بدأت اللجنة النسائية في دارة الملك عبدالعزيز موسمها الثقافي لهذا العام بمحاضرة عن "دور الرواية الشفاهية في التوثيق التاريخي" ألقتها الدكتورة بصيرة الداود أستاذ مساعد في كلية التربية لاعداد المعلمات في الرياض. أشارت الدكتورة بصيرة في البداية الى الاقبال الكبير الذي تلقاه الدراسات التاريخية الحديثة السياسية منها والحضارية من الباحثين للتخصص فيها. "ويعود السبب الى وفرة الوسائل اللازمة التي تمكن الباحث من الاتجاه الى تلك الدراسات مثل: المصادر والمراجع، الوثائق، ووسائل أخرى مثل: الاستبانة والملاحظة والرواية الشفاهية التي يستعاض عنها في حالة ندرة المصادر والمراجع، والوثائق اللازمة لبحث مواضيع معينة". وتناولت الداود وسيلة الرواية الشفاهية التي تتم عن طريق المقابلة الشخصية من حيث قيمتها في مجال البحث العلمي التاريخي الحديث، وهي "تفيد الباحث في الحصول على معلومات شاملة عن مختلف جوانب الدراسة مقارنة بالأساليب الأخرى كالوثائق والاستبانات بالاضافة الى دقتها الجديدة في متابعة المعلومات كونها توضح مختلف ردود الفعل من جانب الأشخاص الذين يراد مقابلتهم مما يفيد الباحث في التعرف على صفاتهم الشخصية ثم تقويمها والحكم على أقوالهم بعد ذلك، ويعتمد ذلك على ما يستطيع الباحث احرازه من ثقة بينه وبين المستجيب وطمأنته بالنسبة للمعلومات الخاصة أو السرية التي سيفضي بها للباحث". وتشير الداود في ورقتها الى صعوبة مهمة الباحث من خلال الرواية الشفاهية كمصدر عام من مصادر التاريخ السياسي والحضاري الحديث، خصوصاً اذا كانت المعلومات التي حصل عليها ذات طابع خاص حساس وسري كالموضوعات السياسية أو العسكرية الحديثة والمعاصرة أو الموضوعات الاجتماعية المتعلقة بالقيم والمفاهيم لمجتمع بعينه أو الموضوعات الاقتصادية ذات الصلة بمواضيع السياسة الاقتصادية المحلية أو الدولية". وتحكي الداود عن تجربتها السابقة في هذا المجال خلال دراستها العليا، وتسرد بعض الصعوبات التي واجهتها عند اعدادها لبحثها في الماجستير عن تاريخ التعليم في عهد الملك فيصل واطروحتها للدكتوراه عن الحياة الاجتماعية في متصرفية عسير التي اعتمدت فيها على الرواية الشفاهية بدرجة كبيرة "نظراً لندرة المصادر والمراجع والوثائق التي كانت قد كتبت عن الحياة الاجتماعية في متصرفية عسير 1872 - 1918، مما أضاف اليها معلومات شاملة ودقيقة. وقد لاحظت كباحثة بأن وسيلة المشافهة العلمية لعبت دوراً مهماً وبارزاً للغاية في مجال الدراسات التاريخية والحضارية الحديثة". وتذكر الداود قيمة أخرى للرواية الشفاهية كمصدر معين للباحثين بشرط احسان استخدامها لتغطية جوانب البحث العلمي، والخروج أحياناً بمعلومات جديدة لم يسبق لأحد قبلهم أن دونها في كتاب. وفي ورقتها حددت بعض القواعد الأساسية التي يجب على الباحثين دراستها قبل استخدام وسيلة المشافهة العلمية، وتبدأ بتعريف أسلوب البحث العلمي التاريخي وبما يتضمنه من ملاحظات الباحث القائمة على مشاهداته للتجارب والظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي خلفها الأقدمون، ودراسة ذلك والوقوف على كل ما دون عن الأقدمين مما يعين على تخيل مجريات الأحداث الماضية بكل ما حكمها من مبادئ للوصول الى فروض معينة يستطيع اثباتها أو نفيها من خلال اخضاعها للاختبار والتدقيق عن طريق التعمق في دراسة الوثائق والمصادر والمراجع ونقدها وجمع الشواهد حولها مما يؤدي بالباحث الى استنتاجات وفرضيات ان لم تكن صحيحة فهي الأقرب الى التصور الصحيح"، ومن القواعد التي أشارت اليها بصيرة الداود أيضاً وسائل البحث العلمي التاريخي التي يتبين منها منهج الباحث مثل المصادر والوثائق المكتوبة والاستبيانات والملاحظة والمشافهة العلمية وعلاقة وارتباط كل منها بالأخرى. وتصل في ورقتها الى تأكيد أهمية المشافهة العلمية أو ما يعرف بالمقابلة الشخصية أكثر من أية وسيلة أخرى من وسائل البحث: "المشافهة العلمية تأتي عاملاً مكملاً ومشاركاً لكافة وسائل جمع المعلومات المطلوبة خلال البحث… حيث تلعب دوراً كبيراً في كشف بعض الحقائق والملابسات عن أحداث تاريخية وقعت في فترة ما مع مطلع العصور الحديثة قام خلالها شاهد العيان بأدوار مهمة في تلك الأحداث وهذا ما يميز هذه الوسيلة. حيث يستطيع الباحث معها تتبع الأحداث والتأكد من صحتها بعد المقابلة الشخصية ويقارنها بالأحداث التاريخية التي حصل عليها من الوثائق والمصادر والمراجع الأخرى وبعد تحقيقها يتأكد له اثباتها أو نفيها حسب معطيات الأحداث التاريخية". شاهد عيان من ناحية أخرى توضح الداود الحالات والظروف التي تستدعي الباحث للجوء الى وسيلة المشافهة العلمية: "اذا كانت المصادر والمراجع التي يتطلبها بحثه نادرة أو قليلة وهنا يستعين الباحث بشاهد عيان أو أكثر من بعض المقربين الى من عاصروا فترة الحدث التاريخي المراد بحثه، ويلجأ الباحث الى الرواية الشفاهية أيضاً للتأكد من صحة بعض المعلومات التي قد ترد في المصادر أو المراجع التاريخية مثل اتهامات سياسية أو عسكرية وغيرها للرد عليها، ويلجأ الباحث أيضاً الى الرواية الشفاهية لدورها في التوثيق التاريخي". وتتوقف عند الحال التي تربط وسيلة الرواية الشفاهية بالتوثيق التاريخي لتلفت نظر الباحث الى ضرورة "تنبيه شاهد العيان الى أنه مسؤول عما يقال ويوضح له أن حديثه واجاباته المهمة ستعتبر وثيقة للأجيال القادمة، لهذا فان المشافهة العلمية تتطلب الصراحة والوضوح التام مع تبادل الثقة بين الباحث والمبحوث". وتصنف المشافهة العلمية في مجال البحث التاريخي وفق اعتبارات عديدة: "مشافهة تشخيص الغرف منها جمع بيانات معينة لتشخيص ظاهرة أو مشكلة محددة، ومشافهة فردية يقوم فيها الباحث بمقابلة شهود العيان بشكل فردي كل على حدة، ومشافهة جماعية ويجري الباحث فيها المشافهة بشكل جماعي ويتلقى الاجابات بصورة جماعية في نفس الوقت"، وتقارن بين مزايا أو سلبيات صنوف المشافهة وتذكر بتحليل منطقي دوافع ذلك: "وقد يتطلب البحث أن يعالج الباحث احدى قضاياه عن طريق المشافهة الجماعية وبعد تحليل اجابات المبحوثين واخضاعها للتحقيق والنقد يكتشف الباحث أنه بحاجة ماسة الى تغطية معينة لم يجب عليها المبحوثون بشكل واف لعدة أسباب. كأن يتحدث شهود عيان خلال المشافهة الجماعية بحرية تامة عن نقاط في موضوع البحث وأغفلوا عن غير قصد بعض جوانبه الأخرى، أو تكون لبعض الأسئلة الموجهة الى شهود العيان علاقة بموضوعات حساسة جداً مثل التعليق على بعض الظواهر الاجتماعية الخاصة بمجتمع ما، أو أن يرتبط الموضوع ببعض القضايا السياسية أو العسكرية ذات الصلة بموضوعات بالغة الخطورة ولها جذور ترتبط معها باحدى قضايا الساعة، مما يتطلب من الباحث العودة ثانية للمشافهة العلمية الفردية ومقابلة كل فرد على حدة ليتمكن من استخلاص بعض الحقائق المفيدة في معالجة مختلف قضايا بحثه، لهذا يستطيع الباحث أن يسلك بعض درجات المرونة التي تعطي للمجيب نوعاً من الحرية من خلال اجرائه مشافهة علمية مفتوحة لا ترتبط بزمن أو أسلوب معين ليجيب شاهد العيان بكل حرية وأحياناً يتحدث الباحث عن أمور لا تتعلق بموضوع البحث، مما يضطر الباحث الى وضع أسئلته بصيغ مختلفة في طرحها ويطلب مزيداً من التوضيح عليها من المبحوث ولا يتطلب المشافهة العلمية المغلقة الاسهاب في الاجابة عنها، فالأسئلة والاجابات تكون محدودة ومرتبطة بالزمن الذي يحدده المبحوث عادة للباحث". المشافهة الشخصية وتفضل الداود بعد ذلك المشافهة العلمية الشخصية على المشافهات الأخرى شرط تطبيق أسسها وقواعدها لأنها تبرز بعض الجوانب الغامضة للأبحاث المتعلقة بدراسة الظواهر على اختلاف مجالاتها. ولاجراء المشافهة العلمية على أسس علمية صحيحة تذكر خطوات ذلك مثل "تحديد الهدف من المشافهة بحيث يعرف الباحث الأشخاص أو الجهات التي يجري معها المشافهة العلمية والهدف من ذلك. وعليه أن لا يجعل هدفه غامضاً أو يتركه الى صدف المشافهة، وان كان الباحث أحياناً يجعل بعض أهدافه غامضاً متعمداً ويتركها لما يدور في اللقاء ومستجداته عند طرح الأسئلة والاستفسارات وتلقي اجاباتها. الخطوة الثانية في ضرورة الاعداد المسبق للمشافهة العلمية واعداد الأسئلة وأحياناً يتم تسليمها الى الجهات المعنية بالمشافهة العلمية لاعطاء فكرة عن موضوع البحث والبنود الخاصة بهم التي يراد منهم الاجابة عنها، ويجب على الباحث أن يتحلى بأخلاق طيبة تميز شخصيته كباحث علمي يؤهله مركزه ومكانته العلمية أن يقابل من شاء من أفراد لهم مكانتهم ومنزلتهم في المجتمع، مثل تجنب تكذيب المبحوثين، أو اعطائهم انطباعاً بعدم صحة اجاباتهم، ويجب عليه تجنب الايحاء بمعرفة الجواب أو حتى معرفة بقيته، بل يترك للمعني بالأمر الحرية في الاجابة. ويطلب منه بعد ذلك توضيحاً أو اعطاء أمثلة لما ذكره، ويجب عليه ايجاد الجو المناسب للحوار، ومن الخطوات ايضاً تحديد الموعد المناسب مع الأفراد والجهات المعنية بالبحث والتزام الباحث به، وعلى الباحث أيضاً أن يتحدث بصوت مسموع وعبارات واضحة وأسلوب علمي لائق وعليه أيضاَ تسجيل الملاحظات والاجابات التي يبديها الشخص المعني بالمشافهة ساعة اجرائها على مجموعة أوراق معدة سلفاً ويستحسن تسجيل الحوار تسجيلاً صوتياًَ في مسجل ما أمكن ذلك، وبخاصة للباحثين في مجال الدراسات السياسية أو الحضارية مما يمكن الباحث من نقل الحديث بين الباحث والمبحوث بصدق وأمانة وموضوعية". بعد ذلك قدمت الدكتورة دلال الحربي مديرة القسم النسوي في الدارة مداخلة عن الموضوع نفسه كونها احدى الباحثات اللائي كانت لهن تجربة شخصية في أسلوب المشافهة العلمية في أطروحتها للدكتوراه، بالاضافة الى تجربتها خلال البحث العلمي الذي نشرته تحت عنوان نساء شهيرات من نجد تقول الحربي "يرى البعض عدم التسليم بالرواية الشفهية في حين يرى آخرون أهميتها كعنصر من عناصر كتابة التاريخ، والحقيقة أن للرواية الشفهية مناهج علمية تستخدم في كثير من الجامعات المتقدمة والهيئات العلمية العريقة للحصول على المعلومات في مختلف مجالات الحياة من أفواه أشخاص لهم صلة واضحة ومباشرة بأحداث أو مؤثرات في دولة معينة وتسجيل الرواية الشفهية يقول على أسس من بينها تحديد الموضوعات وهذا يعني وضع تصور واضح للقضايا التي لا بد من توثيقها وتدوين المعلومات عنها، ولعل مظاهر الحياة الاجتماعية أكثر حاجة الى هذا التحديد والأمثال الشعبية والأزياء والكتاتيب والاحتفالات وتحديد الأشخاص الذين ستتم مقابلتهم من حيث مواصفات منها السن وصلة الشخص بالموضوع والمنطقة التي ينتمي اليها، ووضع أسئلة محددة وواضحة وتكون مناسبة لاستخراج معلومات تخص الموضوع وتصاغ بلغة سهلة لا غموض فيها، وتحديد منفذ العمل وفقاً لمواصفات منها: أن تكون له صلة بالموضوع، وأن يكون على علم بالمصطلحات المستخدمة في الموضوع المكلف به، وأن يكون قادراً على استجلاب المعلومة". وتوضيحاً ذكرت: "لي تجربتان في الرواية الشفاهية وهما تجربتان تختلفان. الأولى في مرحلة الدكتوراه في بحثي عن علاقة سلطنة لحج ببريطانيا ومصدر الرواية هنا لم يكن من الذين عاصروا الأحداث وانما من الذين صنعوا الأحداث التي تناولتها طبيعة علاقة لحج ببريطانيا والحركة الوطنية في الجنوب العربي، وكانت لرواية هؤلاء أهمية خاصة لأسباب عديدة أهمها: أن هذه الرواية كانت تعبر بدقة عن أحاسيسهم وأهدافهم في صنع الأحداث وردود فعلهم تجاه ما كانت تقابل به الحكومة البريطانية تصرفاتهم ومطالبهم ومشاريعهم الوطنية من قبول بعضها ورفض لبعضها. ولما كان هؤلاء على علم تام وفهم دقيق بأسباب ودوافع السلطات البريطانية لا سيما من أهل المنطقة المتفهمين لردود فعل المواطنين سردوا تفاصيل الأحداث وأوضحوا جوانبها ودواخلها وتصدوا لتفسير كيفية تصرف معاصريهم ممن شهدوا الأحداث ومدى تقبل المواطنين لحدث ما أو رفضهم له بصورة مميزة أو رفضهم له بوضوح وشفافية، كما أن السلطان علي عبدالكريم وهو من أبناء لحج وأحد سلاطينها وابن السلطان جعله أكثر التصاقاً بالأحداث والماماً بها والكثير من خفايا الأمور ومتابع بدقة لكثير من التفاصيل المحفوظة في ذاكرته على الرغم من مرور زمن ليس بقصير عليها. والتجربة الأخرى كانت في كتاب نساء شهيرات في نجد وموضوع هذا الكتاب هو المرأة وكما هو معروف عانت المرأة في بلادنا في العصور الحديثة باهمال ذكر المؤرخين لها وظلت سيرتها مجهولة التاريخ الا من اشارات بسيطة تحمل في ايجازها غموضاً في معرفة الاسم كاملاً والميلاد والوفاة والنشأة وكل ما يتعلق بحياتها واسهاماتها كاملة. ولعل كل من حاول استجلاء تاريخ المرأة وقف على هذه الصعوبات، وازاء النقص الحاد في المعلومات المدونة عن المرأة جاءت الرواية الشخصية تحمل في سياقها معلومات قيمة عن نساء من مجتمعنا أدّين أدواراً متعددة الأمر الذي يدفعني الى التأكيد على هذا المصدر قبل ضياعه ولا شك أن الحاجة تستدعي الاسراع في تنفيذ حفظ الروايات الشفهية لأن التأخير يعني بمرور الوقت فقد مصدر شفاهي كان يملك معلومات قيمة غير أن هذا المصدر رحل دون أن يستفاد مما كان يملكه من معلومات". ودعت الحربي في نهاية مداخلتها الى ضرورة ايجاد مادة في تدريس التاريخ الشفاهي في الجامعات لتعويد الطلاب على الأسس التي تبنى عليها للاستفادة من هذا المصدر. ودعت الى تبني جهة علمية تكون مسؤولة عن التخطيط والتنفيذ فيما يخص التاريخ المحلي وتدوينه من الرواية الشفهية. واقترحت دارة الملك عبدالعزيز كجهة علمية جليلة يسند اليها هذا الأمر لتجربتها في هذا المجال وكونها ممن يعنون بهذا الجانب.