كان الوقت مساء، من يوم الأحد 4 تشرين الأول اكتوبر عام 1992، حيث يتوزع الهولنديون بين شاشات التلفزيون يتفرجون على مباريات كرة القدم نهاية الاسبوع او التمشي في الحدائق العامة قبل مواصلة اسبوع عمل جديد، عندما سقطت طائرة البوينغ 747 التابعة لطيران شركة العال الاسرائيلية فوق مجمع بيلمير السكني الذي يضم مجموعة كبيرة من البنايات الشاهقة التي يقطنها المهاجرون في الغالب. هذا الحادث ظل يهجس في اذهان المواطنين والمسؤولين منذ ست سنوات لأن كل زاوية منه حوت غموضاً بقدر ما. وبين الفضول الصحافي والوقائع المادية الملموسة بدأت ملامح قضية تشبه جبل الجليد الذي لا يظهر منه فوق سطح الماء سوى عشر حجمه. أول تلك الملامح وأكثرها ايلاماً هو انه كان بالوسع ان تتجنب المنطقة تلك الكارثة البشرية التي اودت بحياة الكثير من الناس لو أراد الطيار الاسرائيلي ذلك. فهو استمر في الطيران ثلاث مرات فوق المنطقة وكان بوسعه النزول بها بعد عطل محركين فيها، فوق سطح مياه بحيرة ايسليمر المجاورة، او في الحقول الخالية التي تحيط بالمطار، ولكن الاسرائيليين اصروا، بتعليمات من تل أبيب، وبالتحديد من ادارة جهاز المخابرات "الموساد" ان تعاود الطائرة الهبوط في مطار امستردام الذي كانت انطلقت منه قبل أقل من نصف ساعة. قبل سقوطها واصطدامها بالعمارة السكنية كان الطيار تلقى أمراً من جيرون بليتنبرخ ضابط الموساد على متنها بأن يكرر ويستمر بالمحاولة. انحرفت الطائرة نحو الأرض باتجاه العمارات العملاقة وفكر الطيار ان بوسعه المرور بين اثنتين منهما حيث فسحة حجمها لا يتجاوز 20 متراً، تجاوزها الطيار ولكنه سقط على العمارة الثالثة. الآلة العملاقة حفرت ثغرة طولها 50 متراً تقريباً في الشقق السكنية، بعض البيوت انشق الى قسمين، واحد بقي سالماً بسكانه والآخر تحول الى نثار من المعدن والدم والاجزاء البشرية والكونكريت. وهج برتقالي عملاق صعد مساء ذلك الاحد في سماء مدينة امستردام تبعته نيران هائلة وتفجيرات ظلت تتوالى لساعات وسجلتها عدسات التلفزيون. عدد الضحايا لم يعرف قط. قيل أولاً انه 250 قتيلاً، ثم اعلنت مدينة امستردام ان العدد هو 1580، ثم تراجع عمدة المدينة الى رقم 43 قتيلاً تم التعرف على جثثهم. ومع الصدمة الكبيرة رأى العمدة اد فان تاين ان يستعجل البحث بين الحطام فأمر بأن ينتهي كل شيء خلال أربعة أيام، حيث سوت الجرافات المنطقة ورفعت البقايا التي لا تزال تلتهب ويخرج منها دخان وروائح غريبة. منحت الحكومة تعويضات للضحايا على وجه السرعة وسويت مسألة التأمين والضمانات المالية وانتهى كل شيء عند هذا الحد. ولكن التساؤلات الكثيرة التي أثارتها اكبر كارثة جوية في تاريخ البلاد تطورت لتصبح اسئلة جدية وجذبت اقطاب الصحافة والرسميين الى دلالات خطيرة تبدأ ولا تنتهي. فالطريقة التي تعاملت بها حكومة رود لوبيرز رئيس الوزراء مع الحادث كشفت عن اهمال كبير وتجاهل لقضايا تمس صحة المواطنين ومسؤولية الحكومة برمتها. التنقيب العميق للصحافة الهولندية كشف اول الأسرار عندما وضعت اليد على وثائق حمولة الطائرة التي ضمت، على عكس ما قالت هانيا فان - فيخين وزيرة النقل وقتها بأنه زهور وعطور والكترونيات، اسلحة ومتفجرات وغازات سامة منها 240 كغم من مادة ديميثيل ميثيلفوسفونات المعروفة باسم DMMP، وهي المكوّن الأساسي لغاز السارين الذي يعتبر اكثر الغازات السامة خطراً على وجه الأرض وهو يتجاوز بخمس مرات قوة غاز الأعصاب المحرم دولياً. وبعد ان نشرت صحيفة NRC الهولندية صور هذه الوثائق توالت الاعترافات الرسمية وغير الرسمية بطبيعة الحمولة وخطرها على الصحة العامة، ولكن الحكومة الهولندية توقفت عند هذا الحد فقط ولم توافق على الافراج عن بقية مستندات القضية الا بعد ان قاضتها صحيفة اخرى طالبت بالحصول على تسجيلات الاتصال ما بين الطائرة وبرج المراقبة، وبقية الاماكن. وربحت الصحيفة الدعوى ضد الحكومة مما أتاح لها كشف مفاجآت اضافية منها ان الحكومة ومؤسساتها المختلفة ظلت طيلة السنوات الست تخفي اسرار الاسرائيليين وانتهاكاتهم مرة بضغط من تل أبيب، ومرات عديدة بتطوع ومبادرة الهولنديين انفسهم. بلورت التحقيقات والتقارير التي قام بها الصحافيون على رغم انف الحكومة ملفات كاملة يلفها الغموض. وعجلت هذه التقارير في سرعة كرة الثلج التي ازداد حجمها مع كل دورة. ومنذ 23 شباط فبراير الماضي أعيد رسم خريطة الكارثة وسط دهشة الرأي العام الهولندي الذي وجد نفسه امام موظفين مزدوجي الولاء الوطني بين هولندا واسرائيل. وتبين ان ثمة قناعة ان سلطة مكتب شركة العال على مطار سخيهبول الدولي في امستردام اكثر من سلطة الحكومة الهولندية. فالموظفون والمديرون يعملون بسياسة خاصة في ما يتعلق بنشاط مكاتب وهنغارات شركة العال، تختلف عن السياسة التي يطبقونها على أي جهة اخرى في العالم... ستة ملفات غامضة! وبقدر تعلق الأمر بالوقائع فقد ابرزت التطورات منذ انشاء اللجنة البرلمانية الخاصة للتحقيق في الكارثة في الثالث والعشرين من الشهر الماضي ستة ملفات يجري التحقق بصددها وهي: إصرار اسرائيلي: سبب اصرار اسرائيل على الهبوط في مطار سخيهبول بما ينطوي عليه من مخاطر تحطم الطائرة، بدلاً من الهبوط فوق سطح بحيرة ايسلمير او في الحقول المجاورة. ومن الناحية القانونية سيجري تحميل اسرائيل المسؤولية المالية والسياسية للكارثة اذا ثبت انها اجبرت الربان على الخيار الصعب. الوثيقة الوحيدة التي تثبت هذه المسؤولية، سرقت! او اختفت، فقد ابلغ فريق الاغاثة الهولندي ان صندوق التسجيلات الذي عثر عليه سلم الى السلطات الرسمية. ويجري التحقيق حول هذا الامر بالذات، فهؤلاء لا ينكرون استلام الصندوق، بل يدعون انه ربما القي مع بقية القمامة بمحض الصدفة. وهذه الرواية، طبعاً، لم تقنع احداً. الموظفون في برج المراقبة، اكدوا في شهاداتهم ان الطيار اعطى ضابط الموساد جيرون بليتنبرخ الميكروفون ليتحدث الى رؤسائه في تل أبيب على الموجة الاسرائيلية الخاصة، وليس على موجة الطوارئ. وهو ابلغ الطيار بعدم الموافقة على هبوطه فوق البحيرة، بل العودة الى المطار في وقت كانت الطائرة تفقد ارتفاعها وتوازنها. التفسير الذي جاءت به الصحافة الهولندية هو ان اسرائيل كانت تحاول تجنب انكشاف الحمولة اذا ما حدث الهبوط فوق البحيرة. حمولة الطائرة: مع استمرار تحقيقات البرلمان الهولندي يزداد التأكيد على الطبيعة الخطرة لحمولة طائرة العال، تجاوزت الغاز السام الى مواد وأعتدة لصواريخ ولطائرات "ف - 16"، كما اكد الشهود خلال اليومين الماضيين. ليس ثمة عطور او زهور، بل عتاد وذخائر وغازات سامة ومتفجرات وأجهزة الكترونية. وتحاول اسرائيل عبثاً التهرب من المسؤولية بالقاء اللوم على الهولنديين من انصارها الذين ابلغوا بالمحتويات من دون ان يمرروها الى الحكومة والى وزيرة النقل، ومن دون ان يصححوا اقوالها. بهذا الصدد قال الناطق الرسمي لمطار سخيهبول جي كنوك: "ليس من واجبي تصحيح قول الوزيرة، ولا ابلاغها". وأضاف رئيس المراقبين الجويين في ردوده على التحقيق: "ان سياستنا تجاه نشاط شركة العال، ومنذ 1973، هو ان لا نتحدث عما يجري". الاسرائيليون، وفقاً للوثائق والتصريحات الرسمية، ابلغوا برج المراقبة في المطار بالطبيعة الخطرة للمواد السامة والمتفجرات وقطع غيار وعتاد طائرات "ف - 16" والصواريخ التي جاءت بها الطائرة من نيويورك، ولكنهم اتفقوا على عدم الاعلان عن ذلك. في معرض اجابات كنوك وكرون عن لجنة التحقيق ادعيا انهما لم يكونا يرغبان بالقاء هذه القنبلة العملاقة امام الرأي العام. ولكن صحيفة "فولكسكرانت" نشرت الجمعة نص الحوار الهاتفي بين الاثنين، والذي يشير الى انهما اتفقا على اخفاء الحقيقة. وهنا بعض المقاطع المهمة التي نشرتها الصحيفة: ضابط برج المراقبة: العال ترغب بإبقاء الامر في مستوى محدود. ونحن سنحاول ابقاء الأمر بهذا المستوى ولن نضفي عليه اهمية. لن ننبس لأحد بشيء! كرون: الحمولة تضم متفجرات وغازات وسموماً. ولكنها ليست خطرة، ومسموح بنقلها من قبل الوكالة الدولية للنقل الجوي. ومع ذلك ارى عدم الاعلان عن ذلك. العال تتوسل وترجونا أن نلزم الصمت ونبقي الأمر سراً، لأن الناس سيقولون ذلك هو سبب انفجار الطائرة. كنوك: وماذا نقول بشأن المتفجرات والغازات؟ كرون: أعرف. ليس ما يمنع من نقلها وفقاً للمعاهدة. كنوك: طيب. كرون: انها مدرجة في القائمة، هكذا.... كنوك: يجب أن لا نتحدث ولا نتطرق اليها، هذا سيوسع القضية... وستكون مثل قنبلة عملاقة تسقط على الرأي العام. كرون: هل تأكدت اننا تحدثنا واتفقنا مع جميع من يعرف الأمر؟ كنوك: نعم. ولكن مع هذه الوثائق وغيرها تبقى اسرائيل وادارة شركة العال متمسكة بأنها لم تخفِ شيئاً، ولم تتحايل على القانون والحكومة الهولندية. وكشف بوب فان دير خون، محامي اسر الضحايا بنفس السياق، ان السلطات الاسرائيلية سلمته وثائق طلبها وتبين انها تختلف كلياً عن الوثائق نفسها التي سلمت الى الحكومة الهولندية. وبالتحديد ما يتعلق بالحمولة. رجال ببدلات بيضاء: أشباح بيلمير الملف الثالث الذي لا يزال غامضاً هو ملف فريق خاص يرتدي ملابس بيضاء، جاء الى موقع الكارثة مساء الرابع من اكتوبر والصباح الذي تلاه. الفريق الذي ضم حوالى 40 فرداً، اختفى بعد الحادث ونفت الحكومة الهولندية ان يكون من بين الفرق الرسمية المكلفة بالاغاثة. وظلت وزارتا الداخلية والعدل تنفيان الأمر، وفسرتاه انه من اختلاق العائلات التي نكبها الحادث، حتى انتزعت صحيفة "فولكسكرانت" وثائق القضية التي تسجل وجود هؤلاء وتشير اليهم بالتفصيل. كما نشرت الصحف لاحقاً تقارير سجلها مراسل ميداني وصف فيها "أشباح بيلمير" كما اطلق عليهم لاحقاً. التقارير تؤكد انهم فريق تحقيق الموساد، والحكومة ترفض الاعتراف أو النفي... ولا يزال التحقيق جارياً في البرلمان حول كيفية السماح بفريق اجنبي وغير معروف بالبحث بين الركام مدة طويلة والتقاط ما يشاء من بينه من دون أن يوقفه أحد. ثمة نزاع بين افادات ضباط بوليس التي سلموها لرؤسائهم وموقف الوزارات. وهذه الافادات وصفتهم وحددت عددهم. ويبرز هنا سؤال حول وصول فريق للموساد الى مكان سقوط الطائرة - غير الرجال بالبدلات البيضاء - قبل وصول السلطات الهولندية الى موقع الكارثة. الوثائق المزورة: تقليد اسرائيلي قديم العهد! لعل تزوير الوثائق الرسمية لحمولة الطائرات الاسرائيلية وصلاحيتها، سيصيب من شركة العال مقتلاً. ولدى اللجنة البرلمانية الخاصة التي تحقق بالفضيحة، كمية كبيرة منها، اضافة الى ما أدلى به مهندسون هولنديون عملوا مع شركة العال الأيام القليلة الماضية. أول انتكاسة للرواية الاسرائيلية جاء بعد ان سلم موظف هولندي، دفعه الغضب من ادعاءات وغطرسة الاسرائيليين أحد النواب ملفاً كاملاً عن التزوير الذي يجري في المكتب. من هذا الملف، الذي تسلمه روب فان خيزل عضو البرلمان الهولندي عن حزب العمل، ثبت ان للاسرائيليين نسختين من كل وثائق الحمولات، احدهما للمسؤولين الهولنديين والآخر خاص ممنوع الاطلاع عليه. وكانت هذه الحقيقة مثيرة للدهشة، قبل أن يعترف مسؤولو المطار ووزارة الداخلية ان الحكومة أمرت الجميع بعدم التدخل بما يجري في مكاتب ومخازن شركة العال. الأمر الثاني في ملف التزوير يشمل قضية خطيرة أخرى هي تزوير حالة الصلاحية للطائرة والتي كان منها الطائرة المنكوبة. وقد اعترف أحد المهندسين ان الطائرة كانت في وضع سيئ وقد رفض التوقيع عل صلاحيتها رغم الضغوط التي سلطتها عليه شركة العال. واعترف مهندس آخر أمام لجنة التحقيق البرلمانية ان سلطات "العال" أجبرت في العديد من الحالات موظفيها على التوقيع بسلامة الطائرة رغم اعتراضهم. وكشف المهندس ان الشركة أخفت عن سلطات المطار والمهندسين تقريراً يتضمن 25 صفحة يفصل العوارض والأخطاء الخطيرة التي كشفها فحص طائرة الجمبو الاسرائيلية التي سقطت بعد اقلاعها. وإذا ما كان غض النظر عن الحمولة أمراً سيئاً من ناحية انتهاك القانون، فإن تزوير صلاحية الطائرة سيكون نكبة لشركة "العال". ففي أول يوم بعد بث الافادات في التلفزيون الهولندي خرج بيتر ماير، عضو البرلمان الهولندي بالدعوة علناً الى تحريم شركة "العال" ومنع طائراتها من النزول أو استخدام المطارات الهولندية. وهو يمضي في دعوته لاستخلاص قرار رسمي يدعمه عدد متزايد من النواب والمسؤولين. "العال" والبعد العسكري: شراكة في الحرب ضد العرب! التقارير المتواترة تضيف الى ركام الوثائق كل يوم أمراً جديداً. فبعد إقرار المسؤولين عن الشركة الاسرائيلية بأنها تقوم بخدمات نقل وإدامة لصالح الجيش الاسرائيلي بما فيه صيانة طائرات نفاثة اسرائيلية، كشف النقاب عن أن للعال تأريخاً عسكرياً واسعاً منذ حرب السويس عام 1956. وقال فان دين بيرخ، وهو خبير قانوني "ان لشركة "العال" وضعاً خاصاً للغاية في مطار امستردام"، وهي "غير ملزمة بتقديم أي معلومات عن نشاطها الى الحكومة الهولندية". وفي دلالة مثيرة اعترف تيم كوك رئيس الوزراء الهولندي "انه وحتى الآن، لا يعرف على وجه الدقة طبيعة وتفاصيل عمل شركة العال في امستردام". وقال ايضاً: "لقد ارسلت عدة وزراء الى اسرائيل من أجل ازالة الطابع السري لتحركات "العال"، ولكن كل المحاولات فشلت". حسب الخبير القانوني دين بيرخ فإن "60 طائرة عسكرية اسرائيلية حطت في مطار امسترادم الدولي ما بين 1990 و1996. تأكد ان 14 منها تنقل معدات عسكرية. ولم تنجح هولندا في معرفة حمولة الطائرات الباقية". من الناحية التاريخية يذكر ان اسرائيل استخدمت هولندا ومطاراتها لدعم حروبها منذ السويس وانتهاء بحرب تشرين 1973. ووفقاً لبيرخ فإن ثلثي المدافع الاسرائيلية اثناء حرب السويس، جاء من هولندا. وذكر الباحث الهولندي فرانس بيترز في كتابه الأخير "حلف هولندا السري مع اسرائيل" ان العلاقات العسكرية بين البلدين تجاوزت المواثيق المكتوبة أو المصالح المشتركة للبلدين الى دائرة أوسع منها. على سبيل المثال منح هولندا 40 طائرة تدريب عام 1949، قدمتها لاهاي في عهد رئيس وزرائها فيليم دريس الى تل أبيب، لتحول الى موسكو السوفياتية كرشوة مغرية لتشجيعها على الاستمرار في فتح الباب لهجرة اليهود الى اسرائيل من الكتلة السوفياتية. كما دربت لاهاي عام 1953 فرق القوات الخاصة الاسرائيلية على عبور الموانع المائية، في شبكة الأنهار الهولندية. وفي حرب حزيران أسهمت هولندا، في سياق تلك العلاقة الخاصة مع اسرائيل، في دعم المجهود الحربي بتمويل دبابات سنتوريوك بمحركات احتياطية عبر مطار امستردام. اما في حرب تشرين اكتوبر عام 1973 فقد مضت هولندا الى أبعد من ذلك بارسال كميات هائلة من المعدات والأسلحة والذخائر نقلت من احتياطي الجيش الهولندي من دون علم البرلمان وغالبية اعضاء الحكومة. وأوقعت هذه العملية التي رتبتها سراً وزارة الدفاع، ماكس فان دير ستول المقرر الحالي لحقوق الانسان في العراق، وزير الخارجية وقتها، بحرج واسع لنفيه أي ارساليات عسكرية هولندية. وكان وزير الدفاع هانس فريد يلينغ، حوّل وزارته الى قلعة للدفاع عن المصالح الاسرائيلية، بما في ذلك اعتبار عمليات شركة العال في مطار أمستردام الدولي شأناً عسكرياً ليس من حق الموظفين التدخل به أو الاعلان عن تفاصيله. وهو أمر استمر منذ 1973 وحتى سقوط الطائرة الاسرائيلية فوق أمستردام، ووصفته الدوائر الرسمية بأنه بمثابة "حكومة داخل الحكومة". فضيحة الطائرة أثارت الكثير من أسرار الماضي منها ما ذكره الكاتب الاسرائيلي واي ميلمان يوم الجمعة الماضية حول تجنيد اسرائيل لضابط كبير الرتبة في الموساد عام 1995، وكيف ان السلطات الهولندية سمحت للضابط بعد كشف العملية، بالسفر الى اسرائيل. في نهاية المطاف يتساءل المرء: ما الذي يدفع المسؤولين الهولنديين الى المقامرة بمصداقية الدولة وسلامة مواطنيها؟ لا سيما وان الاسرائيليين، وفي ظل الاحراج الدولي، لم يتورعوا عن التخلي عن شركائهم في هولندا، والقاء المسؤولية عليهم في التستر واخفاء الحقائق. ثمة جواب واحد يلخص الأمر وهو ما ذكره واي ميلمان المتخصص بتأريخ المخابرات الاسرائيلية، اذ يقول: "هولندا تخشى كشف عمق التعاون الوثيق مع اسرائيل في نقل مواد استراتيجية طيلة الأعوام الماضية"!