عند انطلاق عملية السلام عام 1991، حاول رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق اسحق شامير تجنب التفاوض مع وفد فلسطيني مستقل تشكله منظمة التحرير الفلسطينية. وقال: "ان الموافقة على التفاوض مع المنظمة يعني اليوم غرفة وغداً مدينة وبعدها دولة". وأضاف ان "قيام دولة فلسطينية غرب نهر الأردن خطر استراتيجي على امن اسرائيل وتهديد لوجودها". فهل اوشكت نبوءة شامير حول الدولة الفلسطينية ان تتحقق، ام ان متطلبات امن اسرائيل وشروطها التعجيزية ستعطل قيامها؟ بصرف النظر عن مبالغة شامير وجميع قادة الاحزاب الاسرائيلية في حديثهم عن مسألة الأمن، فالواضح انها عقدة تاريخية حقيقية يعيشها الاسرائيليون، من اشكيناز وسفارديم، مؤيدين أو معارضين للسلام مع العرب والفلسطينيين. ونشأت هذه العقدة مع المجازر والمحارق التي ارتكبها النازيون في الثلاثينات والاربعينات بحق اليهود الأوروبيين، اضيفت لها في الخمسينات كوابيس الخوف من العرب الذين يسعون الى تدمير دولة اسرائيل وذبح اليهود ورميهم في البحر. ويسجل للقيادة الاسرائيلية انها اتقنت ركوب رياح الحرب الباردة بين المعسكرين "الرأسمالي والاشتراكي" التي هبّت على المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية. وأقنعت شعبها ومعظم دول العالم بأن العرب المدعومين من السوفيات يعملون على تدمير دولة اسرائيل. وتحوّلت اسرائيل، لمدى اربعة عقود، الى قاعدة متقدمة لحلف "الناتو" وقدمت له خدمات امنية كبيرة في مواجهة الشيوعية و"دول حلف وارسو" وحلفائهم من العرب والفلسطينيين. وتلقت في المقابل الكثير من مقومات الحياة، وبخاصة تطورها العسكري وتقدمها العلمي والاقتصادي، فتطورت قدراتها وخبراتها الامنية. وعلى رغم الدعم المادي والسياسي والمعنوي الذي تلقته اسرائيل من الدول الغربية، وتحولها الى دولة كبرى في المنطقة، الا ان قيادتها ومواطنيها بقوا قلقين على وجودهم، وظلوا يخشون على امنهم من هجوم يشنه العرب من الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان السوري وجنوب لبنان. ويجب الاعتراف بأن الخطاب السياسي والدعاوي للنظام السياسي العربي والفلسطيني قدم، في تلك المرحلة، للقيادات الاسرائيلية المستلزمات الضرورية للاستمرار في اثارة عقدة الخوف والاضطهاد وتضخيمها، وتعميق الحقد والكراهية في صفوف مواطنيها ضد العرب. وحولته الى قنبلة دخانية غطت به سياستها العدوانية، وموّهت على اطماعها التوسعية في الأراضي العربية. وعلى رغم تخلي العرب، بعد سنين، عن افكارهم المتطرفة الداعية الى تدمير دولة اسرائيل، ورفض الاعتراف بها او الصلح معها، ودخولهم في مفاوضات مباشرة معها، واعتراف بعضهم بها، الا انهم لم يفلحوا في اقناع العالم بأن امنهم مهدد بنسبة اكبر من أمن الاسرائيليين. ولم ينجحوا في نزع ذريعة الأمن من يد القيادة الاسرائيلية. ولم يتمكنوا من تعطيل استخدامها كمبرر للهروب من دفع استحقاقات صنع السلام على المسارين السوري واللبناني، وإطالة أمد المفاوضات على مسارها الفلسطيني، والتهرب من تنفيذ الاتفاقات التي تم التوصل اليها بين الطرفين، وعدم احترام التواريخ التي تضمنتها. وبصرف النظر عن المواقف العربية والاسرائيلية السابقة، وعن نتائج سبع سنوات من المفاوضات مع الفلسطينيين، فان انتهاء الفترة الانتقالية التي اسسها اتفاق اوسلو، ومرحلة الحكم الذاتي الانتقالي في 4 أيار مايو القادم 1999، يضع الفلسطينيين والاسرائيليين وجهاً لوجه امام مسائل امنية قديمة وجديدة. فالطرفان اقتربا من موضوع الدولة الفلسطينية، ومن قضايا الحل النهائي القدس، الاستيطان، اللاجئون، الحدود، الأمن الخارجي والعلاقة مع الجوار، والمياه، وكلها مسائل ذات أبعاد امنية حساسة سريعة الاشتعال. ويفترض ان لا يكون هناك خلاف فلسطيني وعربي، بعد تجربة 30 شهراً من المفاوضات مع حكومة ليكود، على انه لا افق للتوصل لأي اتفاق حول هذه القضايا الحساسة مع قوى اليمين الاسرائيلي اذا عادت للسلطة. فقناعاتها الايديولوجية وممارساتها العملية تؤكد انها ستبقى متمسكة بموقفها القائم على مصادرة الأراضي والتوسع في الاستيطان، وجعل الحل الانتقالي حلاً نهائياً للقضية الفلسطينية، ومنح الفلسطينيين حكماً ادارياً ذاتياً موسعاً في احسن الاحوال. وهم يعتبرون قيام دولة فلسطينية غرب نهر الأردن مسألة حياة أو موت، وقضية مصيرية تمس بوجود اسرائيل وبأمنها الاستراتيجي. ويتعامل المنظّرون والخبراء الاستراتيجيون اليمينيون معها، اذا قامت، كثعبان يرقد مع دولة اسرائيل داخل فراش واحد ويمكنه لدغها يوماً ما لدغات قاتلة. ويصرون في اي حل نهائي على قضم اكثر من نصف الضفة الغربية وثلث قطاع غزة، وضم المستوطنات المقامة على اراضيها باعتبارها ضرورات حيوية لأمن اسرائيل. وعلى رغم ادراك الجميع مدى تفوق اسرائيل عسكرياً على العرب مجتمعين وامتلاكها اسلحة نووية، وان الدولة الفلسطينية ستكون ضعيفة عسكرياً ومرتبطة اقتصادياً لسنوات طويلة باسرائيل، فإن القوى الاسرائيلية بيسارها ويمينها، موحدة حول رفض عودة اللاجئين، وتقاسم المياه الفلسطينية، وبقاء القدس موحدة وعاصمة ابدية لاسرائيل وحدها. ولا خلاف بينها حول مفهوم امن اسرائيل بابعاده الاستراتيجية، وجميعها تعبر سراً وجهاراً عن ثلاثة مخاوف امنية رئيسية: الأول، خطر وقوع هجوم مباغت تشنه الجيوش العربية يوماً ما ضد اسرائيل، كما جرى في حرب اكتوبر 1973، تكون اراضي الضفة الغربية وقوات السلطة الفلسطينية رأس حربة له. والثاني تحول الدولة الفلسطينية يوماً ما الى دولة معادية تسعى لتحقيق طموحات الفلسطينيين في فلسطين التاريخية واعادة اللاجئين والنازحين الى بيوتهم. وان تستعين يوماً ما بقوى خارجية معادية لاسرائيل، وبالفلسطينيين فيها لتحقيق هذه الاهداف. والثالث، ان يقوم المتطرفون الفلسطينيون بتنفيذ عمليات ارهابية عبر الحدود الجديدة مع الدولة الفلسطينية. وتؤكد مسيرة عملية السلام والاتفاقات التي تم التوصل اليها ان هذه المخاوف تحكمت بالموقف الاسرائيلي في كل المفاوضات التي تمت في عهد حزب العمل كما ليكود. والمداولات الأولية حول الموضوع الامني تشير الى انها ستتحكم في المفاوضات اللاحقة مع كل الاطراف العربية. وستسعى، كتدبير وقائي، الى فرض قيود عسكرية وترتيبات أمنية تفصيلية، مع كل طرف على انفراد، تتم صياغتها في اتفاقات مشهود عليها دولياً. وستصرّ على اخضاع اي اتفاقات امنية مع السوريين واللبنانيين لرقابة ثنائية مشتركة، ولن تكتفي برقابة اميركية او دولية مثلاً، اما فكرة التعايش مع الفلسطينيين في دولتين متجاورتين فسيبقى قبولها رهن نجاح الفلسطينيين في معالجة عقدة الأمن وتطمين المواطنين الاسرائيليين على مصيرهم. فلا يمكن لأي حكومة اسرائيلية، عمالية او ليكودية، الأخذ بخيار قيام الدولة الفلسطينية الا اذا توافرت غالبية شعبية 51 في المئة اسرائيلية تؤيده، ولا تراه خطراً جدياً على امنها، بل يوفره على نحو افضل مما هو عليه الآن. وعلى المفاوضين الفلسطينيين ان يتوقعوا اسقاط الاسرائيليين في مفاوضات الحل النهائي كل ما له علاقة بأمن الفلسطينيين، ارضاً وشعباً، وأن يصروا يمينيين ويساريين على ضمان: أولاً - تجريد الضفة الغربية وقطاع غزة من السلاح الثقيل، وضمان عدم قيام الدولة الفلسطينية بتصنيعه. وعدم التزود بالدبابات وبالمدافع المضادة لها، وبالطائرات والاسلحة المضادة لها. وان لا تمتلك قوة بحرية قوية مسلحة بأسلحة ثقيلة حديثة. وذات الشيء ينطبق على القوى الجوية. وستصر على بقاء المجال الجوي لمناطق الضفة وغزةوالقدس تحت السيطرة الاسرائيلية المطلقة. وبقاء المياه الاقليمية الفلسطينية تحت رقابتها الدائمة وسيطرتها الامنية المطلقة. ثانياً - ضمان سيطرة الاجهزة الامنية الفلسطينية على الأمن داخل حدود "الدولة الفلسطينية"، ومنع تحول اراضيها الى قواعد انطلاق لعمليات عسكرية صغيرة او كبيرة ضد اسرائيل، وضد الاسرائيليين وضمنهم المستوطنين. ومنع التحريض ضدها او القيام بأعمال عنف ضد مواقعها المدنية والعسكرية. وضمان استمرار صيغ التنسيق الأمني المشترك وتطويرها حسب الحاجة ووفقاً لتطور الأوضاع ميدانياً. واخضاع الامن الفلسطيني لفترة طويلة من التجربة والاختبار. ويمكن اعتبار الشق الامني من اتفاق "واي ريفر" نموذجاً مصغراً لما ستسعى لفرضه على "الدولة الفلسطينية". ثالثاً - اجراء تعديلات جوهرية على حدود عام 1967، ونشر الجيش الاسرائيلي على طول الحدود مع الأردن. والاحتفاظ بعدد من القواعد العسكرية القوية، وإقامة منشآت الانذار المبكر، في مرتفعات الضفة الغربية وعلى سواحل قطاع غزة وحدوده مع مصر، وحيث تراها ضرورية لأغراض الأمن الاستراتيجي والأعمال الاستخبارية اللاحقة. مع ضمان حرية وسلامة حركة الجيش الاسرائيلي من والى هذه القواعد، وتعاون الفلسطينيين في حمايتها من أي اعتداءات محلية. رابعاً - ضمان عدم قيام الاجهزة الامنية العسكرية الفلسطينية ببناء اية تحصينات عسكرية ارضية قوية من نوع زرع الألغام وحفر الخنادق على الحدود وإقامة السواتر وبناء الدشم القتالية... الخ. خامساً - استمرار مشاركة الجيش الاسرائيلي في الاشراف على المعابر الحدودية المؤدية من والى خارج اراضي السلطة الفلسطينية، بما في ذلك الموانئ والمطارات والممر بين الضفة وغزة. وسوف تصر على منع تدفق اللاجئين والنازحين الى أراضي الدولة الفلسطينية اذا قامت. سادساً - تعهد "الدولة الفلسطينية" بعدم الدخول في احلاف او اتفاقات عسكرية معادية لاسرائيل. وعلى رغم ان شباك مفهوم الأمن الاسرائيلي الاستراتيجي اهتزت خلال خمسين عاماً من الصراع اكثر من مرة، وأكدت التجارب الملموسة، في اكثر من محطة بارزة، ان احتلال اراضي الغير بالقوة، والتفوق العسكري لم ولا يوفران الأمن الكامل لاسرائيل، الا ان مخاوفها الامنية، المقرونة بالمطامع التوسعية، وبالشعور بالتفوق العسكري والاقتصادي والحضاري، تنسيها كل الدروس المستخلصة من التجربة بما في ذلك تلك التي استخلصها خبراؤها الامنيون من الانتفاضة. وأظن ان استمرار تمسك القيادة الاسرائيلية بمفاهيم الأمن القديمة، سوف يعطل تقدم المفاوضات القادمة، ويطيل أمد الصراع سنوات طويلة، ويجعل طريق تطور "الكيان الفلسطيني" الى دولة مستقلة طريقاً مؤلماً ودموياً. ويفترض ان لا يكون هناك خلاف فلسطيني على ان المطالب والشروط الامنية الاسرائيلية المذكورة اعلاه تبقي الأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال ولا تغير شيئاً في احوال الفلسطينيين، وتفقد اي كيان فلسطيني ادنى وأبسط مقومات السيادة والاستقلال حتى لو سمي دولة. ويجب ان يقابلها موقف فلسطيني شديد الوضوح يقوم على افهام المواطن وإقناع المفكر والحاكم في اسرائيل بأنهم لا يستطيعون جمع الأمن والسلام، والتوسع في الأراضي العربية وقهر الفلسطينيين على سطح واحد. وإقناع العالم بأن لا أمن ولا استقرار في المنطقة بدون قيام الدولة الفلسطينية المستقلة فوق كل الأراضي التي احتلت عام 1967، وان امنهم واستقرارهم سوف يبقيان مهددين اذا لم تقم لهم دولة، اسوة ببقية شعوب المنطقة، يطورون من خلالها حضارتهم ويوحدون شعبهم. * كاتب سياسي فلسطيني.