الآن وبعدما هدأت العاصفة وبات الأمر محل تأمل وفكر رشيد، أتصور أن المواجهة التي جرت أحداثها في حي "خيطان" قبل اسابيع في الكويت بين سلطات الأمن والعمالة المصرية توجب نوعاً من المراجعة مع النفس. وبادئ ذي بدء نذكّر بثلاثة مبادئ لا خلاف عليها. الاول ان أمن الكويت وأمن المجتمعات الخليجية الأخرى لا تراجع عنه وليس محل مناورة من أحد، وتحديداً للمصريين الذين أثبتوا دوماً انهم من اكثر العرب حرصاً على أمن الكويت وسيادتها ووجودها حرة مستقلة. والثاني ان كرامة العمالة المصرية يجب ان تكون موضوع احترام رسمياً وشعبياً، فإن لم يكن من ناحية انهم اخوة في العروبة والاسلام، فعلى الأقل من زاوية انهم بشر لهم حقوق ثابتة في المعاملة الكريمة. والثالث ان العلاقات بين البلدين شعباً وحكومة ليست علاقة عابرة وإنما هي معمدة بالدم، دم الجنود المصريين الذين شاركوا في تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، فضلاً عن المبادئ والمصالح المشتركة. والكل يعرف انه لم يحدث ان شاركت قوة آسيوية في تحرير الكويت مباشرة كما فعل المصريون والسوريون. هذه المبادئ الثلاثة تفرض علينا، مصريين وعرباً وخليجيين، تأمل ما جرى بأعلى درجة من العقلانية والانفتاح وروح المسؤولية، وجرياً على هدى البديهة "ربما ضارة نافعة"، فإن تلك المواجهة التي وصفها بعض الأخوة الكويتيين بأنها "انتفاضة الصعايدة" - ولا أدرى أهذا قدح أو مدح - فإنها تكشف عن امور يعلم الجميع بمن فيهم المسؤولون والاكاديميون وقادة الرأي انها غير حميدة، وأن ما فيها من ضرر اجتماعي وإنساني يفوق ما فيها من مصلحة مباشرة. أبرز تلك الأمور، وربما اصلها الجامع، يتعلق باسلوب استقدام العمالة من الخارج، حيث تمنح السلطات الرسمية عدداً معيناً من الإقامات القانونية لشخص محدد - البعض منهم محترف ولا مهنة له غير ذلك، والبعض منهم اشخاص عاديون يحصلون عليها من قبيل توزيع المنافع والامتيازات - تتيح له استقدام عدد معين من العمالة من البلدان المختلفة. والمبدأ الرئيسي الذي يحكم هذه العلاقة بين تاجر الإقامة والسلطات، يكمن في توظيف "قناة" من اهل البلاد لرقابة تلك العمالة الغربية الآتية من بعيد، ضماناً لسلوكها وعدم خروجها عن قوانين البلاد. واثبت الواقع العملي ان معظم هؤلاء التجار يستخدم هذه الإقامات أسوأ استخدام، اذ تعطيهم القوة القانونية امكان إهانة العمالة المستقدمة واستغلالهم اقتصادياً عبر استقطاع نسبة كبيرة من رواتبهم من دون وجه حق ولأسباب ومبررات مختلفة، وإعادة بيعهم لآخرين، وكأنهم مجرد سلع واشياء وليسوا بشراً مثلهم مثل اهل البلاد انفسهم، وأثبت الواقع ايضا ان فكرة ضبط سلوك العمالة عبر وجود رقيب من اهل البلاد ليست فاعلة عملياً، فهؤلاء الكفلاء، اياً كان اسمهم وطريقة تنظيمهم، وفي سبيل مصالحهم الضيقة وزيادة أرباحهم، يعمدون وبطرق بدائية الى تأجيج التنافس غير الشريف بين الجاليات الرئيسية المصدرة للعمالة وبعضها البعض. مثل هذا السلوك البدائي مسؤول عن التراكمات النفسية الجماعية التي تسود تجمعات العمالة ازاء بعضها البعض. وهي تراكمات سلبية كامنة والكل يعرف انها قائمة ولا تحتاج إلا حدثاً عابراً لتنفجر وتعبر عن نفسها بصورة انتفاضة او تخريب أو أي شيء آخر. والأمر المعروف للجميع هو أن معالجة مثل هذه التراكمات السلبية لا تكون ابداً عبر القنوات الأمنية الفظة، ولا عبر التهديدات بالترحيل الجماعي أو الفردي، وإنما يكون بمعالجة جذر القضية نفسها، وحسناً تفعل دول خليجية مثل السعودية التي تقوم الآن بإعداد قانون جديد ينظم استقدام العمالة، يحدد الحقوق وينظم الواجبات ويمنع الإهانات، ويتواكب مع المتغيرات والمستجدات، سواء في الداخل السعودي نفسه أو في البيئة الاقتصادية والتجارية الدولية. وأعتقد أن الحركة التي تلت في داخل الكويت بعد أحداث "خيطان" وتستهدف تنظيم استقدام العمالة تصب في هذا الإطار العام. وفي اعتقادي ان ما يهم الجميع هو ان تكون النظم الجديدة واضحة قليلة الثغرات، وتحفظ حقوق الجميع بلا استثناء ومستندة على قاعدة توازن المصالح والأعباء. الأكثر من ذلك هو أن الجاليات العربية في مجملها، ولا اقول المصرية، كما هي الحال في بعض الحالات، هي الأكثر استهدافاً نفسياً من غيرها. فالحديث المتواتر في الصحف المحلية وعدد من ادوات الاعلام الخليجية حول مثالب العمالة الخارجية، وضرورات التخلص منها، وتحميلهم مسؤولية ظواهر اجتماعية سلبية تحدث في كل المجتمعات الطبيعية من دون الإشارة من بعيد او من قريب الى مسؤولية اهل البلاد انفسهم، وكأنهم - كما يصورهم البعض - معصومون عن أي خطأ، مثل هذا الحديث المتواتر لا يقرأه الا العرب نظراً للغة المشتركة، وهو ما يساهم في شعورهم بأنهم مرفوضون وموضع شك جماعي من المجتمعات التي تستضيفهم رغم دورهم التنموي والتحديثي الذي لا ينكره سوى جاحد. في حين ان العمالة الآسيوية لا تقرأ الا صحف بلدانها التي تستورد مباشرة من البلدان الام وتباع على الارصفة لكل عابر سبيل، وهي بدورها خاوية مما تزخر به صحف الخليج من اشارات سلبية عن العمالة الوافدة، وبالتالي فلا تتأثر تلك الجاليات بحديث السلبيات والتوطين والرغبة في التخلص من العمالة الاجنبية. وأذكر هنا ان وزيراً خليجياً شاباً عزا، في معرض حديث رياضي متلفز اذيع قبل ستة اشهر، فشل احد المشاريع الرياضية التي خططت لها مؤسسة رياضية يتولى قيادتها، الى سوء نية وعدم إخلاص المستشارين الغرباء الذين يعملون في المؤسسات المختلفة والذين قدموا نصائح بعدم تمويل هذا المشروع الرياضي. ولم ينس الإشارة الى دور سلبي تمارسه العمالة الأجنبية في بلاده التي باتت عبئاً تجب معالجته باستبدالها بعمالة مواطنة. وكم أثار مثل هذا الحديث غُصة كبيرة في نفوس العمالة العربية، وجعلها تشعر بأنها في موضع اتهام شبه رسمي، يمس اخلاقياتها وشرفها المهني الجماعي، فإذا كان توطين العمالة المحلية حقاً لأهل البلاد لا خلاف عليه، فليس من حق أحد، اياً كان، أن يثير الشبهات ويلقي بالاتهامات الجزافية على العمالة الخارجية، فقط لمجرد إعفاء النفس من مسؤولية الكسل وقلة الخبرة والفشل في إدارة مشروع بعينه. قد تكون هذه الرسالة التي تفضل بها هذا المسؤول القيادي مطلوية خليجياً إزاء مجتمعات يعزف قطاع كبير منها عن العمل، لأنها اعتادت على استقدام الآخرين وتوظيفهم حتى في ابسط الأعمال. ولكن في المقابل ليس من السهل إنكار ما تقوم به العمالة العربية من أدوار تنموية وتحديثية لتلك المجتمعات، ووصفهم بأنهم غير مخلصين، وأن نياتهم سيئة، ومرة اخرى حالت اللغة دون ان تصل هذه الرسالة الغربية الى العمالة الآسيوية حتى وإن كانت مقصودة بها، واقتصر التأثير السلبي على العمالة العربية بكل فروعها. حين نضع مثل هذه الأمور امام الأخوة في الخليج ككل، فالأمر لايعني، كما قد يرى البعض، تدخلاً في شؤون داخلية، ولكنه نوع من الحوار المسؤول حول مصلحة مشتركة. فتنظيم استقدام وتوظيف العمالة في دول الخليج شأن يعني مصر وغيرها من الدول العربية المصدرة للعمالة، تماما كما يعني اهل تلك البلاد. فهناك جزء عزيز من الشعب المصري يعمل في الخليج لا يمكن لأحد ان يقبل إهانتهم او إهدار كرامتهم، كما لا يقبل احد من أي منهم ان يكون موضوع قلق للمجتمعات التي يعملون فيها. واذا كان صحيحاً انهم يحصلون على مقابل مادي فالصحيح ايضاً انهم يقدمون خبرتهم وعرقهم وصحتهم وعمرهم لخدمة المجتمعات الخليجية ونهضتها وتطورها. وأقل القليل هنا أن تكون العلاقة بين العامل المصري وبين مجتمع الخليج مشمولة بحد ادنى من المعالمة الانسانية الكريمة، وألا تكون موضعاً للاستغلال الاقتصادي أو ألعوبة في عملية تنافس غير شريفة بين الجاليات، أو أن يتعامل البعض بسلوك متعالٍ غير مبرر إزاء العمالة الوافدة، وتحديداً العربية ومن بينها العمالة المصرية. فالقضية في مجملها تحتاج مراجعة شاملة تنطلق أساساً من أن الأمر ليس مجرد توزيع مغانم على بعض الأفراد المحليين وإطلاق يدهم في استغلال آخرين، وإنما النظر اليها كسلوك اجتماعي محمّل بمضامين ثقافية سلبية تحتاج الى وقفة حازمة، من قِبَل جميع مؤسسات التنشئة الاجتماعية الخليجية. * كاتب مصري.