يندرج هذا الكتاب ضمن الدراسات الحديثة لتاريخ الولايات العثمانية في البلاد العربية، وهي الدراسات التي تخلصت من النظرة التقليدية والسلبية والمتحاملة أحياناً في تناول تاريخ الخلافة العثمانية، إذ انتهجت الموضوعية والمنهج الأكاديمي في تقويم حصيلة تاريخ هذه الدولة، وذلك من خلال ابراز الدور الإيجابي للعثمانيين في نشر الدين الإسلامي والدفاع عن ديار الإسلام والتشديد في الآن نفسه على ما اتسم به الحكم التركي من استبداد وفساد وعنصرية وتخلف حوَّله في نهاية المطاف الى ضرب من الاستعمار أسَّس للقطيعة بينه وبين شعوب تلك البلدان التي لم تعد ترى فيه المنقذ الذي هبّ لنجدتها بل المستعمر الذي جاء لإذلالها واستغلالها ونهب خيراتها. ومَيَّز المؤلف بوضوح بين سلبيات الحكم التركي وبين الدور الذي لعبه الأتراك في حماية المغرب الأوسط "الجزائر" والمغرب العربي عموماً من الغزو الإسباني فقد أكد أنهم كانوا سداً منيعاً ضد الغزاة المسيحيين في فترة تاريخية لا تزال تهيمن فيها الروح الصليبية على أنشطة الكنيسة وسياسات بعض الممالك الأوروبية، فبفضلهم طرد الإسبان من أرض الجزائر وبفضلهم اعترفت الدول الأوروبية بالكيان الموحد للمغرب الأوسط. وهذا الاعتراف الأوروبي بالدولة الجزائرية التي تأسست في عهد الأتراك والذي شدد عليه المؤلف في مختلف فصول الكتاب أمر بالغ الأهمية لأن الحدود كانت متداخلة والإيالات العثمانية التي استقلت لاحقاً عن الخلافة هي الكيانات التي تأسست على أنقاضها الدولة المغاربية الحديثة. فالخرائط والوثائق التي حددت مجالات الاستعمار الأوروبي للمنطقة ثم اعتمدت في رسم الحدود بعد الاستقلال تعود الى العهد التركي ولم يقع التصرف فيها إلا جزئياً خلافاً لما حدث في الولايات العثمانية في بلدان الشرق الأوسط غداة الحرب العالمية الأولى. والأمر يبدو أكثر أهمية بالنسبة للجزائر. فالمغرب الأوسط والذي أطلق عليه اسم الجزائر في العهد التركي جرياً على عادة الأتراك في تسمية الولايات بعواصمها لم يشهد في تاريخه القديم والوسيط دولة مركزية إذ غالباً ما كان يضم كلياً أو جزئياً للدول الكبرى التي قامت شرقاً وغرباً: "القرطاجنيون، الأغالبة، المرابطون، الموحدون، الحفصيون" وذلك خلافاً لتونس والمغرب اللتين قامت بهما دول مركزية كانت تنطلق من فضاء جغرافي أساسي شكّل عبر التاريخ الإطار التقريبي وشبه الثابت للدولة. ويعود ذلك أساساً الى أن الموقع الجغرافي لم يسمح للمغرب الأوسط بالتحول الى موقع عسكري لحملات الفتح ومركز إشعاع حضاري وثقافي وديني وهو الإطار الذي نشأت فيه الحواضر الكبرى، قيروان الأغالبة، مراكش الموحدين... ومن ثم فإن الجزائر لم تظهر ككيان موحد له حدوده وملامحه وكدولة مركزية إلا في العهد التركي. في إطار هذه الرؤية تناول المؤلف بالتحليل تاريخ الجزائر في العهد التركي، وقد مهد لذلك بالتعريج على وضعية المغرب العربي عشية الغزو العثماني وتنزيل هذا الحدث في المناخ السياسي والدولي في القرن السادس عشر والذي كانت تهيمن عليه الإمبراطوريتان العملاقتان الإمبراطورية العثمانية التي ترفع راية الإسلام والإمبراطورية الإسبانية التي تحمل الصليب. كانت الإمبراطورية العثمانية في أوج ازدهارها وعظمتها. فبعد أن غزت بلدان البلقان بشكل سريع ومذهل ووقفت على أسوار فيينا وضعت كل ثقلها على دول حوض المتوسط فانتزعت شيئاً فشيئاً غالبية جزره وفرضت أتاوة على الملاحة في هذا البحر الذي يتحكم في التجارة الدولية في العصر الوسيط. وهكذا وفي وقت قياسي امتد نفوذ هذه الإمبراطورية الفتية من الأطلس الى القوقاز، وأصبحت تضم بين جناحيها أعرق البلدان وأشهر المدن التي بنت حضارات العصرين القديم والوسيط: الإسكندرية، قرطاج، القدس، دمشق، بغداد، القسطنطينية، الحجاز... وفي المقابل ظهرت الإمبراطورية الإسبانية كقوة عظمى منافسة للعثمانيين. فبعد سقوط غرناطة آخر معاقل الإسلام في الأندلس 1492م تركزت أنظار الإسبان على الضفة الجنوبية للمتوسط واستمروا في تنفيذ ما عرف بسياسة الاسترداد، وهو مشروع سياحي مسيحي تدعمه البابوية وتحكمه روح الحروب الصليبية وحلم العودة بالتاريخ الى ما قبل الفتح الإسلامي لشمال أفريقيا. وفي هذا الإطار تكررت هجومات المسيحيين على السواحل المغربية فاحتلت البرتغالسبته وطانجة ومازرغان وآسفى، كما احتل الإسبان مليلة والمرسى الكبير، ووهران وبجاية وطرابلس. في هذا الظرف كانت الدول المغربية، الدولة الحفصية في الشرق تونس، طرابلس ودولة الزيانيين في المغرب الأوسط "الجزائر" ودولة الوطانبيين في المغرب، تواجه أزمة شاملة. فلقد تفككت الكيانات السياسية وضعف الحكم المركزي واستفحلت الفتن الداخلية وتفاقمت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وباختزال وهنت هذه الدول وباتت عاجزة عن صد العدوان المسيحي والدفاع عن ديار الإسلام. وفي هذه اللحظة التاريخية العصيبة نزل الغازي العثماني خير الدين بربروس على أرض الجزائر، فرأى فيه الأهالي المنقذ الذي ساقته الأقدار لحمايتهم من هجومات الإسبان. وفي عام 1618 وجه أعيان الجزائر وخير الدين نداء للسلطان العثماني لإدخال البلاد تحت رعايته فاستجاب لندائهم ووضع قوات مهمة تحت تصرف خير الدين تمكن بها من تحقيق انتصاراته في البر والبحر. وهكذا ظهرت أول آيالة عثمانية في شمال أفريقية، وفي عام 1651 انتزع الأسطول العثماني مدينة طرابلس من أيدي الإسبان وتم تأسيس الآيالة الطرابلسية وتلتها نفس العملية بتونس عام 1674. وبعد أن استعرض المؤلف الأحداث الكبرى للمرحلة الأولى التي كانت تخضع فيها الأيالة الجزائرية للحكم المباشر للدولة العثمانية انتقل الى تحليل التطورات التي أدت الى ابتعادها عن اسطنبول واحرازها استقلالاً فعلياً حيث انتقل النفوذ الحقيقي الى "الديوان" الذي يمثل كبار ضباط الجيش ورؤساء القراصنة بحيث لم يبق للباشا الذي يعينه السلطان إلا سلطة شرفية، ويمثّل هذا الحدث انعطافاً مهماً في تاريخ الحكم إذ أنه فتح مرحلة جديدة من الاضطرابات والصراع على السلطة. وفي القسم الأخير الذي يحمل عنوان "الدولة الجزائرية تحت حكم الديات" نقف على تحليل دقيق ومفصل لطبيعة النظام وخصوصيات الحكم التركي في الجزائر والتي حالت دون تطوره على غرار ما حصل في تونسوطرابلس. فلقد أدت الصراعات على السلطة في تونس في نهاية المطاف الى تأسيس الدولة الحسينية التي انفتحت على المستوطنين الأتراك وأبنائهم وأشركت أعيان الأهالي في إدارة شؤون الرعية، وعملت على كسب ثقة ودعم رجال الدين. وبمرور الزمن استقرت الملكية وتحقق نوع من الانسجام بين الحكم والأهالي وزالت الى حد ما صفة الأغراب عن الأتراك. وقد ولد كل ذلك، ولو بشكل جنيني، إرهاصات الوعي القومي لدى التونسيين بما في ذلك أبناء الأتراك الذين تغلب لديهم الولاء لتونس على الولاء للدولة العثمانية، وقد حصل نفس التطور تقريباً لدولة آلقراميلي بطرابلس. وحافظ النظام في الجزائر على طابعه العسكري وعلى هيمنة العنصر التركي، إذ لم يقم الدايات الذين استقلوا فعلياً عن الدولة العثمانية بأية اصلاحات في اتجاه الانفتاح على الأهالي لإضفاء نوع من الشرعية على السلطة الجديدة ولغرسها في البيئة الجزائرية. فالداي يقع اختياره من قبل الديوان الذي يضم كبار الضباط من طائفة القراصنة والانكشارية وهو يحكم في الواقع نظرياً لأن النفوذ الحقيقي بيد الجيش، الذي كان يثور أحياناً فيقتل الداي ويعين داياً آخر، وكان ذلك احدى أسباب عدم الاستقرار والفوضى الذين اتسمت بهما مؤسسة الحكم فخلافاً لما حصل في تونسوطرابلس لم يتطور نظام الدايات الى اقامة ملكية وراثية تؤمن انتقال السلطة والحفاظ على الأمن والاستقرار، وهكذا تواصل الصراع على السلطة من أجل السلطة، كما أن تقاليد هذا الحكم ونظمه لا تخلو من سذاجة وطرافة في الآن نفسه فالداي كان متجبراً إلا أن حياته كانت أشبه بحياة السجين، إذ عليه أن يلازم دار الإمارة ولا يمكن له الاتصال بعائلته وأبنائه إلا مرة في الأسبوع، والبايليك هو الذي يتولى الانفاق عليه وعلى عائلته، وقد وصفه المؤرخ الإسباني خوانو بأنه غني ولكنه لا يملك التصرف في ثروته وأب من دون أبناء، وزوج من دون زوجة ومستبد مجرد من الحرية وملك على عبيد وعبد لرعيته". لا شك أن هذه الخصوصية للحكم التركي في الجزائر كانت إحدى الأسباب العميقة لما عرفته البلاد في ذلك العهد من ضعف سياسي وركود اقتصادي وتخلف اجتماعي وثقافي، وقد كان لكل ذلك أثر عميق في مسار تاريخ الجزائر الحديثة. أما الخصوصية الثانية التي أبرزها المؤلف فتتمثل في ضعف الحكم المركزي، وهو ضعف هيكلي كرسه التنظيم الإداري لمؤسسات الدولة، فالداي وأعضاء حكومته ليست لهم سلطة إلا على العاصمة والمناطق المحيطة بها، أما باقي البلاد فقد قسمت الى ثلاث محافظات يتولى السلطة في كل منها باي، بابليك الغرب وعاصمته معسكر ثم وهوان بعد تحريرها من الإسبان عام 1792، وبايليك الوسط وعاصمته المدية وباليك الشرق وعاصمته قسطنطينية، والبايات كان لهم التصرف المطلق في محافظاتهم التي يديرونها بمساعدة قياد ومشايخ أطلقوا أيديهم لتوزيع الأراضي العامة وجمع الضرائب، وابتزاز الرعية والاعتداء على الممتلكات دون راع أو رقيب، بحيث كانت هذه المقاطعات بمثابة دويلات داخل الدولة، فصلة الباي بالداي تقتصر على مده كل سنة بنسبة ضئيلة من الضرائب حتى أن خزائن بعض البايات كانت أضخم من خزائن الداي. والقضاء لم يكن أفضل حالاً فقد كرس بدوره الميز العنصري بين الأتراك والأهالي، فقضايا الأتراك كان يتولاها الآغا وقضاة غيرهم "كاهيته" كما كان للأتراك شرطتهم الخاصة وقضاتهم الحنيفة وللأهالي شرطتهم وقضاتهم المالكية، ولليهود أحبارهم، بحيث لا يوجد مجلس شرعي يجمع قضاة المذهبين للنظر في القضايا الكبرى، كما كان الشأن بتونس. وخلاصة القول أن التنظيم الإداري قد كرّس عملياً اللامركزية وغذى العصبية القبلية والجهوية، وأرسى تبعاً لذلك جذور انانا الفيدرالي ورسخ تقاليد "دولة القبيلة" التي ميزت تاريخ المغرب الأوسط، فالحكم المركزي كان في الواقع حكماً شكلياً يفتقر للآليات التي تتيح له تحقيق الإدماج الاجتماعي وترسيخ فكرة الولاء للدولة وغرس شعور الانتماء لمجموعة واسعة وهي الشروط التي تؤدي لاحقاً الى انبثاق الوعي القومي. ومن ثم فإن العهد التركي لم يؤسس للقطيعة مع الحقب السابقة، فالكيان الجديد الذي شكل فضاء الدولة الجزائرية الحديثة كان خطوة متقدمة من دون شك كان كياناً هشاً مقارنة بالدولة الحسينية في تونس أو الدولة العلوية بالمغرب. ومن الواضح أن ترسبات وتراكمات ذلك العهد والحقب الذي سبقته في المخيال الجمعي وثقافة المجتمع لا تزال فاعلة ومؤثرة في تركيبة الدولة الجزائرية وطبيعة الحكم وسلوك الأفراد والجماعات الى يومنا هذا على رغم الدور الذي لعبته حركة التحرير الوطني في ترسيخ الوعي القومي وبناء مفهوم الوطنية الجزائرية. وفي الجزء الأخير من هذا الفصل يرسم المؤلف صورة دقيقة للوضع الاقتصادي والاجتماعي، نستخلص منها أن الاقتصاد الجزائري لم يتأثر كثيراً بالوضع السياسي، فقد تواصل النشاط الزراعي والحرفي والتجاري، ويشير المؤلف الى أن المبادلات التجارية الخارجية سجلت انتعاشة ملحوظة مع أوروبا التي كانت تتنافس على شراء القمح والمنتوجات الفلاحية الجزائرية وأيضاً مع بلدان الجوار والشرق وجنوب الصحراء. لكن الشيء الأكيد أن الأرضية كانت متوفرة في تلك الفترة لتحقيق نوع من الازدهار الاقتصادي، إلا أن فساد النظام السياسي والاضطرابات الداخلية، وتعسف السلطة وحياة الضرائب، ونشاط القرصنة، وتقلب العلاقات السياسية مع الدول الأوروبية، كلها عوامل لا تشجع على تحقيق الهدف. يرسم المؤلف صورة للمجتمع الجزائري لا تختلف عن مثيلاتها في الولايات العربية العثمانية إلا أنها تكرس مع ذلك خصوصية الوضعية الجزائرية إذ تكشف بدورها مدى انغلاق الحكم، فالأتراك الذين يحتلون المرتبة الأولى في العالم الاجتماعي ويستأثرون بالوظائف السامية وبعديد الامتيازات أبوا أن يعمموا تلك الامتيازات حتى على أبنائهم من الأهالي "الكراغلة" إذ لم يسمح لهم بتولي المناصب العليا ولم تسند لهم إلا وظائف ثانوية في الجيش، وتبدو العنصرية بوضوح لأن الزواج المختلط يسير في اتجاه واحد فالأتراك يرفضون رفضاً باتاً تزويج بناتهم للأهالي، وهذا السلوك العنصري الذي لم يسلم منه حتى أبناؤهم هو الذي حال دون توطين الحكم. ويمكن القول في الختام أن المؤلف قدم دراسة جادة وموضوعية، فتشديده على تحليل طبيعة الحكم التركي ومساوئه لم يحمله على طمس إيجابيات العثمانيين. والشيء اللافت هو أن الأتراك الغرباء بقوا غرباء على امتداد ثلاثة قرون، وهي ظاهرة قد لا نجد لها شبيهاً في بقية الولايات العثمانية في البلاد العربية، إنها تختزل بكثافة خصوصيات هذا الحكم. كتاب "الجزائر في ظل الحكم التركي" صادر بالفرنسية L'ALGERIE SOUS LES TURCS MOULOUD GAID EDITIONS MIMOUNI بومودامو - الجزائر 1998