بدا المعلقون الأردنيون، الذين خاطبوا الأميركيين في أعقاب وفاة الملك حسين، كأنهم مجمعون على نقطة واحدة، هي ان شرعية الحكم، التي اكتسبها العاهل الراحل على مدى نحو سبعة وأربعين عاماً، انتقلت أو تحولت بسلاسة، وعلى نحو لا تشكيك فيه ولا تساؤل، الى ولده ووريثه الملك عبدالله. لكن المراقبين يتساءلون عما اذا كانت تعليقات الأردنيين تستند الى الواقع والحقيقة أم أنها تعكس الآمال والمخاوف التي أثارها رحيل الرجل الذي جسّد المملكة الهاشمية في عقول عدد كبير من الناس بالنسبة اليهم. ويكمن الجواب على التساؤلات، الى حد بعيد، في شخص الملك الجديد وفي نيات أقربائه وطاقاتهم، وفي عقول النخبة السياسية الأردنية. وإذا كان الحكم الجمهوري يُذكر بين الحين والآخر في بريطانيا، حيث ساد الحكم الملكي على مدار ألف عام باستثناء فترة قصيرة عابرة، فلا يستطيع أحد ان يفترض ديمومة الملكية في عمان، وهي الملكية التي أُرسيت قواعدها منذ أقل من ثمانية عقود فقط. والحقيقة هي ان الأكثر خطراً في ما يمكن ان يفعله الملك الجديد هو ان يتقبل من دون إمعان وتأمل ما يقوله القريبون اليه والمعلقون. وإذا أراد ملك الأردن الجديد ان يطلع على الحقيقة العارية، فمن المحتمل ان يحصل عليها من الذين كان والده الراحل يعتمد عليهم لإعلامه بهذه الحقيقة. ومن هؤلاء الأمير زيد بن شاكر ومروان القاسم. وفي خلال فترة حكمه الطويلة والحافلة بالأحداث "جنى" الملك حسين الشرعية التي يقول البعض الآن أنها انتقلت بسلاسة الى ولده. لكن الحقيقة هي ان فترة حكم الملك حسين شهدت أحداثاً في الخمسينات والستينات، وصلت الى ذروتها عام 1970/71، بدت معها شرعية الملك حسين كأنها تسير الى زوال. وعلى رغم ان الملك حسين ولىّ وهو في قمة شهرته كرجل دولة وكزعيم حكيم، لم يصل الى ما بلغه بسهولة، ولم يستهن هو نفسه بأي أمر مهما كان صغيراً. ففي عقد التسعينات نفسه اضطر الملك الراحل الى السير مع موجة عارمة من التأييد الشعبي لديكتاتور في بلد مجاور بدلاً من ان يعارض هذه الموجة أو يقف في سبيلها. ورغم ان ملك الأردن الراحل سيُذكر بحزن طالما بقيت ذكراه حية في عقول الذين يعيشون حالياً وقلوبهم، يتعين على زعماء الأردن ان يفكروا بأمور كثيرة خلال فترة الحزن الرسمي الحداد الرسمي الراهنة. وفي وسع الاحترام الكبير العام الذي حظي به الملك الراحل، ومشاعر الحزن الحقيقية المخلصة التي أعرب عنها الأردنيون، ان تحجب، لكن على نحو عابر فقط، حقيقة بينة وهي ان عدداً كبيراً من الأردنيين لم يكن سعيداً بوضع المملكة وبأحوالها وقت وفاة الملك. والحقيقة هي ان الأدلة غير متوافرة أبداً على ان الملك الراحل كان في وسعه ان يحل أياً من المشاكل التي يواجهها الأردن حالياً لو ان الله تعالى أطال عمره بضعة أعوام. ومن هذه المشاكل: - الوضع الاقتصادي: بالنظر الى تراجع أهمية العراق الذي كان محرك التوسع الأردني في الثمانينات، يشهد الاقتصاد الأردني ركوداً منذ اعوام. وبالنظر الى ان حكومات الأردن المتعاقبة صرفت جل اهتمامها الى العملية السلمية، غرقت مشاريع التخصيص في مستنقع، فيما توقف التحديث الاقتصادي وتباطأت عملية إعادة تأهيل بنى الأردن التحتية، خصوصاً قطاع الماء في هذه البنى. وبالنظر الى وصول معدلات البطالة الأردنية الى 25 في المئة، يجد خريجو الكليات الأردنية صعوبة في العثور على عمل، وتجد بالتالي الطبقة الوسطى الوليدة، بل قل الرضيعة، رقعة أرضها تتقلص. - الفساد: أدى تراجع الفرص الاقتصادية السانحة أمام الأردنيين كافة الى صرف اهتمامهم الى ما يقال عن وجود فساد وسوء سلوك في صفوف ذوي المستوى الرفيع النخبة، وقال ديبلوماسي غربي بارز وهو سفير سابق الى الأردن أن أولاد النخبة الأردنية خدموا حتى عهد قريب في الجيش وفي السلك الديبلوماسي وفي الحكومة وفي القصر الملكي. أما الآن فهم رجال أعمال يسعون الى التوكل عن شركات اجنبية. وعندما يفلحون، بفضل ما يبذلونه من جهد حثيث وتفكير لامع، يعتبرهم الأردنيون مستفيدين من سمعة الكبار فيهم ومن نفوذهم. ولهذا تتعرض الأسر الأردنية الأولى، بصرف النظر عما إذا كانت صحيحة أم غير ذلك، لخطر نشوء صورة سلبية عنها في أذهان الأردنيين خصوصاً عندما تكون الأحوال الاقتصادية العامة صعبة ومتأزمة. - الأخذ بالديموقراطية: بالنسبة الى الملك حسين الراحل كانت الديموقراطية تكتيكية، صمام أمان سياسياً، لاغاية وهدفاً. ورغم كياسته الشخصية واحترامه لحقوق الانسان، لم يتسم حكمه الطويل وصراعه في سبيل اكتساب الشرعية بالميل الى نقل السلطة الفعلية من القصر الملكي الى الحكومة والبرلمان. وصارت الحكومة الأردنية مسؤولة وعرضة للمساءلة والمحاسبة، لكن السلطة الفعلية بقيت في القصر الملكي، ما أدى الى تحول الحذر وعدم الامتياز الى مؤسسة على رغم ما يتمتع به الأردن من رجال ونساء لامعين يعملون في الخدمة العامة. - الأمن الوطني: عندما عقدت معاهدة السلام مع اسرائيل عام 1994، اعتقد الملك حسين، ولم يكن ثمة ما يحول أبداً دون هذا الاعتقاد، أنه حيّد ما كان ربما أكبر تهديد بالقوة الكامنة للحكم الهاشمي، أي احتمال تحول الأردن الى فلسطين، كما كان كبار الاسرائيليين يقولون بين الفينة والأخرى، أو ان يقيم الفلسطينيون دولتهم لا في القدس، بل في عمان. ولم يكن بوسع الملك ان يدرك، منذ نحو نصف عقد من الزمن، ان شبح "الأردن هو فلسطين" سيُنعش، ربما على نحو غير متعمد، على لسان رئيس وزراء اسرائيلي مصمم على التضييق الى أبعد حد ممكن على مدى حكم الفلسطينيين لأنفسهم الذاتي في منطقتي الضفة الغربية وغزة. فالملك عبدالله يرث من والده الراحل وضعاً يعتبر معه معظم الأردنيين السلام مع اسرائيل سلاماً لا معنى له، أي سلاماً مع الملك فقط. - الهوية الوطنية: هذه مسألة حساسة وتشكل لب المشكلة. لقد أفلح الملك الراحل، خلال خمسة عقود طويلة، في اكتساب الشرعية السياسية والاحتفاظ بها في مواجهة تحديات قوية جداً من المؤمنين بالقومية العربية ومن الفلسطينيين. وصار الملك الراحل مع الوقت الرمز الحي للاردن، وحاز على احترام الجميع بمن فيهم أولئك الذين كانوا يريدون اسقاطه لو تيسر لهم الأمر. وصارت غالبية الأردنيين الساحقة، بصرف النظر عن الضفة التي يعيشون عليها ضفة الأردن، تعتبر الملك هو القاسم المشترك الأكبر، أو الشخص المحتمل اكثر من غيره بكثير ان يمنح الأردنيين كافة فرصة العيش بكرامة وعلى نحو منتج. وفي بعض الأحيان نبع هذا الشعور من الخوف من احتمال قبض "آخرين" على السلطة في آخر المطاف. وفي احيان أخرى التف الناس حول الملك رغم ذلك الخوف. وقد يكون الأردني الشاب اليوم أقل تفهماً لهذه التطورات والأوضاع كلها من أبيه وجده. وإذا كان هذا هو الحال، قد يتفادى الملك عبدالله الذيول السلبية للحوارات العلنية حول الولاء المزدوج وما شابه ذلك الولاء للاردن أو للأمة العربية الأكبر. ومع هذا يبقى السؤال يدور على كل شفة ولسان وهو: بعد رحيل الملك حسين، من هو الأردني؟ يكمن الجواب في تساؤل آخر وهو هل من قبيل الإفراط في الخيال القول ان على الملك عبدالله ومؤيديه ومناصريه ان يجددوا معاً شرعية حكم الهاشميين؟ وذلك في ضوء حقيقة لا جدال فيها وهي ان الملكية البريطانية اهتزت على نحو عنيف بسبب سلوك صغار العائلة المالكة رغم ان عمر هذه الملكية هو نحو ألف سنة. وهل من غير المعقول القول ان المطلوب من الملك الجديد اقناع الأردنيين بأن الحكم الهاشمي يبقى ذا قيمة مضافة سواء حاول هذا الملك محاكاة والده الراحل في طريقة الحكم واسلوبه أم تحرك نحو الحكم الدستوري عن طريق امداد البرلمان الأردني بالقوة والسلطة؟ ولا بد من القول ان نيات الأردنيين حيال الملك عبدالله واسرته وحيال الأسر التي كانت دائماً تقف بشجاعة الى جانب الهاشميين، طيبة وحسنة بفضل العملاق الذي غيّبه الموت. وفي وسع الملك ومؤيدوه ومناصروه ان يستفيدوا من حسن هذا البناء. ومع هذا ستبدأ المحاكمة مرة ثانية في اليوم الحادي والأربعين الذي يلي رحيل الملك حسين. * باحث متخصص في شؤون الشرق الأوسط، شريك في "ارميتاج اسوشيتس" ارلينغتون ولاية فرجينيا.