للاديب السوداني الكبير الطيب صالح رواية شهيرة اسمها "موسم الهجرة الى الشمال" ظلت سنوات كثيرة، ولا تزال، تدرس في الجامعة الاميركية في القاهرة باعتبارها من عيون الادب العربي الحديث، وهي بالفعل كذلك، ولمست من طلاب هذه الجامعة اعجابا شديداً بالرواية، سنة بعد اخرى، مما جعل المسؤولين في الجامعة يوجهون الدعوة الى مؤلفها للالتقاء باطلاب في محاضرة يلقيها وتعقبها مناقشة عامة، وجاء الطيب صالح منذ سنوات عدة لتلبية هذه الدعوة، وألقى محاضرة ممتعة بالانكليزية، كان عنوانها، لو ترجم الى العربية "تفاهة الشهرة"، وكانت تدور حول الفكرة الطريفة الاتية: "كلما حدث له شيء يجعله يعتقد انه اصبح رجلا مشهوراً، فيصيبه من ذلك بعض الشعور بالكبر والخيلاء، حدث له بعد ذلك مباشرة شيء يجعله يشعر بانه ليس في الحقيقة بهذه الدرجة من الاهمية، وبأن هناك آلافاً مؤلفة من الناس المهمين ايضا والذين لا يعرفونه ولا يأبهون لوجوده". بعد انتهاء المحاضرة فتح باب المناقشة وإذا باحدى الطالبات توجه اليه سؤالا عن القومية العربية او الوحدة العربية او شيء من هذا القبيل، مما كان يتعلق بحادث سياسي مهم كان وقع قبل ذلك بايام قليلة، ابتسم الطيب صالح اشفاقا على نفسه وعلى الطالبة، وقال لها ما معناه إن كونه اديباً معروفاً او كونه يعرف كيف يكتب قصة ناجحة، ليس معناه ابداً ان يكون ممن يفهمون في السياسة، او ان يكون رأيه في السياسة ذا اهمية، او يفوق في اهميته رأي اي شخص آخر ممن لا يكتبون القصص. لم تكن الاجابة متوقعة، فالعادة ان يتخذ الاديب الكبير او الفنان العظيم هيئة المفكر الكبير لدى توجيه اي سؤال من هذا النوع اليه، ويدلي فيه بدلوه، ايا كانت بساطة تفكيره بل وربما سذاجة هذا التفكير متى خرج عن نطاق فنه الذي يجيده، والعادة ايضا الا يلتفت الناس الى سذاجة هذا الفكر، ويأخذون اي شيء يصدر من هذا الفنان الكبير وكأنه الحكمة نفسها، ويذهبون مذاهب شتى في استخراج المعاني العميقة من اي شيء يتفوه به. هذا خطأ شائع نقع فيه جميعاً، فالظاهر ان من الصعب على ذهن الانسان ان يميز بين جوانب الانسان المتعددة، وان من الاسهل بكثير ان تحكم على الشخص ككل، حكما واحداً جاهزا، لا يميز بين جانب من فكر هذا الشخص وجانب آخر، ولعل هذا الميل الشائع لدينا في الحكم على الناس، هو الذي يجعلنا نتراوح بين الحب الشديد لشخص ما في وقت من الاوقات، والسخط الشديد عليه في وقت اخر، بين التقدير البالغ لشخص واحتقاره احتقاراً تاماً، ويجعل من الصعب جداً علينا ان نقبل نصيحة البعض بعدم الاندفاع في هذا الاتجاه وذاك، على اساس ان هذا الشخص الذي تصدر هذه الاحكام القاطعة عليه ليس بهذه العظمة التي نظنها، ولا هو بهذا السوء. المهم أني اتفقت مع الطيب صالح تماماً في هذا القول، على رغم اعتقادي الراسخ بان معظم الحاضرين لا بد أنهم اخذوه على سبيل المزح، ورفضوا رفضا باتاً ان يتخلصوا من فكرة ان الطيب صالح، ما دام اديباً عظيماً، لا بد ان يكون مفكراً سياسياً عظيماً في الوقت نفسه. تذكرت ما حدث مع الطيب صالح بمجرد انتهائي من قراءة هذا الكتاب الممتع الذي يحمل الى جانب اسم نجيب محفوظ اسم رجاء النقاش، وتحت الاسمين كتب "صفحات من مذكراته واضواء جديدة على ادبه وحياته" مركز الاهرام للترجمة والنشر - القاهرة 1998. والكتاب يضم ما قاله نجيب محفوظ لرجاء النقاش خلال خمسين ساعة من الحديث المسجل، عن حياته وآرائه المختلفة في الناس والادب والسياسة. الكتاب اذن هو سيرة ذاتية للاديب الكبير ولكنه لم يخطها بقلمه بل قالها شفاهة من دون ترتيب او اهتمام باللغة، ولعل معظمها قيل بلغة تتراوح بين العامية والفصحى، ثم دونها رجاء النقاش وصنفها، وصاغ العامي منها بالفصحى. لا بد اذن من ان يشكر رجاء النقاش على هذا العمل البالغ الفائدة، الذي يلقي بالفعل ضوءاً ساطعاً على شخصية نجيب محفوظ وطبيعة نظره الى الامور، وهو امر مهم نظراً الى اهمية الرجل ومكانته الادبية الرفيعة والدور المهم الذي لعبه في حياتنا الثقافية. وإن كان لا بد أن قارئ الكتاب سيلاحظ ان رجاء النقاش بذل في الكتاب ما يكاد يبلغ الحد الادنى من الجهد، فالمقدمة التي كتبها قصيرة ولا تحتوي على شيء ذي بال، والهوامش التي اضافها هي بدورها قليلة ومقحمة من دون مبرر قوي، والكتاب لا يخسر الكثير بحذفها. ولكن الكتاب فضلا عن ذلك، ممتع للغاية، صحيح انه لا يحمل اسلوب نجيب محفوظ الجميل في الكتابة، وهو ما كان لا بد من فقده في عمل كهذا، ولكن يعوض ذلك ان نجيب محفوظ كان على الارجح، لو امسك بالقلم لكتابته، سيمتنع عن ذكر اشياء كثيرة مما قاله فعلاً، إما لأن الكلام اسهل من الكتابة والتعبير الشفوي يأتي اكثر طواعية من التعبير بالكتابة، او لأن نجيب محفوظ كان على الارجح اذا امسك بالقلم سيخضع نفسه، لرقابة اشد مما خضع لها وهو يتكلم، حتى ولو كان هذا امام جهاز التسجيل، فمنع المرء لنفسه من ان يقول الحقيقة كاملة، اصعب، في ما يبدو، من منعها من ان تكتب الحقيقة كاملة على الورق، وكانت نتيجة ذلك ان اصبح لدينا كنز من المعلومات والآراء الصادرة من شخص عظيم، عاش حياة طويلة وحافلة، تعرف خلالها الى كثير من الشخصيات المهمة، التي يشوقنا معرفة ادق التفاصيل عنها. ومع ذلك سأورد هنا تحفظا لا بد ان يرادونا بعض الاسف بسببه، وهو ان نجيب محفوظ، على رغم الشهرة الواسعة التي حققها، والنجاح الباهر الذي جلبه له الادب، ناهيك عن جائزة نوبل التي اتت اليه منذ عشر سنوات، وامتداد عمره الى ما يقارب التسعين، مد الله في عمره ومنحه الصحة والعافية، على رغم كل ذلك فإن المرء منا كان يمكن أن يتوقع ونأمل أن يكون الأشخاص المهمون الذين يتكلم عنهم نجيب محفوظ أكثر بكثير ممن ورد الكلام عنهم في هذا الكتاب، والأحداث التي يعلق عليها أكثر بكثير، والأماكن والبلاد التي طاف بها أكثر وأعظم. بل وحتى الشخصيات التي يتكلم عنها بالفعل، كان من المأمول أن يأتي كلامه عنها أكثر وأعمق مما حصلنا عليه بالفعل في هذا الكتاب أو في غيره من الأحاديث التي نشرت على لسانه خصوصاً بعد نيله جائزة نوبل. وقد يكون لهذا تفسيرات كثيرة، ولكن ربما كان أهمها نمط الحياة الذي اختاره نجيب محفوظ لنفسه. إنه رجل يجلس مع الكتاب والورق والقلم أكثر بكثير مما يجلس مع الناس. وهو يفكر أكثر بكثير مما يسافر ويتحرك، إنه يتأمل الأفكار أكثر مما يتأمل المناظر أو الناس. إنه يهوى الاستماع الى الناس بلا شك، ولكنه في ما يبدو يعشق القراءة أكثر من ذلك بكثير. وهو زاهد جداً في رؤية بلاد جديدة. وكذلك، على الأرجح، في مقابلة أشخاص جدد. هل يتصور أحد بسهولة أن هذا الرجل العظيم ليس لديه تجربة في الريف إلا تجربة وحيدة تنحصر في إقامته في الفيوم أسبوعاً واحداً وهو طفل صغير، وقد أصر على عودته الى القاهرة فخضعوا لطلبه، وأنه لم يذهب الى الصعيد في حياته ولا مرة واحدة ولم ير الأقصر أو أسوان أو أياً من الأماكن الأثرية المشهورة هناك؟ يقول إن معرفته بالريف المصري والصعيد جاءت فقط من خلال قراءة الأعمال الأدبية ك"دعاء الكروان" و"الأيام" لطه حسين، وأنه اكتفى في التعرف على الصعيد بالقراءة والاستماع الى ما يقوله الآخرون. والسبب هو "الكسل"، ولكني لا أصدق هذا بسهولة أو هو على الأقل كسل من نوع خاص جداً. فنجيب محفوظ أبعد الناس عن الكسل سواء في أداء عمله أو في تريضه اليومي. إنه مجرد الافتقار الى الرغبة الكامنة في رؤية أماكن جديدة. الأغرب من هذا زهد نجيب محفوظ في السفر الى الغرب، فهل يستطيع أحد منا بسهولة أن يتصور أن هذا الرجل الحكيم، العاشق للفن والأدب، لم يبذل أي جهد لرؤية أوروبا وأميركا، على الأقل لكي يرى بنفسه هذا "الغرب" الذي شكّل الموقف منه أهم مشكلة فكرية واجهت مفكري أمته، جيلاً بعد جيل، منذ رفاعة الطهطاوي الذي يلخص الموقف منه مشكلة التقدم والتخلف كلها؟ كيف استطاع نجيب محفوظ، هذا الرجل الذي لا شك في قوة ما لديه من حب الاستطلاع أن يقاوم الرغبة في استطلاع هذا العالم الغربي لتكوين رأيه الخاص فيه؟ لاپبد أن يعتري الواحد منا الشعور بالأسف، إذ يجد نفسه حرم من معرفة رأي هذا الرجل العاقل المبني على المعاينة المباشرة للغرب. ولاپبد من أن يعتري المرء منا بعض التحفظ عندما يقرأ إشارات نجيب محفوظ المختصرة والمتناثرة الى موقعه من الحضارة الغربية ومن التقدم والتخلف. إن نجيب محفوظ مهتم بلا شك بپ"التنمية"، فهو كثيراً ما يشير إليها باعتبارها إحدى الأماني الغالية الجديرة بالاستحواذ على جل اهتمامنا، وهو يعبر عن قلقه من عجزنا عن اللحاق بهذا العالم المتقدم الذي يتسارع معدل تقدمه يوماً بعد يوم، بل إنه يرى أن وسيلتنا الأساسية بل لعلها في نظره الوسيلة الوحيدة لاسترداد حقوقنا من إسرائيل هي التقدم والتنمية. فكيف نقبل بسهولة هذه النصيحة منه وهو لم يعاين الغرب وهذا العالم المتقدم معاينة شخصية، واعتمد في تكوين رأيه فيه إما على الكتب والصحف أو على سماع ما يختار أصدقاؤه ومعارفه نقله إليه من أخبار هذا العالم المتقدم؟ كيف نتأكد من أن نجيب محفوظ يعرف بالضبط المعاني والصور المختلفة لتلك "التنمية" التي يحرص عليها هذا الحرص؟ فإذا كانت معرفته لمعنى التنمية، ممكنة من الكتب، فهل من الممكن حقاً عن طريق الكتب والاستماع وحدهما، إدراك ما أصاب الأوروبيين والأميركيين من هوس بالسلع، والمعنى الحقيقي للمجتمع الاستهلاكي، والأثر الحقيقي للتلفزيون الاميركي، ووسائل غسيل الدماغ المختلفة في هذا العالم المتقدم؟ من المؤكد أن ما يستطيع أن يستخلصه رجل بهذه الدرجة من الذكاء والحكمة التي يتمتع بها نجيب محفوظ أكثر بكثير مما يستطيع أن يستخلصه غيره من الكتب، ولكن من المؤكد أيضاً أن رجلاً كهذا كان لاپبد من أن يرى بعينيه ويلمس بيده - لو كان ذهب بنفسه للاطلاع على هذا الغرب - أكثر بكثير مما رأيناه نحن ولمسناه. نجيب محفوظ يعشق الموسيقى العربية عشقاً، ومن أكثر فصول الكتاب إمتاعاً ذلك الفصل الذي يتكلم فيه عن تجربته مع هذه الموسيقى. ومن أكثر الشخصيات التي تحمّس لها نجيب محفوظ في كتابه ووصفها وصفاً مؤثراً شخصية زكريا أحمد. وهو يعود الى ذكر الموسيقى العربية من حين لآخر، وهو في أحاديثه التي أدلى بها منذ أسابيع قليلة، في مناسبة مرور عشر سنوات على حصوله على جائزة نوبل، يذكر أن الشيء الذي يأسف له خصوصاً بسبب ضعف سمعه، هو عجزه عن الاستمتاع بالموسيقى العربية، بخاصة أغاني أم كلثوم وعبدالوهاب. ويذكر لنا أيضاً في الكتاب الأخير، أنه قادر أيضاً على الاستمتاع بالموسيقى الغربية، وإن كان الكتاب لا يحتوي على أي إشارة إلى موسيقي غربي واحد أو قطعة موسيقية غربية. وهو أمر ليس بالمستغرب من رجل لم يعش في أي مدينة غربية. ولكن الرأي الذي استوقفني ولم أتعاطف معه، رأيه في ما فعله محمد عبدالوهاب بالموسيقى العربية، فهو يقول: "إن عبدالوهاب أغنى موسيقانا وأثراها وطوّرها من خلال هذا التأثر بالغرب، وقد مزج بين اللونين الشرقي والغربي ببراعة، وجعل منهما نسيجاً واحداً متناغماً". ويقول إنه "يختلف مع الذين زعموا أن محمد عبدالوهاب أفسد الموسيقى الشرقية". وهو لا يستطرد أكثر من هذا ولا يناقش هذا الأمر المهم بتفصيل أكبر. لا أظن أن المسألة هي مجرد اختلاف بين الأذواق، وإنما هي مسألة تتعلق بصميم قضية الأصالة والمعاصرة، وربما كان الحل الصحيح لها في الموسيقى هو نفسه الحل الصحيح لها في السياسة والاقتصاد أيضاً. واتخذ نجيب محفوظ في ما مارسه من أدب، الحل الصحيح في رأيي، فهو لم يسمح للأدب الغربي بأن يؤثر في أدبه تأثيراً يفسد هويته ويمحو شخصيته على عكس ما فعله عبدالوهاب في الموسيقى بل ظل نجيب محفوظ صادقاً ومخلصاً تماماً لأدبه وموضوعه، ولم يكتب إلا كما يحسّ. ويقول بصراحة عندما يتكلم عن بعض الاتجاهات الحديثة في الأدب الغربي، إنه يرفضها رفضاً تاماً ولا يتعاطف معها ويجد صعوبة كبيرة في فهمها، كما أنه لم يكن راضياً عن استعداد توفيق الحكيم لمجاراة بعض المذاهب الجديدة في الأدب الغربي لمجرد أنها جديدة. ولكننا كنا نحب أن يتعرض نجيب محفوظ بتفصيل أكبر. وبدرجة أعمق لمناقشة هذه القضية: قضية الأصالة والمعاصرة، خصوصاً أنها تصب في النهاية في قضية نهضة الأمة وتقدمها، ولكن كلام نجيب محفوظ في هذا الصدد لم يتجاوز العموميات، إنني أدرك تماماً أننا يجب ألا نطالب الرجل بأكثر من اللازم. لقد قدم لنا نجيب محفوظ ما يفوق بكثير قدرتنا على الشكر والثناء، واستطاع بقوة إرادته وإصراره أن يجعل حياته خصبة ومثمرة الى أبعد الحدود. ولو كان الرجل ذهب الى الغرب ايضاً، او وجه جهداً أكبر لمناقشة هذه القضية ايضاً، قضية الاصالة والمعاصرة، فلربما كان ذلك على حساب اشياء اخرى ثمينة. كل هذا صحيح، ولكن هذا لا يمنع شخصاً من المهتمين بهذه القضية من الشعور بالاسف لأن رجلاً له أهمية ودور نجيب محفوظ لم يمنح هذه القضية جزءاً اكبر من وقته وفكره.