انزعجتُ أشد الانزعاج للأخبار التي عمت العالم - في عصر القرية الصغيرة وسرعة انتشار المعلومات - حول الفتنة التي يمكن أن تشق مدينة الناصرة، بسبب قرار اسرائيلي منح ترخيصاً ببناء جامع شهاب الدين على أرض متاخمة لكاتدرائية الناصرة التي تُعد ثالث أهم مزار مسيحي في أرض فلسطينية، بعد كنيسة القيامة في القدس حيث القبر الخالي للسيد المسيح، وكنيسة بيت لحم، حيث ولد المسيح، له المجد. وما دفعني الى كتابة رسالة عاجلة لكل القوى الوطنية على الساحة الفلسطينية، هو ما لاحظته من أن التصريحات تُركت تماماً لرجال الدين، في حين أن القضية سياسية في المقام الاول، ومن ثم تنبغي معالجتها سياسياً وبسرعة، حتى لا تنتقل الشرارة من الناصرة الى "عموم" الوطن الفلسطيني. فالمعروف والمؤكد هو أن قوى "الشر" - وعبر التاريخ - ومن خلال كل أنواع الاستعمار العسكري والاقتصادي والاستيطاني والثقافي والفكري - كلها تستخدم النهج ذاته: "فرّق تسد". ولن يكون الرد - وببساطة - إلا من خلال التماسك وتجاوز الأزمة، بوضعها في إطارها الصحيح، وهو أن الهدف - في هذه المرحلة الحاسمة من مفاوضات المرحلة النهائية بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية - هو خلق بلبلة، تجعل المفاوض الفلسطيني في موقف ضعف، فيقبل بمزيد من التنازلات. وفي هذا الاطار، فان التحرك السياسي السريع لألوان الطيف كافة في الحركة الوطنية الفلسطينية سيكون هو البلسم الشافي، وسبيلنا لإطفاء الفتنة من خلال تحرك قيادي يعقبه تحرك جماهيري تتقدمه رموز القيادات السياسية، واضعين يدهم في يد القيادات الدينية، فيعود التماسك الوطني - المتجاوز للانتماء الديني - خصوصاً أن رجال الدين - في كل انتماءاتهم - أدركوا "الخدعة" وقدموا حلولاً معقولة لتسهيل مهمة السياسيين بكل فصائلهم، وأتصور أن هذه التظاهرات ستجد تأييداً من كل العقلاء في اسرائيل والراغبين في "العيش" في سلام. وأنا أرى أنه ليس من سبيل أمام كل فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية - حتى وإن كان بين بعضها البعض خلافات - سوى أن تتجمع، بما فيها حركة "حماس" المناضلة، لمواجهة سر الفتنة، فهي أشد من القتل، قتل البشر، والأهم هو قتل تماسك الوحدة النضالية الوطنية. ولا أود أن أسترجع تاريخاً قديماً مرت به الحركة الوطنية المصرية العام 1921، عندما تم تعيين يوسف باشا سليمان رئيساً لوزراء مصر، لكي يحتج المسلمون على هذا التعيين لقبطي، ليكرروا ما تم العام 1910 عندما اغتيل بطرس باشا غالي، ما أدى الى "فتنة" استمرت الى قيام الحرب العالمية العام 1914، وكان أن وعى كل من المسلمين والاقباط الدرس وتصرفوا بحكمة، فكان أن اجتمع الاقباط والمسلمون في الكنيسة الكبرى في شارع كلوت بك في وسط القاهرة وناشدوا رئيس الوزراء أن يرفض العرض، وهو ما كان، فتم تجاوز الأزمة. وعندما رفع شعب مصر كله شعار "الدين لله والوطن للجميع" ثم شعار "عاش الهلال مع الصليب"، لم يكن أمام المستعمر إلا أن يصدر تصريح 28 شباط فبراير 1922 باعلان استقلال مصر، وهو الأمر الذي دفع الزعيم الاعظم المهاتما غاندي "رمز التسامح" الى أن يكتب وقتها الى سعد زغلول - قائد الحركة الوطنية المصرية - مشيداً بموقف الشعب المصري الذي صهرته الوحدة الوطنية وجعل الانتماء الوطني يتقدم على الانتماء الديني. وعلينا في عالمنا العربي - اعتزازاً بتاريخنا وتراثنا الفريد في التسامح الديني- أن نجدد إبراز المواقف العملية التي تؤكد للعالم كله أن الشعوب العربية قادرة على تجاوز الخلافات الدينية وأن تعبر الفتن بالتماسك بالوحدة النضالية. من هنا كانت أهمية أن أوجه ندائي الى حركة "حماس" أيضاً، لتتجاوز جروحها الداخلية، فهذا سيكسبها شعبية واسعة لموقفها الذي سيكون تاريخياً. نتمنى أن تتحول "أزمة الناصرة" من "فتنة مرّة" الى "حركة وطنية متماسكة" خصوصاً في هذه اللحظات التاريخية حيث المفاوضات في مرحلة دقيقة، ولنثبت للعالم أننا قادرون، بفضل تراثنا العريق على تجاوز الأزمات، بل الاستفادة منها.