سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
من التهديد بقطع أطراف المخالفين إلى السماح للقطاع الخاص بفتح المصارف . فشل الحل بالأوامر الإدارية أجبر النظام العراقي على تخفيف سيطرته على المقومات الاقتصادية
حتى العام 1990، عام غزو الكويت، كان اقتصاد العراق يعتمد على تصدير النفط. فهذه السلعة الاستراتيجية كانت تشكل ما يراوح بين 40 و45 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ونحو أكثر من 95 في المئة من إيرادات البلاد من العملة الأجنبية في ميزان المدفوعات. وما حدث بعد ذلك من تطورات انتهت بدمار العراق، قلبت الأولويات بالنسبة للاقتصاد العراقي رأسا على عقب. فقد انقطع مصدر العراق من العملات الصعبة مع توقف تصدير النفط بفعل قرار من مجلس الأمن الدولي. وتوقفت عجلة الاقتصاد التي كانت دائرة بفضل عائدات النفط، وبدأت احتياطات العراق من العملة الصعبة في التآكل واستفحل التضخم وحلقت الأسعار عاليا في السماء، وفقدت العملة المحلية الجزء الأعظم من قيمتها أمام العملات الأجنبية، والتي أصبحت هي التي تحدد أسعار السلع والبضائع التي تباع في داخل العراق، وكان طبيعيا أن تزدهر السوق السوداء في ظل سياسة حكومية تصر على أن سعر الدينار الواحد 3.2 دولار، وهو سعر كان ساريا رسميا في السبعينات، وهي سنوات رخاء لم يسبق للعراقيين أن شهدوه. وأمام هذه المشاكل الهائلة وقف النظام في البداية عاجزا وحائرا لا يعرف بأي شيء يبدأ ومن أين يبدأ. اختار اسهل الحلول وهو "الحل الإداري". فبدأت تصدر الأوامر بتحديد أسعار صرف العملات وتحديد اسعار السلع، ثم جاء دور تصنيفها إلى سلع ومواد اساسية وأخرى ترفية. فمنعت استيراد الثانية قبل أن تتبع هذا المنع بمنع آخر لبيعها. وبالطبع كان هذا كله ينفذ بعنف اشتهر به النظام الذي لم يتردد في إعدام 42 تاجرا والقبض على 600 منهم في العام 1992 بتهمة "التربح" و"الجشع" و"المتاجرة بقوت الشعب"، وما شابه ذلك من تهم. وشملت الحلول الإدارية طباعة الأوراق النقدية بكميات هائلة وطرحها في السواق حتى وصل حجم ما طبع منها بنحو 40 بليون دينار عراقي. كما شملت احتكار شراء النتجات الزراعية من الفلاحين بأسعار تحددها الدولة، فضلا عن احتكار الاستيراد الخارجي واحتكار أسواق تبديل العملات، تحت طائلة عقوبات من بينها قطع أطراف المخالفين لهذه الأوامر. وحين غادر المواطنون العراق بسياراتهم أمرتهم الحكومة بإعادتها وهددت المخالفين بمحاكمتهم بموجب قانون الجرائم الاقتصادية، وحين ارتفعت أسعار العقارات في صورة خيالية في بغداد منعت من يعود تاريخ إقامته في بغداد إلى ما بعد العام 1959 من تملك الأراضي والعقارات في العاصمة. وفي مقابل ذلك كان النظام، وما زال، يوزع على المواطنين بطاقات تخولهم الحصول على سلع غذائية وأساسية تمنح لكل فرد من أفراد العائلة مع اعتبار خاص للأطفال والمرضى. ووفق بعض التقديرات فإن السلع التي توفر للمواطنين بموجب هذه البطاقة تكون مدعومة من الحكومة بما نسبته 99 في المئة، وأن ذلك يكلف الحكومة سنويا نحو 9 مليون دولار، وأن مكونات هذه البطاقة تكفي العائلة لمدة تراوح بين أسبوع وأسبوعين. وخلال السنوات الثماني الماضية كثيرا ما كانت "البطاقة التموينية"، وهذا هو اسمها، تفقد بعض أهم مكوناتها من مواد غذائية مثل الدقيق والشاي والسكر والزيوت النباتية والحليب، أو تفقد جزءاً من حجمها. وفي بعض الأحيان كانت تتحول إلى موضوع للعقوبة، كما حدث في 1995 حين أصدرت الحكومة قراراً بحرمان كل من يغيب عن البلاد مدة تزيد على 6 أشهر من البطاقة التموينية. وكان من الطبيعي أن تفشل هذه السياسة القائمة على الأوامر الإدارية في حل المشاكل الاقتصادية التي كانت تزداد تفاقما كل يوم، والتي كان من نتيجتها وصول الشعب العراقي الذي كان يوما من أكثر الشعوب العربية رفاهية ورخاء إلى حالة يرثى لها من الفقر، اضطر معها كثيرون إلى بيع ممتلكاتهم الشخصية شيئاً فشيئاً بادئين بالتحف والذهب والكماليات، ليصلوا بعد ذلك إلى بيع الكتب والأجهزة المنزلية، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى بيع أعضائهم الجسدية مثل الكلى. وبدأ العراق في نزف أهم موارده، وهي الموارد البشرية من خلال هجرة أدمغته وعقوله العلمية والأكاديمية، إذ كان هؤلاء بين الفئات والشرائح الأكثر تضرراً من الأوضاع المعيشية المتردية، فلم يزد مرتب الأستاذ الجامعي الذي يتمتع بخبرة واسعة على ثمانية آلاف دينار أي ما يعادل بضع دولارات لا غير. وحتى هذه المشكلة تم حلها بالأوامر الإدارية بمنع هذه الخبرات من السفر إلى الخارج باعتبارها ثروات وطنية. وفي الوقت نفسه رفعت رسوم المغادرة بوتائر عالية أوصلتها في العام 1995 إلى نحو 400 ألف دينار عراقي. ومع إدراكه بأن الحل الإداري لا يجدي بدأ النظام في اتخاذ خطوات لتخفيف قبضة الدولة على الاقتصاد، وكانت لبداية بالسماح بافتتاح بورصة في بغداد بعد إغلاق دام نحو 34 سنة. غير أن النظام لم يسمح لغير العراقيين بالتعامل في شراء وبيع الأسهم بالدينار العراقي في هذه البورصة التي لا تمت بصلة للبورصة القديمة التي أنشئت في بغداد في العام 1932. بدأت البورصة عند إنشائها في العام 1992 بتداول أسهم 64 شركة، والآن فإن عدد هذه الشركات وصل إلى 95 شركة. وبالرغم من أن البورصة حققت أداء جيدا نسبيا في العام الماضي، إذ بلغ حجم التداول نحو 13.5 بليون دينار عراقي، فإن من الصعب القول إن البورصة ساهمت في حل أي من مشاكل العراق الاقتصادية. وفي العام التالي، وأمام عجزه عن حل مشكلة السوق السوداء في البلادع اتخذ النظام قرارا بالسماح لنحو خمسين من شركات الصرافة الخاصة بفتح أبوابها والتعامل في تبديل العملات الأجنبية وفق سعر تشجيعي للدولار هو 500 دينار للدولار في البداية، وهو سعر متحرك يرتفع وينخفض مع ارتفاع وانخفاض سعر الدولار في السوق السوداء، أما السعر الرسمي فبقي كما هو 3.2 دولار للدينار الواحد. وبالرغم من قصور هذه الخطوة وعجزها عن حل مشكلة السوق السوداء فإنها تدرج في إطار ما يسمى "الخطوات الاقتصادية التحريرية". وكانت الخطوة التالية السماح بإنشاء مصارف خاصة إلى جانب بنك الرافدين الحكومي. وقد بلغ عدد هذه المصارف ثمانية، ويقتصر دورها على الإيداع والإقراض، بما في ذلك العملات الأجنبية لكنها لا تمارس فتح الاعتمادات. وفي خطوة أخيرة في هذا الاتجاه قرر مجلس قيادة الثورة العراقي تحويل مصرف الرافدين، وهو أكبر مصرف رسمي في العراق، إلى شركة مساهمة عامة تمهيدا لتحويله إلى القطاع المختلط بدلا من القطاع العام. وقضى هذا القرار الذي اتخذه مجلس قيادة الثورة العراقي، وهو أعلى سلطة تشريعية في البلاد، بتحويل المصرف إلى شركة مساهمة عامة تخضع لقانون الشركات المطبق في العراق بوصفه شركة ممولة ذاتيا وله مجلس إدارة مستقل لتكون تلك خطوة على طريق تحويل المصرف إلى القطاع المختلط تساهم فيه الدولة بما نسبته 51 في المئة، إلى جانب القطاع الخاص وبموجب القانون الجديد فإن مصرف الرافدين سوف يقوم بممارسة الأعمال المصرفية كافة إلى جانب أعمال الصيرفة التي تقوم بها بعض فروعه منذ العام 1993. ويستدعي تطبيق القانون الجديد قيام المصرف برفع رأسماله من 500 مليون دينار عراقي إلى بليوني دينار، وهو ماسيقوم به قريبا. وكان مصرف الرافدين تأسس في العراق في العام 1933 كثالث مصرف عربي بعد بنك مصر الذي تأسس في العام 1928 والبنك العربي الذي تأسس في القدس في العام 1930. ويغطي المصرف بنشاطه أنحاء العراق كافة من خلال شبكة فروع تضم 55 فرعا موزعة على المدن والقرى ومراكز الحدود العراقية. كما أن للمصرف أكثر من 20 فرعا في بلدان عدة. وكان العراق قد أنشأ في العام 1987 مصرفين جديدين تملكهما الدولة الأول مصرف الرشيد الذي اختص بتقديم القروض لموظفي الدولة ، والثاني حمل اسم مصرف الرافدين أيضا لكن كانت له إدارته المستقلة، فقد رأت الدولة أنه مع زيادة عدد فروع المصرف فإنه يحتاج إلى أعداد كبيرة إضافية من الموظفين، ما يهدد بالتضخم الوظيفي والترهل. ومن هنا جاءت فكرة إنشاء مصرف جديد بإدارة جديدة على الرغم من أنها تحمل اسم مصرف الرافدين نفسه. ومن بين الإجراءات التي اتخذت أخيرا في هذا الاتجاه قرار اتخذه مجلس الوزراء العراقي بالشروع في خطة لتشجيع رؤوس الأموال العراقية والعربية على الاستثمار في المناطق الحرة العراقية، في إطار نظام ضريبي جديد تم اعتماده أخيرا في العراق. وتتضمن هذه الخطة إعفاءات واسعة من الضرائب المقررة على رؤوس الأموال المستثمرة في المناطق الحرة وإعفاء المشاريع في تلك المناطق من ضرائب الدخل والدفاع الوطني وأي ضرائب أخرى أو رسوم أو طوابع. وهي إعفاءات تشمل أيضا العاملين غير العراقيين في المناطق الحرة والذين أعفتهم الخطة الجديدة من ضريبة الدفاع الوطني. أما العراقيون الذين يعملون في تلك المناطق فتعفي الخطة ما نسبته 50 في المئة من مداخيلهم من ضريبة الدخل. وقد اتخذ مجلس الوزراء العراقي هذه القرارات على أن يعود لمناقشة جدواها بعد عام من الآن، إذ أن القرار في شأن الاستمرار فيها أو وقفها سيكون في يد المجلس الذي سيتخذ قراره في ضوء عام من التطبيق يبرز نتائجها. وقد جاءت هذه الإجراءات، في إطار خطة شاملة لتصويب الأوضاع الخاصة بنظام الضرائب وطريقة تحصيلها في العراق. علما بأن هناك قرارات أخرى أصدرتها هيئة الضرائب في العراق تتضمن وضع ضوابط جديدة لتحديد النسب المفروضة على ضريبتي الدخل والعقار بموجب تقسيم خاص للشرائح المعنية بهذه الضرائب. وجاءت هذه الإجراءات بعد اكتشاف المسؤولين في العراق أن إجراءات تحصيل الضرائب في البلاد تكتنفها معوقات عديدة، وأن هناك قسما كبيرا من النشاط الاقتصادي في العراق يفتقر إلي التنظيم. إذ أن هناك نسبة كبيرة من المعاملات الاقتصادية ونسبة مماثلة من الأثرياء ورجال الأعمال الكبار لا يخضعون للضرائب. ولوحظ أن صدور هذه القرارات في الصيف الماضي تزامن مع إقرار حوافز للعاملين في مجال تحصيل الضرائب، وبينها قرار حكومي بمنح الموظفين العاملين في هذا القطاع ما نسبته 2.5 في المئة من الحصيلة الضريبية الإجمالية سنويا، وذلك تشجيعا لهم على التطبيق الصارم لنظام تحصيل الضرائب الجديد. وفي الإطار نفسه يمكن وضع السعي الحكومي إلى تحويل "معبر المنذرية" الذي يربط العراق بإيران إلى منفذ لدخول مستوردات العراق من المواد الغذائية والأساسية التي يشتريها من عائدات النفط الذي يبيعه بموجب اتفاق النفط مقابل الغذاء. وسوف يضاف هذا المعبر إلى المنافذ الأخرى بين العراق وكل من الأردنوتركيا وسورية إضافة إلى ميناء أم قصر العراقي وكلها منافذ تدخل منها المستوردات العراقية بموجب الاتفاق المشار. ومعبر المنذرية هو المركز الحدودي الذي افتتح في العاشر من شهر آب أغسطس الماضي ليدخل منه الحجاج الإيرانيون الراغبون في زيارة الأماكن الدينية المقدسة لدى الشيعة في بغداد والنجف وكربلاء وسامراء وغيرها من المدن العراقية. ويسعى العراق حاليا إلى استصدار موافقة على تحويل المعبر إلى منفذ حدودي، من لجنة العقوبات الدولية التابعة للأم المتحدة، فمن المعروف أن السلع والبضائع والمواد المستوردة إلى العراق في إطار الاتفاق المذكور تخضع للرقابة الدولية. وبتحويل معبر المنذرية الحدودي إلى منفذ للسلع المستوردة بموجب اتفاقية النفط مقابل الغذاء يصبح عدد هذه المنافذ خمسة تصل أربعة منها العراق بالبلدان المحاذية له وهي الأردنوتركيا وسورية وإيران. أما الخامس، وهو ميناء أم قصر الواقع على بحر العرب، فيصل العراق بالخارج من طريق البحر. إلى ذلك فإن العراق يسعى أيضا إلى إقامة منطقة حرة قرب معبر المنذرية وآخر قرب ميناء أم قصر العراقي، فالاستعدادات تجرى لذلك منذ مدة، ما يعني أن افتتاح هذه المنطقة هي فقط مسألة وقت. وكان العراق افتتح منطقة حرة بالقرب من حدوده مع تركيا في العام 1993 وعلق خطة لفتح مثل هذه المنطقة في الجزء الشمالي الغربي القريب من حدوده مع الأردن. كما أن هناك منطقة مفتوحة قرب التخوم الفاصلة بين العراق ومنطقة الحكم الذاتي الكردية التي يمنع الوجود العراقي الرسمي فيها. وهذه المنطقة مزدهرة إلى درجة أن النظام العراقي كثيرا ما يلجأ إليها للحصول على بعض متطلباته من السلع.