الصحافة العربية في معظمها، خصوصاً المغربية الموالية لصدام حسين ونظامه، ركزت على "فضيحة انتهاك الولاياتالمتحدة للشرعية الدولية". احد المعلقين المغاربة من انصار الرئيس العراقي المتحمسين كتب من دون ان يرف له جفن: "ها هي واشنطن تضع حداً للنظام العالمي الجديد الذي اقامته على شرعية مجلس الأمن الذي لم يكن في الحقيقة كما قال الاستاذ طارق عزيز الا فرعاً لوزارة الخارجية الاميركية. لكن الامبريالية الاميركية ضاقت ذرعاً بهذه الشرعية المفتعلة وانتهكتها بثعلب الصحراء". ان دلّ هذا التنديد بانتهاك "الشرعية الدولية" على شيء فهو يدل على ان الوعي السياسي العربي ما زال وعياً ما قبل سياسي وما قبل حديث، ملتصق بالتناظر القديم بين الاخلاق والسياسة وهو التناظر الذي وضع له ماكيافيلي، مؤسس الحداثة السياسية، حداً منذ زمان طويل. السياسة الحديثة تهزأ بالأخلاق وفلسفة القيم لأن معيارها الأوحد هو النجاعة وعلاقات القوى بين اطراف النزاع، أي القوة والمكر، وهذه هي خلاصة كتاب "الأمير" للأمير الحديث الذي جعل كل الوسائل شرعية لتحقيق الغاية السياسية المتوخاة. الولاياتالمتحدة كانت مصممة على التدخل وحدها لمحاربة العراق بعد غزو صدام حسين للكويت حتى من دون تحالف ومن دون "شرعية" دولية، ذلك ما قاله وليام كوانت عضو مجلس الأمن القومي في عهد كارتر. ويضيف رئيس هذا المجلس في العهد نفسه زبيغنيو بريجنيسكي: اذا نظرنا لخريطة العالم السياسية بعد انهيار الشيوعية نجد فيها ثلاث قوى فعالة هي: اليابان وأوروبا الغربية والولاياتالمتحدة. لكن اليابان قوة اقتصادية تنقصها القوة العسكرية وأوروبا قوة اقتصادية وعسكرية تنقصها الارادة السياسية الموحدة، وحدها الولاياتالمتحدة تجمع بين القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية ووحدها يجب ان تكون مسؤولة عن التصدي للفوضى الدولية التي تهدد ثلاثين دولة في آسيا والشرق الأوسط. ولم ترد في كتابه "الفوضى" كلمة واحدة عن "الشرعية الدولية" لأنه قرأ ماكيافيلي ويعرف كيف تُصنع السياسة الحديثة على عكس أخلاقيينا الذين ما زالوا اسرى اوهام المفاهيم التقليدية للسياسة ما قبل الحديثة التي كانت تقوم في الظاهر، على الأقل، على القيم الاخلاقية - الدينية. بعد نهاية "ثعلب الصحراء" نادى انصار النظام العراقي في الصحافة العربية بأن الثعلب لم ينجح في تحقيق اهدافه، فالنظام العراقي ما زال قائماً بل أقوى من ذي قبل يحظى بدعم شعبي عراقي وعربي وإسلامي كبير. لا ننسى ان الثعلب مفترس مثالي للديك. وربما لم يكن هذا المعنى غائباً لدى استراتيجيي البنتاغون عندما اطلقوه على عملياتهم الحربية التي لم تكتمل حلقاتها بعد. الهدف الحقيقي هذه المرة لپ"ثعلب الصحراء" هو افتراس ديك بغداد في المدى القريب او المتوسط بين ستة اشهر وسنتين. حتى "ثعلب الصحراء" كانت سياسة واشنطن كما يقول وزير الخارجية الاميركي السابق هنري كيسنجر خليطاً غير متجانس من الأهداف المطروحة للتنفيذ في وقت واحد: السعي للتصالح مع صدام حسين واسترجاعه وإبقائه في "قفصه" بصريح عبارة وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت وذلك بتمديد الحصار عليه لخفض قوته السياسية والعسكرية والاقتصادية الى ادنى تعبيراتها لارغامه على التصالح مع الولاياتالمتحدة حسب شروطها، او ترك نفسه يسقط بسبب عجزه عن تلبية الحدود الدنيا لمقومات كل نظام سياسي التي هي اعادة تجديده لإبقاء هيكلته الأساسية متماسكة. والخيار الثالث والاخير القضاء على صدام حسين ونظامه وتنصيب نظام تقبل به دول الجوار العربي وتقبل به الولاياتالمتحدة اولاً وأخيراً. هذا الخيار الثالث منذ صباح 17/12/1998 هو الخيار الوحيد للولايات المتحدة. و"ثعلب الصحراء" ليس ثعلباً واحداً بل ثعالب ستتعاقب على قصف العراقوبغداد بهدف محدد وواضح ومحسوم هو تدمير القاعدة الاجتماعية والامنية لنظام صدام حسين والمتمثلة في الحرس الجمهوري وميليشيات النظام وأجهزة الاستخبارات. والولاياتالمتحدة مصممة على تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي مهما كانت النتائج المترتبة عليه بما فيها انفجار العراق الى ثلاث شظايا شيعية في الجنوب وعربية سنية في الوسط وكردية في الشمال، بل حتى لو أدى ذلك الى انضمام الجنوب لايران التي لم تخف ابداً رغبتها في ضم البقاع الشيعية المقدسة اليها، وانضمام الوسط الى الأردن او الى سورية وقيام دولة في الشمال. ومعنى هذا اسقاط المعادلة الدولية القديمة التي كانت تقوم على ابقاء الدولة العراقية وبقائها محكومة من الاقلية العربية السنية 36 في المئة من مجموع السكان، لأن الاكراد يقبلون حكمها بصفتها سنية والشيعة يقبلونه بصفتها عربية. كل ذلك يهون امام الهدف الوحيد الجديد: اطاحة صدام، لأن القيادة الاميركية انتهت الى خلاصة مفادها انه من دون اسقاط الرئيس العراقي ونظامه فان حرب تحرير الكويت تبقى غير مكتملة. ولهذه الغاية - التي تبرر ماكيافلياً الوسائل - قررت واشنطن ان تتعاقب ثعالب الصحراء واحداً بعد آخر في فترات متباعدة او متقاربة بعد التقويم الدقيق لنتائج كل جولة عسكرية مع بغداد. ولن تتوقف الجولات الا بانهيار نظام بغداد وافتراس ديكه الذي ادخل الشعب العراقي، المهدد بإبادة حقيقية لا مجازية، في نفق مظلم يوم ارسل دباباته الى شوارع الكويت لتمحو بلداً من خريطة الشرق الأوسط. لقد وفرت واشنطن دعم معظم دول الجوار بما فيها ايران التي اعطت الضوء الاخضر لمعارضتها المتمثلة في "المجلس الاسلامي الأعلى للثورة" في العراق بالتفاوض مع الاستخبارات المركزية الاميركية على حصتها في النظام العراقي الجديد بعد اطاحة صدام ونظامه. اما كيف سينتهي النظام؟ باغتيال كاليغولا العراق تحت القصف؟ ام بقيام انقلاب عسكري يقوده ضباط سنة؟ ام بتفكك النظام الى حالة صومالية او افغانية تجعل العراق غير قابل للحكم؟ هذه السيناريوهات كلها محتملة. لكن الهدف الاستراتيجي الأكيد هو افتراس ديك بغداد، وأول من يدفع الفاتورة الثقيلة لهذه العملية هم فقراء الشعب العراقي الذين كتب عليهم صدام وكلينتون الجوع والعطش والدموع والدماء. * كاتب مغربي مقيم في فرنسا.