في الجهود الروائية من سليم البستاني الى نجيب محفوظ عبدالرحمن ياغي دار الفارابي، بيروت، 1999 على مدى قرن من الزمان ونيِّف، يتناول الناقد الأردني عبدالرحمن ياغي الجهود الروائية العربية، فيرصد هذا الفن الجديد في الأدب العربي، منذ بداياته الأولى في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر على يد اللبناني سليم البستاني حتى بلوغه قمة النضج الفني على يدي المصري نجيب محفوظ الذي جاء حصوله على جائزة نوبل للآداب ليشكل اعترافاً عالمياً بما بلغه هذا الفن عند العرب. غير أن ياغي في رصده وتاريخه هذا المدى الزمني لا يتوقف عند جميع العلامات الفارقة فيه بل يعمد الى الانتقاء متوقفاً عند ما يعتبره هو فارقاً في هذه المسيرة الروائية العربية الطويلة، الأمر الذي أدى الى القفز فوق محطات بارزة وأسماء لامعة في هذه المسيرة عموديّاً وأفقياً أو تاريخياً وجغرافياً، ويدعونا الى التساؤل عن مدى دلالة عنوان الكتاب "في الجهود الروائية" من سليم البستاني الى نجيب محفوظ على مضمونه. ولعل تغطية مثل هذه المسافة الزمنية بالدراسة والرصد والتأريخ هي أكبر مما يطمح اليه كتاب واحد دون أن يعني ذلك انتقاصاً من الجهود التأريخية - الدراسية التي بذلها الباحث في كتابه. يمهد ياغي لموضوعه برسم الإطار التاريخي - السياسي - الاجتماعي الذي برز فيه التيار الروائي الجديد على الصعيد العالمي، فيربط بين الانقلاب الصناعي في أوروبا وما ترتب عليه من تحولات اجتماعية أدت الى بروز الطبقة الوسطى، تلك التي عبّرت عن همومها عبر تيار روائي جديد شكلاً ومضموناً، ويختلف عن رواية الرومانس ذات الاعتناء بهموم النبلاء والإقطاعيين. هذا الإطار يقوم الكاتب بإسقاطه على التركيب الاجتماعي العربي بطريقة لا تخلو من تمحّل، فيعقد مقارنة يتوهم فيها تشابه التركيبين الاجتماعيين الغربي والعربي وتحوّلاتهما، وبالتالي فن التعبير عن هذه التحولات أي الرواية. وهنا، نتساءل: هل نشوء الرواية العربية ناتجٌ عن التحولات الداخلية أم عن اطلاع الأدباء العرب على هذا الفن من خلال الترجمة؟ نستنتج من القراءة أن المعمار الروائي الجديد مأخوذ من الغرب الأوروبي أو لم يكن نتيجة تحولات اجتماعية عربية، فكيف يستقيم هذا الاستنتاج مع قول الباحث: "لكل تركيب اجتماعي - معمارٌ فني، وشكل عام من أشكال التعبير...؟" ص 17 و18. وبالتالي، ألا يقتضي هذا القول الاستنتاج أن المعمار الروائي الجديد كان تعبيراً عن تركيب اجتماعي جديد، الأمر الذي لا تؤيده الحقائق التاريخية؟ مهما يكن من أمر، يتحدث ياغي في كتابه عن ثلاث مراحل أساسية في مسيرة الرواية العربية هي: مرحلة النشوء، مرحلة ما بين الحربين العالميتين، ومرحلة التأصيل. ويتوقف عند أسماء معينة في كل مرحلة، ويتلمَّس المراحل التي طبعتها، وهو يمزج بين التاريخ الأدبي لفن الرواية والنقد وان كان الأول يطغى على الثاني. وهو بعمله هذا يعنى بتاريخ الرواية العربية أكثر من جغرافيتها، ما يجعل دراسته عمودية أكثر منها أفقية. في مرحلة النشوء يعرض الباحث لجهود سليم البستاني الروائية المبكرة بين عامي 1870 و1884 في مجلة "الجنان" التي يملكها والده بطرس البستاني. ويتوقف عند رواية "الهيام في جنان الشام" فيوجز مضمونها ويدرسها ويستنتج أنها تفتقر الى الترابط، وتحفل بالمواعظ الأخلاقية، ولا تصف مزايا التركيب الاجتماعي. وهو، يدرس هذه الرواية وغيرها في ضوء معايير المعمار الروائي الجديد، فيظلم صاحبها، غير أنه ما يلبث أن يعتبره أول من رسّخ الاهتمام المتواصل بالفن الروائي في شكله الحديث المستورد من خلال مجلة "الجنان". ويعزو ياغي نشوء الرواية وتطورها الى عوامل عدة منها: ظهور الصحافة، التحول الاجتماعي وبروز الطبقة الوسطى، الانفتاح على أوروبا والترجمة. ويتوقف عند أسماء معينة لمعت في هذه المرحلة وكان لها فضل الريادة في الإنتاج الروائي، فبالإضالة الى سليم البستاني، يذكر سعيد البستاني، جرجي زيدان، فرح أنطون، نقولا حداد، ويعقوب صروف. ويذكر أسماء أخرى سافرت الى المجتمعات الغربية وكتبت فيها مثل جبران، الريحاني، ومحمد حسين هيكل. ويخلص الباحث الى أن روايات هذه المرحلة عرفت بطغيان الطابع الشعبي، وبالشخوص الجاهزة، وبالوعظ الأخلاقي، وبتورّم الشكل، وبالرومانسية، وبتقصير المعمار الفني عن النهوض بالأحداث. غير أن ياغي في دراسة روايات هذه المرحلة لا ينجو من السقوط في ازدواجية التقييم، فبينما تراه يعتبر الوعظ نقطة ضعف ومأخذاً عن الجهود الروائية الأولى، نراه لا يرى "في اعتلاء جبران منابر الوعظ... نبوّاً أو تجاوزاً... بل هو صدق كله وحماسة تبلغ حد الإيمان العميق بكل ما يحمل من عواطف". فكيف يستوي ذلك؟ المرحلة الثانية التي يتناولها ياغي بالدرس هي مرحلة ما بين الحربين، وفيها ينتقل المشعل من اللبنانيين الى المصريين بعد الحرب الأولى بفعل محركات عرفها المجتمع المصري كيقظة الروح الوطنية المصرية، وانتشار الثقافة الأوروبية والجامعات والصحف والأحزاب. ويتوقف عند أسماء أنتجتها هذه المرحلة كطه حسين وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور والمازني والعقاد على اختلاف مناهجهم في السرد الروائي. ويشير ياغي الى بدايات ضعيفة في هذه المرحلة عرفها لبنان مع الخوري مارون غصن والياس أبو شبكة وكرم ملحم كرم، وقد تبلورت هذه البدايات واشتد عودها مع بروز مدرسة لبنانية روائية لا تقل فنيّاً عن المصرية، ترعرعت في أحضان مجلة "المكشوف" ومن أعضائها لطفي حيدر، رشاد دارغوث وأحمد مكي، وعلى رأسها توفيق يوسف عواد في "الرغيف". وقد شهدت هذه المرحلة تلمّس الدروب الأولى في الرواية في سورية مع معروف الأرناؤوط، وفي العراق مع محمود أحمد السيد. واتّسمت بجملة ملامح يحددها الباحث بالتعبير عن أفكار الطبقة الوسطى، وغياب مظالم الاقطاع، وغياب الطبقة الأرستقراطية، والتفاعل الحضاري بين الشرق والغرب، وبروز القضايا الاجتماعية، والتزام الكتاب برسالة فنية. المرحلة الثالثة والأخيرة التي يتناولها المؤلف في كتابه هي مرحلة تأصيل الفن الروائي أو مرحلة نجيب محفوظ التي امتدت على خمسة عقود، تداخل الأول منها مع المرحلة السابقة في الموضوعات والأساليب، واستقلّت الأربعة الأخيرة، ويشير الى دور الجامعة المصرية، وطه حسين وسلامة موسى والعقاد والمازني، والجامعيين المصريين أمثال علي أحمد باكثير ويوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس وعبدالحليم عبدالله ويوسف إدريس في التمهيد لهذه المرحلة التي يتربع نجيب محفوظ على قمتها. ومن هنا، فإن الدكتور ياغي يفرد هذا القسم من كتابه لنجيب محفوظ تكويناً ونشأة وانتاجاً، فيذكر، على المستوى الأول، ولادته في حي الجمالية سنة 1912، وانتماءه الى الطبقة الوسطى، وتحصيله العلمي، واهتماماته الفلسفية والفكرية التي دخل منها الى الرواية. ويشير الى انعكاس هذه النشأة في قصص محفوظ ورواياته. ويتكىء ياغي على عدد من الدارسين لتوضيح أبعاد تكوين محفوظ الثقافي، نستشف من خلالهم: دوره التأسيسي في الرواية، نهمه في القراءة، اختياره الأسلوب المناسب للتجربة، تواضعه واستعداده للإفادة من الآخرين، تأثره بالحي الذي نشأ فيه، وتنوع النماذج البشرية التي تعامل معها، وصرامته في عاداته الكتابية واليومية، وتحلّله من الصرامة حين يكون في أصدقائه. أما على مستوى الإنتاج الروائي فيقارب ياغي هذا الانتاج مباشرة أو مستنداً الى مقاربات الآخرين له ولا سيما محمود أمين العالم، وكثيراً ما يتبنى ما جاء به الآخرون، ولذلك نراه يورد مقتطفات طويلة من آرائهم ينطلق منها لتشكيل رأيه أو يستخدمها لدعم مقولة ذهب اليها. وهكذا، يتبنى تقسيم العالم مسيرة محفوظ الروائية الى ثلاث مراحل هي: التاريخية، والاجتماعية، والفلسفية. ولا يفوته تحليل روايات يعتبرها ممثلة لهذه المرحلة أو تلك. ويختم المؤلف كتابه بدراسة موقع الحارة في أعمال نجيب محفوظ، وبمقاربة رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل، ورواية "اللص والكلاب" لمحفوظ. ويخلص من خاتمته الى أن للحارة حضوراً دائماً في أعمال محفوظ يمتد على مسافة ثلاثين عاماً، من "زقاق المدق" عام 1947 حيث تبدو الحارة زقاقاً مغلقاً الى "ملحمة الحرافيش" عام 1977 حين تغدو كوناً كبيراً، وبين هذين المدلولين تتخذ الحارة مدلولات كثيرة ومتنوعة تختلف من رواية الى أخرى. أما مقاربة ياغي لكلٍّ من الروايتين اللتين ختم كتابه بالتوقف عندهما، فكانت تتم بتحديد موقع الرواية من المسيرة الروائية العربية حسب تقسيمه لها كما فعل مع رواية "زينب" وقد يضيف الى هذا التحديد موقع الرواية من مسيرة كاتبها كما فعل مع "اللص والكلاب"، ثم يقوم بعرض الرواية وتلخيصها ليخلص الى تحليلها والتعليق عليها. ولا يتحرّج في عمله هذا من الاتكاء على تحليل الآخرين وتعليقاتهم، فيورد مقتطفات طويلة من قراءة محمود أمين العالم ولطيفة الزيات لرواية "اللص والكلاب"، وهو يعتبر أن هذه الأخيرة تشكل الذروة الفنية في نتاج محفوظ الروائي. وبعد، إذا كان الناقد عبدالرحمن ياغي قد بذل جهوداً مشكورة في كتابه، فإنه لا يستطيع القول أن هذا الكتاب أحاط بجميع الجهود الروائية خلال المدة الزمنية التي يغطيها أو على مدى الجغرافيا التي يفترض بكتاب كهذا أن يتصدى لها، ونحن إذا غضضنا الطرف عمَّن أتوا بعد نجيب محفوظ، فإنه مما لا ريب فيه أن كثيرين أتوا قبله أو عاصروه لم يشملهم الكتاب بالدراسة بل لم يشر اليهم. وهكذا، فإن متن الكتاب جاء دون الطموح الذي يطرحه عنوانه، ولعل هذا الطموح أكبر من أن يحققه كتاب واحد.