الكتاب: الحمامة رواية الكاتب: باتريك زوسكند المترجم: عدنان عبدالسلام ابو الشامات الناشر: دار ورد - دمشق الكاتب الألماني باتريك زوسكيند هو صاحب رواية "العطر" التي جعلت اسمه معروفاً على مستوى العالم. في العربية صدرت له أخيراً رواية قصيرة في عنوان "الحمامة"* بترجمة عدنان عبدالسلام أبو الشامات. وموضوع "الحمامة" هو شخصية جوناثان نويل الذي تجاوز الخمسين من عمره ويعيش وحيداً في غرفة من "غرف الخدم" في أحد شوارع باريس، ويعمل حارساً على باب أحد البنوك. عاش العشرين سنة الأخيرة من عمره خالية من أية أحزان الى أن أتت الحمامة وقضت على كل هذه الطمأنينة التي ينعم بها. في الصفحات الأولى للرواية يلقي زوسكيند الضوء على أهم الأحداث في ماضي هذه الشخصية، ففي الفترة الواقعة بين الطفولة والصبا، وفي عصر يوم صيفي من تموز يوليو 1942 عاد جوناثان من صيد السمك الى البيت مسرعاً الى المطبخ، آملاً أن يجد أمه وقد حضّرت الطعام. إلا أنه وجد مريلتها معلقة على مسند الكرسي فقال له أبوه "أمك ليست موجودة. لقد اضطرت للسفر وسوف تبقى بعيداً لفترة طويلة" فيما قال له الجيران أنه قد تم ترحيلها الى أحد معسكرات الاعتقال ومن هناك باتجاه الشرق حيث لا أحد يعود. وبعد أيام قليلة اختفى أبوه أيضاً. فعاش هو وأخته عند عمه الى أن انتهت الحرب. في أوائل الخمسينات تطوع في الجيش بناءً على طلب عمه وقضى هناك ثلاث سنوات، بعدها اختفت أخته وأمره عمه بالزواج من فتاة اسمها ماري بكوش، وبعد أربعة أشهر على زفافه أنجبت ماري ولداً ثم هربت مع بائع خضار تونسي كان يعمل في مرسيليا. على أثر ذلك أقدم للمرة الاولى في حياته على اتخاذ قرار يخصه عندما استرد مدخراته من البنك الزراعي وحزم حقيبته وسافر الى باريس. وهناك وجد عملاً في أحد البنوك وغرفة يسكن فيها. وأقام في هذه الغرفة ثلاثين عاماً، كانت حياته فيها تسير على ما يرام حتى الجمعة من آب أغسطس 1984، حين واجهته مشكلة الحمامة. فتح باب غرفته وإذا به يجدها تجلس على بعد عشرين سنتيمتراً من العتبة، راحت تحدق به، فذعر منها، بل بتعبير أدق، كما يسرد الراوي، ذهل منها ذهولاً شديداً، كيف ستدخل الى البيت وتعيش معه؟ إنها رمز الفوضى العارمة، يقول مونولوغه الداخلي، "انها ترفرف وتطير في كل الاتجاهات، تخرج مخالبها وتنشبها في العينين، إنها تتبرز من دون انقطاع وتنشر الجراثيم المهلكة وفيروسات مرض الالتهاب السحائي". وتتوالى تداعياته التي تعبر عن رعبه من هذه الحمامة، يفكر بالهروب من الغرفة "فإذا استجمعتَ الآن كل شجاعتك وتفاؤلك، حين تتجلد ويواتيك الحظ فربما تنجح في الهروب من غرفتك". فهي غرفة لم يعد بإمكانه السكن فيها فيحزم أمتعته ويهرب. يتوجه الى عمله في البنك، وخلال استراحة الغداء يذهب الى فندق صغير ويطلب استئجار أرخص غرفة فيه، بعدها ينزل الى الشارع يأكل ويستريح في الحديقة ويصادف أحد المتشردين الذي يعرفه منذ ثلاثين عاماً على حالته هذه وعندما ينهض عن المقعد يكتشف أن هناك شقاً في سرواله حدث نتيجة مسمار علق به عندما كان جالساً. لم يستطع اصلاحه وعاد الى العمل بعدما ألصقه بشريط لاصق اشتراه من محل قرطاسية. وبعد انتهاء العمل ذهب الى الفندق ليأكل وينام هناك ويستيقظ باكراً على أصوات المطر والرعد عندها قرر العودة الى الغرفة، وبعد أن صعد الدرج اكتشف أن الحمامة لم يعد لها وجود وأن المكان نظف تماماً من آثارها. وهنا تنتهي الرواية. من الواضح أن الحكاية ليست هي المهمة في هذه الرواية بل هي ذريعة لتقديم هذا النمط من الشخصيات الذي يريد المؤلف تجسيدها عبر وصف ونقل أدق التفاصيل المتعلقة بسلوكها وتفكيرها ومشاعرها وأحاسيسها وملامحها وذلك في كل لحظة من لحظات حياتها في ذلك اليوم الذي يشكل زمن الحدث الروائي. كل ذلك نقله المؤلف بأسلوب غاية في السخرية يمتد على مساحة الرواية بكاملها، فخلال سرده أهم الأحداث التي مرت بحياة جوناثان منذ الطفولة يقول المؤلف أن جوناثان بعد أن هربت زوجته مع بائع الخضار اقتنع أنه لا يمكن الوثوق بالناس أو الاعتماد عليهم، وبالتالي ما عليه لكي يجد الطمأنينة والسلام في حياته إلا الابتعاد عنهم. وهنا، يقول الراوي، أقدم للمرة الاولى في حياته على اتخاذ قرار يخصه، عندما توجه الى باريس. وفي وصفه غرفة جوناثان يقول أن طولها ثلاثة أمتار وأربعين سنتيمتراً وعرضها مترين ونصف المتر، وتضم من وسائل الراحة سريراً وطاولة وكرسياً ومصباحاً وعلاقة ملابس ولا شيء آخر، وقد تحولت هذه الغرفة الى "واحة راحة" عندما اقتنى جوناثان سريراً جديداً وفصل خزانة ملابس وفرش أرضها بالسجاد، "ثم كسا ركن الغسيل والطبخ فيها بورق جدران ذي لون أحمر لمّاع، كما أصبح يمتلك مذياعاً وتلفازاً ومكواة ملابس. أما طعامه فلم يعد يعلقه بأكياس خارج النافذة كما كان يفعل حتى وقت قريب، بل أصبح يضعه في البراد الصغير الموجود تحت حوض الغسيل". وصف المؤلف الحالة التي مرّ بها جوناثان بعد رؤيته الحمامة على النحو التالي: "للحظة وجيزة بدأ الذعر يتملك جوناثان خلالها، فوقف شعره من الفزع. وبقفزة واحدة الى الخلف هرع الى داخل الغرفة صافقاً الباب خلفه قبل أن تتمكن الحمامة من فتح عينها مرة أخرى. أدار قفل الباب بسرعة ثم ترنح بثلاث خطوات حتى وصل الى السرير حيث جلس وهو يرتجف ودقات قلبه على أشدها، جبينه بارد كالثلج، وراح يشعر بالعرق يتدفق من أعلى نقرته حتى أسفل ظهره. كان أول ما فكر به أنه سوف يصاب بجلطة قلبية أو بفالج أو على الأقل بانهيار عصبي" ص 16. وجوناثان ليس له أصدقاء، أما في البنك فقد "كان يعتبر من الموجودات، لأن الزبائن ينظرون اليه كشيء متمم لشكل البنك وليس كإنسان" ص 28. وذات مرة أجرى عملية حسابية خلص فيها الى أنه حتى يوم تقاعده "سيكون أمضى خمساً وسبعين ألف ساعة واقفاً على هذه الدرجات الرخامية الثلاث، وبهذا سيكون حتماً الإنسان الوحيد في باريس وربما في فرنسا كلها الذي قضى كل هذا الوقت واقفاً في المكان نفسه" ص 35. ومع نهاية دوامه في ذلك اليوم في البنك أحس أنه سيموت حتماً وهو واقف في المدخل "لقد أحس كما لو أنه شاخ على الأقل عشرين عاماً، وان قامته قصرت على الأقل عشرين سنتيمتراً ... سيسقط مثل كومة قذارة صغيرة لتأتي ريح فتبعثرها، أو تكنسها عاملة النظافة أو يجرفها المطر" ص 66. أراد باتريك زوسكند في روايته هذه تصوير حياة العزلة والبؤس والرعب التي يعيشها الفرد البسيط في المجتمعات الرأسمالية. ان جوناثان يقرر بعد تجربة زواجه المريرة أن يبتعد عن الناس، وبعد ثلاثين عاماً يكتشف أنه لن يستطيع متابعة الحياة من دونهم. لكن أين هم الناس في تلك المجتمعات؟