ربّما بالغ الناقد جابر عصفور في وصفه الأداء اللغوي لدى بعض شعراء قصيدة النثر المصريّة ب"الزبالة". لكنّ مبالغته هذه عبّرت خير تعبير عن مأساة تعتري لا القصيدة المصرية الشابة فقط وإنّما النتاج الشعريّ العربيّ الذي يدّعي "الحداثة" زوراً وبهتاناً ويرتكب تحت عنوانها الكبير هفوات و"حماقات" هي أبعد ما تكون عن الصنيع الشعريّ. والمؤسف أن بعض الشعراء لا يعمدون الى "تفجير" اللغة وبعثرتها وخلخلتها فحسب وإنّما "ينظّرون" للركاكة والإسفاف وفي ظنّهم أن الشعر لم يعد يحتاج الى اللغة كي يستقيم وينهض ويفرض نفسه. ولا أحد يدري من أين أتى هؤلاء بهذه النظريّة التي لم يدعُ اليه أي شاعر حقيقي وأصيل، حديثاً كان أم قديماً. حتى السورياليون الذين دعوا الى "الكتابة الآلية" وسواها لم يُسقطوا عن اللغة هالتها. حتى رامبو شاعر الهذيان والهلوسة تحدّث عن "تخريب الحواس" وليس عن تخريب اللغة بل هو لاذ الى الصمت حين اكتشف لغته. ويكفي أن يقول مالارميه أحد روّاد الحداثة الشعرية في العالم أنّ الشعر تصنعه "الكلمات" لتبرز مكانة اللغة في الفعل الشعريّ. أمّا الشعراء الأميركيون المعاصرون الذين عُرفوا بجنونهم وعبثهم وفوضاهم الكبيرة فلم تكن قصائدهم إلا مغامرة سافرة داخل اللغة. وبعض "نظريات" ألن غينسبرغ الشاعر والأكاديمي في الحين عينه تكفي لتؤكّد الهمّ الذي تشغله اللغة في قصائده المجنونة والهاذية. إن مقولات مثل "تفجير" اللغة و"تحطيمها" وتجاوزها لا تعني في أيّ من أبعادها الوقوع في الركاكة والأسفاف ولا ارتكاب الأخطاء الفاضحة والهفوت ولا التخلّي عن اللغة كأداة أولى للتعبير. و"جدار اللغة" الذي تحدّث عنه أحد بيانات مجلّة "شعر" قبل توقّفها الاول لم يشر الى مصطلح اللغة أو مفهومها مقدار ما دلّ على أزمة في التعبير عاناها بعض شعراء المجلّة ولم يحفل بها البعض الآخر. والثورة على اللغة لم تعنِ يوماً التخلّص منها ومن قواعدها بل كانت دعوة الى التحرّر من وطأة الدلالات التي تحفل بها ومن أسر المعاني التي تفترضها مسبقاً. كم يتمنّى بعض "الشعراء" اليوم أن يكتبوا خارج اللغة ومن دونها. يتمنّون لو أنّهم "يخرطشون" القصائد "خرطشة" بعيداً عن أي همّ لغويّ. والحجّة التي يتذرّع بها هؤلاء أنّ على الشعر أن ينفتح على بقية الفنون وأن يفيد منها كاسراً عزلته. لكنّهم تناسوا أن الفنون الأخرى تملك قواعد لا يمكنها أن تستقيم من دونها. والثورات العنيفة التي شهدها الفن المعاصر إنّما قامت انطلاقاً من قواعد أخرى تختلف عن قواعد الفنون القديمة. إلا أنّ الدعوة الى "سلامة" اللغة الشعرية والى "سلامة" الأداء الشعري يجب ألا تُفهم وكأنّها دعوة للعودة الى البلاغة والفصاحة وسواهما من ضروب البيان... فالبلاغة والفصاحة اليوم أصبحتا من "مخلّفات" الماضي ومن الأرث الذي تناقلته القرون الفائتة. ولعلّ هجاء "النفّري" نفسه للفصاحة العربية هو خير مثل يمكن أن يُقتدى به. فالفصاحة والبلاغة هما "مقتل" الابداع الشعريّ ولا سيّما عندما تكونان مجرّد لعب لغويّ خالٍ من أيّ مضمون أو مجرّد "عنترة" لفظية خاوية وفارغة. والقصائد الحديثة التي تتعمّد الفصاحة اليوم هي في معظمها قصائد لفظية ترنّ وتطنّ وتعجّ عجيجاً ولا تؤتي أي ثمر. إذن لا للركاكة والأسفاف في الشعر ولكن أيضاً لا للفصاحة والبلاغة المجانيتين. فالقصيدة الحقيقية تكمن في حيّز لغويّ هو بين بين، بين التحرر من تحجّر اللغة والاعتناء بها، بين الخروج عن سلطتها والاستسلام لأبعادها الجمالية. فالشعر هو أولاً وآخراً صنيع لغوي ولا يمكنه إلا أن يكون هكذا سواء أكان موزوناً ومقفّى أم حرّاً أم نثراً. والصنيع اللغوي هو الوجه الآخر لما تكابده اللغة حين "يعتنقها" الشاعر من أحوال ورؤى وآلام واختبارات روحية. تُرى أليست اللغة الشعرية هي "العمق" الذي تحمله في قرارتها؟ أليست هي المكابدة نفسها والرؤيا نفسها والوعي الجمالي والداخلي نفسه؟