدأت تطرح حديثاً لغة أخرى عن (الرأسمالية المتوحشة) وجمرة العولمة الكاوية حين أصبح سادة الرأسمالية هم مديري الشركات ورؤساء مجالس إداراتها وتحولت الصناعة من العمالة البرجوازية ذات الدخول الجيدة إلى مدارات أخرى في دول تملك المهارة والعمالة المدربة والأسواق وقلة التكلفة، وهنا بدأت تتصاعد في مراكز الرأسمالية الكبرى في أمريكا، وأوروبا، واليابان الأسئلة عن العولمة الاحتكارية التي باعدت بين الطبقات ورسّخت العقود المؤقتة ليُفصل أو يسرح العامل بمشيئة الشركة أو المؤسسة تبعاً لخضوعها لنظم عالمية وليست وطنية، تلزمها، كما كان سابقاً، بعقود فرءضية وضرائب تصاعدية، وتعويضات.. وبتعالي الأسعار وشح الطاقة وارتفاع التكاليف المعيشية، لم تعد الرفاهية تمزج بين الأغنياء والطبقات الوسطى، إذ أن ثراء الرأسماليين يكاد يخفي وجوه الآخرين بتصاعد أرباحهم وترفهم، وهو ما أثار زوبعة هي في بداياتها بالتساؤل عن أخلاقيات الرأسمالية وقيمها، وهل يعني أن العالم مقبل على انقلاب أممي يعيد مبدأ الصراع من داخل رحم هذا النظام المتوحش، وسلوكه المدمر؟ كان يقال إن أمريكا تستطيع أن تجدد ذاتها بحيوية نظامها وديناميكية شعبها، ومؤسساتها، إلا أن الأزمات المتصاعدة التي ساعدت على الاستهلاك المفرط وإلغاء الادخار أعادت الأسئلة الحاسمة والصعبة داخل المؤسسات الحكومية ومراكز المراقبة والتحليل المالي والسياسي عن الحالة السائدة وكيفية الخروج منها، وهو ما يراه المراقبون لا يحتاج إلى ترقيع بل إلى نقض تلك المسلّمات وإعادة النظر في الاقتصاد الإقليمي والوطني كبديل عن العولمة التي بدأت تعيد قضية صراع الطبقات فيما لو تحولت عمالة المراكز الرئيسية للرأسمالية إلى عاطلين وشبه "بروليتاريا" لتعود مبادئ الماركسية للظهور، وهو ما بدأ يطرحه، ولو على استحياء، بعض المفكرين الأوروبيين.. قد لا تكون هذه مبالغة في المخاوف الناشئة، وحتى مع افتراض خلق مسارات حديثة في التصحيح لاحتواء الصدمات، فالمظاهر بدأت تضيف إلى مأزق تفاوت الطبقات، دخول المنافس الآسيوي الذي استطاع احتواء تلك الفوائض النقدية في بناء منظومة اقتصادية جبارة أوجدت حالات القلق عندما ضاعفت دخول الرأسماليين الكبار وانحسار الفئات الأخرى.. إذن لم تعد هناك نهاية للتاريخ لصالح مبادئ الديموقراطية والرأسمالية، وكما أن أي أيدلوجيا أو نظام "يوجد فيه نقيضه" فإن ما يجري على الساحة العالمية لا ينذر بتنافس شرس بين أيدلوجيات متعارضة، بل برأسماليات أعادت صيغة الصراع بألوان ظروف استحدثتها بنفسها ومن صميم مبادئها، ولعل الحديث عن خيارات بديلة لاتزال ضبابية، إلا أن ما كشفته السنوات القريبة الماضية أثبت أن النظام الدولي لا يستطيع الاستمرار في مسار واحد بوجود تنوع للثقافات والحضارات، وهيمنة قوة أو عدة قوى صغيرة على عالم كليّ متفاوت في طبيعته وفي مكوناته..