لم يمض سوى شهرين على انتزاع السلطة من جانب العسكريين في باكستان. وقد تلاشت بسرعة مشاعر الابتهاج التي اثارتها اطاحة نظام نواز شريف غير الشعبي. وواجه الحكام العسكريون ست مشاكل صعبة كبيرة اسهمت في تقليص فترة شهر العسل التي يتمتع بها عادة أي حكم جديد. كانت المشكلة الاولى التي واجهها النظام العسكري، مع توغله في مهمة الحكم المعقدة، هي الاقتصاد. إذ اعتقد العسكريون ان حملة مكافحة الفساد التي اسرفوا بالحديث عنها ستجلب مئات بلايين الروبيات. وظنوا ان هذه الثروة ستحدث تحولاً في الاقتصاد الباكستاني وتحقق للنظام اكاليل الغار. لكن هذا لم يحدث. ولم تزد حصيلة اعتقال عشرات من رجال الاعمال والسياسيين، وتشريع قانون شديد القسوة، وكل ما ابداه العسكريون من ضراوة، على عشرة بلايين روبية. لكن الضرر الاكبر تمثل في ان التحرك العسكري وجّه ضربة قوية الى ثقة المستثمرين في بلاد هي في أمس حاجة الى الاستثمار لحفز النمو الصناعي. ولجأ النظام، في محاولة يائسة للحصول على الموارد الضرورية، الى فرض ضرائب. لكن الضرائب لم تكن ابداً تحظى بشعبية، اما ضريبة الاستهلاك فانها اقل شعبية. كان هذا ما اكتشفه النظام عندما رفع اجور النفط والكهرباء. واثارت هذه الخطوة استياء عامة الناس الذين سئموا دفع اجور تفوق ما تدفعه بلدان اخرى في جنوب آسيا للمنتجات ذاتها. وجاء تقرير البنك المركزي ليزيد الوضع قتامة. فالانتاج الزراعي، الذي كان في السابق مفخرة الاقتصاد الباكستاني، انخفض بشكل مريع الى مستويات متدنية. وعلى رغم اعادة جدولة سخية للديون من قبل "نادي لندن" و "نادي باريس"، واعلان اجندة اصلاح جريئة من جانب الجنرال مشرف، لم تتدفق اموال جديدة الى باكستان. وكان ذلك بمثابة ضربة للثقة التي اشاعها الحكام الجدد. وتجلت النتيجة في مستوى احتياطي العملات الاجنبية الذي تدنى ذات مرة الى 400 مليون دولار. وفقدت بورصة كراتشي نصف رأسمالها في السنة الماضية. ولم يتمكن النظام الحالي من استعادة الثقة بسوق الاسهم. كان زعيم الانقلاب الجنرال مشرف يأمل في ان يحقق التكنوقراط معجزات. لكن امثال هؤلاء، الذين يعودون الى البلاد من وظائف يسيرة في الغرب، يسهل خداعهم من قبل جهاز بيروقراطي ماكر يمقت وجودهم. المشكلة الثانية التي واجهها العسكريون كانت افتقارهم الى الشرعية. فاذا كان التعامل مع الوضع الاقتصادي صعباً، لم يكن التعامل رئيس الوزراء السابق نواز شريف اقل صعوبة، اذ تحدى شرعية الحاكم الحاليين في دعوى اُقيمت ضده. ومن المقرر ان يُنظر في القضية في السنة الجديدة. وكانت المؤسسة العسكرية اعلنت انها لن تفرض الاحكام العرفية، الاّ انها علّقت الدستور. وأدى هذا الى نشوء تناقض والى ازمة شرعية. واُلقى بالكرة في ملعب القضاة سيئي الحظ. يذكر ان الدكتاتوريات العسكرية الثلاث في تاريخ البلاد مارست ضغوطاً على القضاة كي يضفوا شرعية على ما هو غير شرعي باسم الضرورة. وبإرغام الهيئات القضائية العليا على تبرير الحكم العسكري تحت تهديد السلاح، فقدت اعتبارها امام المحامين والشعب. وسينبئنا الزمن ما اذا كانت هذه الهيئات ستذعن للقوة مرة اخرى او ترسّخ استقلاليتها باعادة الدستور واصدار توجيهات باجراء انتخابات جديدة. وتوجد بالفعل سابقة للقيام بخطوة كهذه تتمثل في قرار شهير اُتخذ في 1988. المشكلة الثالثة التي يواجهها النظام العسكري هي غياب التأييد السياسي. فالعداء مستحكم بينه وبين الرابطة الاسلامية الباكستانية التي اطاح زعيمها وقدمه الى محاكمة بتهمة الخيانة. كما نأى بنفسه عن حزب الشعب الباكستاني الذي تعرض زعماؤه ايضاً الى الاعتقال. ونظراً لعزلة النظام عن هذين الحزبين الرئيسيين، فانه يتخبط بحثاً عن الدعم السياسي. وادى الفراغ السياسي المتزايد الى تعزيز النزعة القومية المناطقية. ويطالب قادة بارزون في اقليمين غالبية سكانهما من الاقليات بانشاء جمعية تأسيسية جديدة تتولى اعداد دستور جديد يترك سلطة ضئيلة جداً في ايدي المركز. وكان الباكستانيون عانوا تجربة مريرة في ظل الوحدات الفيدرالية ادت الى تفكيك البلاد في 1971. واذا لم يتوخَّ العسكريون الحذر فانهم قد يفتحون الباب مجدداً لمشاكل دستورية لا تنتهي. المشكلة الرابعة التي تجابه النظام العسكري هي غياب صدقية "مكتب المساءلة الوطني" الذي يرأسه جنرال في الجيش الباكستاني. فليس هناك تأييد يذكر وسط الباكستانيين لفكرة وجود جنرال يُخضع القادة السياسيين والمدنيين الى المساءلة. وقد اضعف صدقية هذا المكتب استثناء المسؤولين العسكريين، الذين تورطوا بشراء معدات عسكرية مُكلفة، من عملية المساءلة. بالاضافة الى ذلك، تشي الخطوة المتمثلة بانشاء محاكم خاصة من قبل العسكريين لمحاكمة من يقرر الجنرال مشرف ملاحقته، بوضع غير سليم. فعندما يُلغى الحق العالمي الذي يتمتع به كل مواطن بمحاكمة عادلة امام محاكم عادية، يُلحق الاذى بالعملية القضائية مهما كانت الغاية نبيلة. المشكلة الخامسة التي يواجهها النظام هي العلاقات المتوترة مع الهند. إذ سعى النظام العسكري الى استرضاء الهند بخطوات لبناء الثقة. وكانت احدى هذه الخطوات التي اتخذتها باكستان الاعلان الاحادي الجانب بخفض حجم قواتها في المنطقة الحدودية المضطربة. لكنها لم تجد نفعاً في تهدئة القيادة الهندية. واعلن رئىس وزراء الهند انه لا يرى "أي امكان" لاجراء محادثات مع الحكام العسكريين. واتهم النظام الباكستاني بتخريب ثقة الهند بعد لجوئه الى القوة في عملية التوغل التي شهدتها منطقة كارغيل في الربيع الماضي. ومعروف ان رئىس الوزراء السابق نواز شريف كان يتمتع بعلاقات حميمة مع الحكومة الهندية. ويبدو من المستبعد ان يتحمس الهنود لاستئناف عملية التطبيع مع باكستان في الوقت الذي يرزح فيه مهندس السلام مع الهند في زنزانة سجن ويواجه تهمة الخيانة التي يمكن ان تحمل حكماً بالاعدام. المشكلة السادسة التي يواجهها النظام العسكري تكمن في علاقاته مع القوة الكبرى الوحيدة في العالم، الولاياتالمتحدة. وعرض مساعد وزير الخارجية الاميركي بيكرينغ بوضوح مصالح الولاياتالمتحدة في 6 كانون الاول ديسمبر الجاري. قال بيكرينغ في كلمة القاها في ندوة في جامعة جورج واشنطن ان لدى الولاياتالمتحدة اربع مصالح متداخلة في سياستها. اولاً، الاستقرار الاقليمي وحل النزاعات. وثانياً، حظر انتشار الاسلحة النووية. وثالثاً، دعم حقوق الانسان والديموقراطية. ورابعاً، تشجيع التنمية الاقتصادية في المنطقة. وتصطدم هذه المصالح الاربع كلها بالوضع الحالي في باكستان، فالمحادثات الاقليمية معطلة، والقضايا المتعلقة بالحد من انتشار الاسلحة النووية دُفعت الى الوراء، وتتعرض حقوق الانسان الى هجوم من قوانين قاسية، ويجري التضحية بمناخ مؤاتٍ للاستثمار على مذبح المساءلة. ودعا بيكرينغ الحاكم العسكري لباكستان الى اعلان "جدول زمني واضح للعودة الى حكم دستوري ومدني وديموقراطي". وقال ان "العلاج لديموقراطية تعاني الخلل لا يكمن في انقلاب عسكري". واضاف انه وفقاً لما ينص عليه القسم 508 من "قانون تخصيص الموارد للعمليات الخارجية الاميركية"، فإن اميركا طبقت عقوبات بحق باكستان باعتبارها بلداً اُطيحت حكومته المنتخبة ديموقراطياً بمرسوم عسكري. وفي الوقت الذي اكد بيكرينغ بشكل قاطع تأييد اميركا لاعادة الديموقراطية، اوضح ايضاً ان اميركا ستبقى على صلة مع الحكام العسكريين الجدد على صعيد قضيتين اساسيتين هما منع انتشار الاسلحة النووية والارهاب. ربما يفسر هذا الموقف اندفاع البنك المركزي الباكستاني الى تنفيذ قرار الامن المتحدة الذي دعا الى فرض عقوبات محدودة على حركة "طالبان" لتشديد الضغوط عليها لتسليم الزعيم المتطرف اسامة بن لادن. واصدر البنك المركزي الباكستاني اوامره الى البنوك بتجميد ارصدة قادة "طالبان" في البلاد وتقديم قائمة جرد بالاصول المودعة لديها. لكن اذا اخذنا في الاعتبار تورط المؤسسة العسكرية الباكستانية في "الجهاد" الافغاني، وأن باكستان من بين ثلاثة بلدان في العالم تعترف بحكومة "طالبان"، عندئذ يبدو من المستبعد ان يؤدي تجميد هذه الاصول الى شيء يذكر، او ان هذه الخطوة ستعيد الدفء الى العلاقات مع الولاياتالمتحدة على المدى البعيد. مشاكل ومشاكل، ثم مزيد من المشاكل هو ما يواجهه النظام العسكري. ولن تختفي هذه المشاكل لمجرد ان النيات صادقة، أو لأن التكنوقراط متحمسون، أو لأن بضعة سياسيين ممن صدر بحقهم حكم مسبق يقبعون خلف القضبان. في الواقع، يمكن هذه المشكلات الست ان تقهر النظام الجديد الاّ اذا قرر ان يحدّ من خسائره ويعود الى الثكن ويسمح للسياسيين بأن يتحملوا اعباء الحكم في بلد مثقل بالديون في منطقة مشبعة بعدم الاستقرار. * رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة.