صدر قبل أيام بالفرنسية كتاب "مالرو في اسبانيا"، من تأليف بول نوتومب، أحد رفاق الكاتب الفرنسي الكبير اندريه مالرو، ليلقي بعض الضوء على حقيقة قلما عالجها المؤرخون، وهي مشاركة المقاتلين العرب في الحرب الأهلية الاسبانية بين 1936 و1938، الى الجانب الجمهوري، ضمن "الألوية الاممية". واقتصرت اشارات وتنويهات المؤرخين عن تلك الفترة على الجنود المغاربة الذين قاتلوا الى جانب القوات الانقلابية بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو، من دون ان تتطرق في معظم الحالات الى ظروف "تطوعهم"، بينما لقي دور المتطوعين العرب الى جانب الجمهوريين تعتيماً او تجاهلاً ساهمت عوامل عدة في فرضه. ويقدر الباحث التونسي عبداللطيف بن سالم الذي كرس ولا يزال سنوات لدراسة هذا الموضوع، عدد المتطوعين العرب في صفوف الجمهوريين ب800 مقاتل من المغرب والجزائر وتونس وفلسطين وغيرها. وتوزع هؤلاء على فرق عدة ضمت مقاتلين من جنسيات مختلفة. ويعتقد بأن بين 150 و200 مقاتل عربي سقطوا في المعارك، وجرح نحو 300، فيما غادر حوالي 300 مقاتل اسبانيا مع انحسار "الالوية الاممية" في العام 1938. وشكل الوجود العربي ما بين 3 و4 في المئة من مجموع أعضاء "الألوية الأممية". ومن العرب الذين برزوا في صفوف الجمهوريين يذكر بن سالم، الجزائري القبيلي رابح اوسيدهم، وكان جندياً في الجيش الفرنسي، التحق بالألوية الأممية برتبة نقيب، وقاد فرقة "رالف فوكس" التابعة للواء الرابع عشر. وقتل في آذار مارس 1938 أثناء معركة "ترويل" الشهيرة. وبرز أيضاً الفلسطيني علي عبدالخالق الذي انضوى في تشكيلة حربية يهودية - فلسطينية كانت تابعة للحزب الشيوعي الفلسطيني، وسقط في "سييرا كيمادا" على جبهة "استرامادورا" في 1938. أما أشهر المتطوعين العرب في هذه الحرب، فكان بلا شك الجزائري محمد بلعيدي الذي كّن له الكاتب الفرنسي اندريه مالرو صداقة عميقة. فقد كان هذا الأخير قائداً ل"سرب اسبانيا" وهو تشكيلة طائرات حربية، أطلق عليها ايضاً اسم "سرب مالرو المعادي للفاشية". وتولى تثقيفه، ودفعه الى التدرب على استعمال الرشاش الثقيل في الطائرات الحربية، وأصبح رامياً على متنها، الى ان اصيبت طائرته بينما كانت عائدة من مهمة في 27 كانون الأول ديسمبر 1936. فنجا طاقمها باستثناء بلعيدي الذي مزقته رصاصات عدة، وكان في الخامسة والعشرين من عمره. ويؤكد بن سالم ان مالرو كان شديد التأثر بمقتل محمد بلعيدي، وكان يعتبره "مثال المتطوع الشجاع". وقد عبر عن اخلاصه لذكرى هذا المقاتل في كتابه "الأمل"، عبر شخصية "سعيدي" في هذه الرواية، وكذلك في فيلمه الذي يحمل العنوان نفسه، وذلك في المشاهد الأخيرة حيث صور نعشاً وضع عليه رشاش معطوب يرمز الى رشاش بلعيدي الذي وجده المنقذون ملتوياً بعد سقوط الطائرة، فيما ضم النعش رفات المقاتل الجزائري. ويخص عبداللطيف بن سالم حيزاً مهماً من أبحاثه للفلسطيني نجاتي صدقي والدور الذي لعبه خلال الحرب الأهلية الاسبانية. فقد ولد في القدس سنة 1905 من أم فلسطينية وأب تركي الأصل. ويروي نجاتي صدقي في الفصل الثامن من مذكراته غير المنشورة والمحفوظة في عمّان، تحت عنوان "الحرب الأهلية الاسبانية" فترة اقامته في صفوف "الألوية الأممية" بدءاً من آب اغسطس 1936، حين دخل الى اسبانيا لتنظيم حملات اعلامية موجهة الى الجنود المغاربة في صفوف فرانكو. وبدأ بتوجيه نداءات الى هؤلاء تحت اسم مستعار، مصطفى بن جالا، يدعوهم فيها الى هجر صفوف القوات الفرانكوية والانضمام الى الجيش الجمهوري. لكنه وجد نفسه في موقف متناقض. ففيما كان يدعو الجنود المغاربة الفرانكويين الى إلقاء سلاحهم والفرار، ادرك ان مصير هؤلاء غير مضمون اذا وقعوا في ايدي الجمهوريين الذين كان اعلامهم معادياً للذين كانوا يوصفون ب"الغزاة". وثار ضد عنصرية رفاقه، خصوصاً عندما علم ان أسرى مغاربة يجري اعدامهم. عندئذ ايقن ان مهمته فشلت، فغادر اسبانيا بعد خمسة أشهر. وفي العام 1940، عاد الى فلسطين لينزح عنها في 1948 الى قبرص. وتوفي في أثينا في 1979. يقول بن سالم إن "اسطورة العربي المتعطش للدماء تحولت هوساً لدى كثيرين، وهو ما حال حتى اليوم دون ان يعي الناس فداحة الاخطاء التي ارتكبها الجمهوريون حين رفضوا التحالف مع حركة وطنية مغربية كان بمقدورها تحقيق انتفاضة في الريف خلف قوات فرانكو". ويرى ان "الصورة المشوهة التي التصقت بالطوابير المغربية التي جندها الفرانكويون بالقوة، هي التي دفعت الباحثين المعاصرين الى التزام موقف حذر أو مشكك بدور آخر للمقاتلين العرب خلال الحرب الأهلية الاسبانية، وساهم كثيراً في ذلك موقف وسلوك الجمهوريين انفسهم". وينتهي الى القول: "مالرو ادرك هذه العنصرية الاسبانية تجاه المتطوعين العرب وندد بها في كتابه وفيلمه الأمل محملاً محمد بلعيدي وشخصية سعيدي رسالة هذا التنديد. ألم يقل في الامل: واسبانيا هي ذاك الرشاش الملتوي فوق نعش عربي"؟