الأسهم الأوروبية تغلق على تراجع    أمير تبوك: نقلة حضارية تشهدها المنطقة من خلال مشاريع رؤية 2030    الفالح: المستثمرون الأجانب يتوافدون إلى «نيوم»    برئاسة ولي العهد.. مجلس الوزراء يقرّ الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2025م    السعودية وروسيا والعراق يناقشون الحفاظ على استقرار سوق البترول    مغادرة الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    الملك يتلقى دعوة أمير الكويت لحضور القمة الخليجية    الهلال يتعادل إيجابياً مع السد ويتأهل لثمن نهائي "نخبة آسيا"    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    «فقرة الساحر» تجمع الأصدقاء بينهم أسماء جلال    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    الأسبوع المقبل.. أولى فترات الانقلاب الشتوي    «شتاء المدينة».. رحلات ميدانية وتجارب ثقافية    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    مبدعون.. مبتكرون    ملتقى الميزانية.. الدروس المستفادة للمواطن والمسؤول !    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف النار    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    قمة مجلس التعاون ال45 بالكويت.. تأكيد لوحدة الصَّف والكلمة    7 آلاف مجزرة إسرائيلية بحق العائلات في غزة    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    حوادث الطائرات    حروب عالمية وأخرى أشد فتكاً    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    الرياض الجميلة الصديقة    هؤلاء هم المرجفون    المملكة وتعزيز أمنها البحري    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    حملة على الباعة المخالفين بالدمام    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قبلة الإسلام في ضوء بينات الحق
نشر في الحياة يوم 21 - 12 - 1999

من المعلوم أن تحويل القبلة من بيت المقدس الى بيت الله الحرام الكعبة الشريفة من أعظم الحوادث الدينية، وأهم التشريعات التي قوبل بها الناس بعد هجرة النبي الى المدينة، وأخذ الاسلام في تحقيق أصوله، ونشر معارفه، وبث حقائقه، فما كان بعض السفهاء آنذاك والآن من العدوانيين المستشرقين يسكت ويستريح في مقابل هذا التشريع الجديد، فعمل جهد طاقاته في لوي الحقائق وبث السموم والمغالط لإثارة الاهتزاز والبلبلة في أذهان المسلمين، التي تبتعد بهم عن التعمق في خلفيات التشريع البعيدة المدى.
احتفل العالم الاسلامي في 15 شعبان بذكرى تحويل القبلة من بيت المقدس الى بيت الله الحرام، لما تشكله بالنسبة لهم من أنه حدث نوعي وديني واجتماعي أبدي الذي به تحفظ الوحدة بين المسلمين، بعد أن كانوا متفقين في العبادة والمعبود، وبها تميّز واستقل المسلمون عن غيرهم، وانها كانت سبباً في هدايتهم، وإعلاماً بأنهم على الصراط المستقيم وتدعيماً لهم.
قال تعالى: "سيقول السفهاء من الناس ما وَلاَّهُم عن قِبلَتِهِم التي كانوا عليها قُل للّه المشرقُ والمغربُ يهدي من يشاء إلى صِراطٍ مُّستقيمٍ. وكذلك جعلناكم أُمَّةَ وسَطاً لتكونوا شُهداء على الناس ويكون الرسولُ عليكُم شهيداً وما جعلنا القِبلَةَ التي كُنت عليها إلا لنعلم من يتّبِعُ الرّسولَ ممن ينقلبُ على عقبيهِ وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى اللّهُ وما كان اللّهُ ليُضيعَ إيمانكُم إن اللّهَ بالناسِ لرؤُفٌ رحيم. قد نرى تقلُّبَ وَجهِكَ في السماء فلنولينّكَ قِبلَةً ترضاها فَوَلّ وَجهَكَ شَطَر المسجد الحرام وحيثُ ماكُنتم فَولُّوا وجوهكُم شَطرَهُ وإنّ الذين أُوتوا الكتاب ليعلمون أنهُ الحَقُّ من رّبِهِم وما اللّهُ بغافِلٍ عما يعملون. ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولَئِن اتّبَعتَ أهواءهُم من بعدِ ما جاءكَ من العِلمِ إنك إذاً لّمِنَ الظالمين. الذين آتيناهم الكِتابَ يعرفونهُ كما يعرفون أبناءهُم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحَقّ وهم يعلمون. الحَقُّ من رّبِكَ فلا تكوننّ من المُمترين. ولِكُلّ وِجهَةٌ هو مُوَلّيهَا فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأتِ بِكُمُ اللّهُ جميعاً إنّ اللّه على كُلّ شيءٍ قدير. ومن حيثُ خرجتَ فَوَلّ وَجهَكَ شَطرَ المسجد الحَرامِ وانه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون. ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثُ ما كُنتم فَوَلُّوا وجُوهَكُم شَطرَهُ لِئَلاّ يكون للناسِ عليكُم حُجّةً إلا الذينَ ظلَموا مِنهُم فلا تخشوهُم واخشوني ولأُتِمّ نِعمَتي عليكُم ولعلّكُم تهتدون. كما أرسلنا فيكُم رسولاً مِنكُم يتلوا عليكُم آياتِنا ويُزكّيكُم ويُعلّمُكُم الكِتابَ والحِكمة ويُعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون" سورة البقرة 142-151.
والقِبْلَةُ - في اللغة -: مأخوذة من الاستقبال وهو ضد الاستدبار، وهي كل جهة يستقبلها الانسان، أي اسم للحالة التي عليها المُقابِلُ، واستقبل الشيء وقابَله: حاذاه بوجهه. وكان يقال فيما حكي هو لي قبلة وأنا له قبلة ثم صار علما على الجهة التي تستقبل في الصلاة.
والقِبْلَةُ - في شرع الاسلام -: هي استقبال الكعبة المقدسة عند المسجد الحرام في الصلاة اليومية، ولكل صلاة واجبة بما في ذلك الأجزاء المنسية من الصلاة، وسجدتا السهو، وركعتا الطواف، والصلاة على الميت، ويجب الاستقبال أيضاً بالميت عند احتضاره ودفنه، وأيضاً عند الذبح والنحر.
وأهل القبلة: يراد به المسلمون أهل القبلة، وأهل القرآن، وأهل الشهادتين، والمسلمون ألفاظ تترادف على معنى واحد، اما اسم المحمديين فقد اخترعه لنا وأطلقه علينا أعداء الله والاسلام، يقصدون بذلك اننا اتباع شخص لا أهل دين سماوي، تماماً كالبوذيين اتباع بوذا، والزرادشتيين اتباع زرادشت. ومهما يكن، فإن الغرض من هذه الفقرة التنبيه على أن الأمة الاسلامية على اختلاف بلادها، وألوانها، وألسنتها تجمعها وتوحد بينها أصول واحدة هي أعز وأغلى من حياتها، لأن المسلمين جميعاً يستهينون بالحياة من أجل تلك الأصول، ولا يستهينون بها من أجل الحياة، ومن تلك الأصول الإيمان بالله وكتابه، وبمحمد صلى الله عليه وسلم وسنته، والصلاة الى القبلة. فمن كفر من يصلي الى القبلة، واخرجه من عداد المسلمين فقد أضعف قوة الاسلام، وشتت كلمة المسلمين، وأعان أعداء الدين على الدين، من حيث يريد، أو لا يريد.
قل للّه المشرق والمغرب
في بداية الدعوة الاسلامية اتخذ المسلمون وهم في مكة بأمر حكمة وتدبيرالله سبحانه وتعالى بيت المقدس كأول قبلة لهم، واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهراً لما هاجروا الى المدينة. الى أن نزل أمر الله بعد هجرتهم الى المدينة بأن يستقبلوا قبلة ابراهيم الأولى بيت الله الحرام في مكة المكرمة. قبل آدم ونوح والأنبياء من بعدهم. أما عن حكمة الله في تصريف وجوه المسلمين الى بيت المقدس في بداية الدعوة في مكة، فنستطيع ان نلخص شيئاً يسيراً منها في جملة من الحقائق:
1- بيان ذلك أن الكعبة كانت مشغولة في صدر الاسلام بأصنام المشركين وأوثانهم، وكان السلطان معهم، والاسلام لم يقو بعد بحيث يظهر قهره وقدرته، فهدى الله رسوله وممن معه الى استقبال بيت المقدس، لأن الحكمة والمصلحة في بداية الدعوة وفي تلك الظروف كانت تستدعي ان يهديهم الله الى جهة تكون غير جهة الكعبة، خشية استفزاز قريش، وقيامها على المسلمين، وهم بعد قلة، لا قوة لها ولا عدة ولا قبل لها في مقابلة الكفار. وكان الأمر ألا يقيمون شعاراً يفصح عنهم فيؤدي بهم الى التهلكة.
2- اقتضت الضرورة والمصلحة في حكمة الله وتدبيره أن يوجه الداخلين في الاسلام في بداية انطلاق الدعوة في مكة، باعتباره صادراً من خالق الانسان الذي يعرف ما يصلحه وما يفسده أكثر من الانسان نفسه، الى وجهة غير وجهة الكعبة يستقبلونها في صلاتهم ليبعدهم عن كل ما هو من شأنه في حينها ان يوقعهم لقلة علمهم واستيعابهم لكافة تعاليم ومفاهيم الدين الجديد في الارتباك والارتياب والاهتزاز وهم حديثو عهد في الايمان فيما لو استقبلوا الكعبة التي كانت مشغولة بالاصنام وتعج بالأوثان "وربك يخلق ما يشاء ويختار"، من حيث بعد ان اطلعوا على الدين الجديد وعرفوا مبادئه القيمة والتوحيد الخالص الذي يدعو اليه أصبحوا ينفرون من كل ما يذكرهم بالشرك والأوثان ومراكزها ومواقعها وأعمال وأفعال أقوامهم التي كانت تتعبد بها وعندها، إذ نجد بعضاً من المسلمين في نهاية الدعوة وليس في بدايتها وعند فتح مكة ذهبوا الى رسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم قائلين: "يا نبيّ اللّه إنا كُنا نطوفُ بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة - أي الصنم المعروف - فهل علينا من حرج أن نطوف بهما فأنزل اللّه عَزَّ وجَلَّ إن الصفا والمروة من شعائر اللّه.."، فما بالك عن حال المسلمين وهم في بداية انطلاق الدعوة وكانوا قلة. فلهذا كان يخبر ويعلم الرسول الكريم أتباعه عن مناسكهم في الحج "إنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم عليه السلام" أي انها كانت قائمة على التوحيد الخالص في زمن أبيهم ابراهيم عليه السلام ومن قبل أن تتلوث من بعده من قبل المشركين.
3- حين صرف الله وجوه المسلمين في بداية الدعوة الى بيت المقدس، لم يصرفهم إليها على أساس انها كانت الشعار الديني لليهود وإقرارهم عليه، كما ادعى أهل الضلالة والتزييف سفهاء اليهود في حينها والذين تبعهم الى اليوم بعض سفاهة العدوانيين والمستشرقين ممن يبثون تقريباً نفس تزييف وتضليل أسلافهم ممن سبقوهم حين تفسيرهم المحرف لهذه الواقعة، باخراجها عن سياقها وواقعها الصحيح "وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، قُل بل مِلّةَ إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين"، بل صرف الله وجوههم إليها لكونها كانت إحدى دور العبادة التي اختص بناؤها على التوحيد الخالص ببعض أنبياء الله، ومن قبل أن تتلوث بوثنيات وشرك وخزعبلات وتزييف من وسموا أنفسهم بأنهم اتباعهم "أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هُوداً أو نصارى، قُل أأنتم أعلمُ أم اللّه، ومن أظلَمُ ممن كتم شهادةً عندهُ من اللّه وما اللّه بغافلٍ عما تعملون"، "ولتَسمَعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وإن تصبروا وتتّقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور".
4- اقتضت حكمة الله وتدبيره وهو العليم الخبير في بداية انطلاق الدعوة الاسلامية في مكة بتصريف وجوه المسلمين الى بيت المقدس، لكونها كانت تمثل احدى بيوت العبادة لبعض أنبياء الله كداود وسليمان والمسيح وغيرهم من أصحاب الرسالات السماوية، وكذلك تأتي أهميتها لكون نواة هذا الدين الجديد في بداية انطلاق دعوته كانت تعيش البساطة في الوعي والثقافة، في مواجهة المشاكل المستجدة والتحديات الآتية، فأراد سبحانه وتعالى أن يربيها عملياً على الإيمان بهؤلاء الأنبياء وبرسالاتهم الناصعة التي بعثوا بها الى أقوامهم، ومن قبل أن تتلوث بالشرك والوثنيات والترهات من بعدهم، وأن يولد لهم عن طريق التربية العملية نظرة سواسية ومن غير تفريق تتسم بالاحترام والتقدير لجميع أنبياء الله، وان لا تخلط بينهم وبين من تسموا أنهم اتباعهم من بعدهم، وان مواجهة هذه التحديات الآتية من هذه الفئات من وثنيات وشرك وأذى وتنكيل وعناد وتجبر وعنصرية واعتداء تكون معهم وليس مع أنبياء الله، الذين اتخذوهم زيفاً كعناوين على كتبهم المحرفة التي اكتتبوها بأيديهم سواء التي ابتنت على العنصرية البغيضة أو الشرك السقيم "قُل آمنا باللّه وما أُنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أُوتِي موسى وعيسى والنّبيون من ربِهم لا نُفرق بين أحدٍ منهم ونحنُ لهُ مُسلمون" آل عمران/ 84.
5- قوله تعالى: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله"، يقول تعالى انما شرعنا لك يا محمد التوجه أولاً الى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها الى الكعبة، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه، وليبرز الأشخاص الذين يعيشون الاسلام فكراً وشعوراً وممارسة وطاعة مطلقة، ويتميزوا عن الأشخاص الذين يعيشون الاهتزاز في إيمانهم ويواجهون الرسالة كأية فكرة بشرية قابلة للأخذ والرد، ويفهمون الإيمان ارتباطاً شكلياً بالله وبالرسول... حتى اذا وقفوا في مواقع البلاء تحولوا عن مواقفهم ومواقعهم الايمانية الى مواقع الكفر والنفاق. فبيّن سبحانه ان هذه الأحكام والتشريعات ليست الا لأجل مصالح تعود الى تربية الناس وتكميلهم على الطاقة المطلقة لله التي تتمثل في التسليم لاحكام الله من دون أي ريب واعتراض، وتمحيص المؤمنين من غيرهم، وتمييز المطيعين من العاصين، والمنقادين من المتمردين "أحَسِبَ الناسُ أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون. ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ اللّهُ الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين".
أول بيت
قال تعالى: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين"، وبكة من أسماء مكة. أي انه أول بيت وضع لنسك الناس لعبادة وطاعة الله. يطوفون به ويصلون إليه ويتعبدون عنده وفي اتجاهه. وعليه فإن بيت الله العتيق يرتبط بآدم عليه السلام على اعتبار أنه أول الناس وأبو البشر وأول من أطاع الله بعد أن تلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه.
لمّا اندرس البيت العتيق بعد الطوفان، ارشد سبحانه وتعالى خليله إبراهيم عليه السلام الى مكان البيت وذلك بنص الآية: "وإذ بوّاًنا لإبراهيم مكان البيت.."، أي أرشدناه الى مكان أول بيت وضع للناس لعبادة وطاعة الله عنده وفي اتجاهه. ولما أسكن نبي الله ابراهيم زوجته هاجر وابنه اسماعيل هذه البقعة دعا الله أن يرزقهم من الثمرات ويجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم إذ قال: "ربنا إني أسكنتُ من ذُريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرّم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم وارزُقهم من الثمرات لعلهم يشكرون"، ومن ثم حفر ابراهيم موضع البيت واخرج القواعد وبناه من جديد وذلك بنص الآية الكريمة: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل"، وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إبراهيم وانما هدى إليها إبراهيم وبوئ لها.
روايات التوراة
جاء في التوراة بأن إبراهيم حين خرج من مصر الى جنوب فلسطين أخذ يرتحل من جنوب فلسطين - محاذاة شمال الحجاز - الى الجنوب أي الحجاز "خرج إبراهيم من مصر هو وامرأته وكُل ما كان لهُ، وأخذ يرتحل من الجنوب الى بيت إيل أي بيت الله الى المكان الذي كان بيته فيه في البداءة - أي الى أول بيت وضع لعبادة وطاعة الله -" تكوين 13/1-2.
وما يدعم ذلك هو تأكيد التوراة على استمرار ارتحال إبراهيم نحو الصحراء في الجنوب وهو خارج من أرض الكنعانيين "ثم أخذ يرتحل جنوباً نحو صحراء الجنوب" تكوين 12/9، وسياق لفظة ثم أخذ يرتحل جنوباً أي استمراره في الارتحال الى بيت إل الى بيت الله الذي وضع له في البداءة أي الى مصداق قوله تعالى "أول بيت وضع للناس للذي ببكة".
تثبت لنا هذه الحقائق بأن القبلة الحقيقية هي بيت الله الحرام الكعبة الشريفة في مكة المكرمة. قبلة ابراهيم واسماعيل وهاجر والنبيون من بعدهم... أساس وقاعدة التوحيد الأولى. فلهذا كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يعرف هذه الحقيقة ويعيها جيداً فكانت مورد محبته ورضاه صلى الله عليه وآله وسلم، لأنها أقدم القبلتين وقبلة ابراهيم عليه السلام والنبيين من بعده، ومجمع العرب والمسلمين وملاذهم وأهم ما يفتخرون به فكان ذلك مورد خطور قلب نبينا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ومحبته وان لم يظهره على لسانه تأدباً مع ربه، لأنه ليس له أمام أوامر الله إلا الطاعة المطلقة التي تتمثل في التسليم لاحكام الله وتدبيره وتصريفه في شؤون عباده من دون أي ريب واعتراض "والله يخلق ما يشاء ويختار"، "وهو العليم الخبير"، بل كان يقلّب وجهه المبارك في آفاق السماء منتظراً لما هو المعلوم من إرادة الله تعالى، أو توقعاً لنزول الوحي في أمر القبلة، فلهذا قال تعالى عن حال نبيه "قد نرى تقلب وجهك في السماء"، وكشف همه بعد أن انتفت المصلحة في القبلة الأولى فنزلت الآية الكريمة "فلنولينّكَ قِبلَةً ترضاها فَوَلّ وَجهَكَ شَطرَ المسجد الحرام وحيثُ ما كُنتُم فَولُّوا وجوهكُم شَطرَهُ وإنّ الذين أُوتوا الكتاب ليعلمون أنهُ الحَقُّ من رّبِهِم وما اللّهُ بِغافِلٍ عما يعملون".
وكذلك جاء في قوله تعالى بأن الكثير من علماء أهل الكتاب على معرفة صحيحة وجلية بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، تماماً كمعرفتهم بابنائهم التي لا شك فيها، ولا ريب، لأن التوراة والانجيل بشرا به، وذكراه بنعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره، وكذلك جاء قوله تعالى لنبيه المرسل الى الناس أجمعين بأنهم يعلمون أن الخط الذي تسير عليه في العقيدة وفي التشريع هو الحق من ربهم، وذلك فيما تحدثت به التوراة والانجيل التي يعرفونها جيداً ويخفونها عن الناس "وإن الذين أُوتوا الكتاب ليعلمون انه الحقُّ من ربهم وما اللّه بغافلٍ عما يعملون"، أي ليعلمون ان كون الكعبة الشريفة قبلة هو الحق من ربهم. وليعلمون حق العلم بأن إبراهيم عليه السلام أبا الأنبياء وكبيرهم هو الذي رفع قواعد البيت واتخذها قبلة للناس أجمعين، ولكنهم رفضوه حسداً من عند أنفسهم لا لشيء إلا لأنه في يد العرب، وهم سندته وحماته، ولو لم يكن في يد العرب لكان اليهود والنصارى اسبق الناس إليه، وأكثرهم تقديساً له."وليَعلَمَ الذين أُوتوا العِلمَ أنّهُ الحَقُّ من ربكَ فيؤمنوا بهِ فتُخبتَ له قلوبهم وإن اللّه لَهَادِ الذين آمنوا إلى صِراطٍ مُستقيم".
* كاتب في الفكر الاسلامي والدراسات التاريخية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.