حققت الجولة الاولى من محادثات السلام السورية - الاسرائيلية انطلاقة جيدة في واشنطن يومي 15 و16 كانون الاول ديسمبر الجاري تحت الرعاية العطوفة للرئىس كلينتون. وكان الحدث مفعماً بالرمزية السياسية. فقد كان يهدف الى تأكيد التصميم السياسي للطرفين، وللراعي الاميركي الذي لا غنى عنه، على التوصل الى اتفاق سلام في السنة 2000. ومن المقرر ان يجتمع رئىس الوزراء الاسرائيلي إيهود باراك ووزير الخارجية السوري السيد فاروق الشرع مرة اخرى في العاصمة الاميركية في 3 كانون الثاني يناير المقبل. وسيتوصلان عندها، حسب ما يُعتقد، الى "اعلان مبادئ" او "اتفاق على اطار" من نوع ما. وتقول بعض المصادر ان اسرائيل والولاياتالمتحدة تدفعان في اتجاه التوصل الى مثل هذه الوثيقة التمهيدية كي توفر توجهات سياسية مرشدة للمفاوضات الاكثر تفصيلاً وتعقيداً التي لا يزال يتعين اجراؤها. وقد تتضمن التزام إنهاء حال الحرب، وهو ما يمكن لباراك ان يستخدمه لإعادة طمأنة الجمهور الاسرائيلي ذي المزاج السريع التغير دائماً. لكن يُعتقد ان سورية تفضل الانتقال مباشرة، ومن دون مزيد من الاستطراد، الى محادثات مفصلة في شأن القضايا العالقة. في غضون ذلك، سيطلع الشرع الزعماء اللبنانيين على نتائج المحادثات حتى الآن، ويناقش الخطوات الاجرائية لتنسيق المسارين السوري واللبناني فور بدء المفاوضات على المسار اللبناني. اوروبا تريد حصة في العملية لم يتضح بعد اذا كانت المحادثات ستستمر، بعد الاجتماع في 3 كانون الثاني يناير، في الولاياتالمتحدة او اذا كانت ستنتقل عندئذ الى مكان في الشرق الاوسط او في اوروبا. وواضح ان الاميركيين سيفضلون استضافة المحادثات في واشنطن، او في مكان ما آخر في الولاياتالمتحدة، لأطول مدة ممكنة بهدف الاحتفاظ بالسيطرة. كما سيشعر السوريون بشىء من التشجيع اذ سيكون في مقدورهم الاستعانة بوزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت، او حتى الرئيس كلينتون ذاته، في حال وجود صعوبات. لكن اسرائيل التي تحرص دائماً على منع اي طرف عربي من الاقتراب على نحو غير ملائم من الولاياتالمتحدة، قد تفضل مكاناً في المنطقة. هنا يأتي دور الاوروبيين. فالاتحاد الاوروبي يشعر بالحاجة الى ان يكون على مقربة من المفاوضات. وكانت حكومات اوروبية عدة، والحكومة الفرنسية خصوصاً، غير مرتاحة الى عدم اطلاعها على احراز تقدم في اتجاه استئناف المحادثات قبل ان يكشف كلينتون ذلك علناً في 8 كانون الاول ديسمبر الجاري. لا يريد الاتحاد الاوروبي ان يتحدى الدور الرئىسي لاميركا كوسيط في المفاوضات السياسية. لكنه يرفض إبقاءه بعيداً عما يجري او الاستخفاف به، خصوصاً انه سيتعين عليه بلا ريب ان يقدم اموالاً ومساعدات عملية في تنفيذ اي اتفاق يتم التوصل اليه. لذا يروج الاوروبيون لمزايا لندن او مدريد كموقع ممكن لاجراء المفاوضات في المستقبل. وتملك لندن، بحكم كونها مركز اتصالات عالمياً ممتازاً وبفضل موقعها الجغرافي بين الولاياتالمتحدة والشرق الاوسط، مزايا كثيرة. لكن سيكون مناسباً ايضاً ان تتوج عملية السلام، التي اُطلقت في مدريد في 1991، بالنجاح في العاصمة الاسبانية. ومع تقدم المحادثات، يمكن لمساهمة اوروبا ان تتخذ الاشكال الآتية: * نشر وحدة من القوات الاوروبية كجزء من قوة متعددة الجنسيات في المنطقة الحدودية بين سورية واسرائيل. * توفير خبراء على صعيد قضيتي المياه والامن لتسهيل التوصل الى اتفاق على ما يرجح ان يشكل العقبات الرئيسية في المفاوضات المقبلة. * مساعدات مالية واستثمارات. * مشورة تقنية لسورية في شأن تنمية منطقة الجولان كي يمكن اعادة توطين نحو 500 الف شخص. مشاكل الامن المائي يتوقع ان تستحوذ قضية المياه على مقدار كبير من وقت المفاوضين. وهي مشكلة متعددة الاوجه، وذات تأثير على الامن كما على الحدود. ولا تقتصر المخاوف في شأن المياه على سورية واسرائيل، بل تشمل المنطقة كلها. وتشغل قضية المياه في السنة الحالية بشكل خاص بال الجميع في اعقاب الجفاف الكارثي العام الماضي والاحتمال الفعلي في الاّ يكون معدل سقوط الامطار هذه السنة احسن حالاً. وتأخر هطول الامطار كثيراً هذه السنة في العراق وايران وسورية والاردن واسرائيل، وهناك شحة حادة في المياه، وتدنى مستواها في معظم البحيرات والخزانات الى حد لم يسبق له مثيل، ويشعر المزارعون، والحكومات، بقلق عميق، بعدما تلقت الزراعة ضربة قوية. ومعروف ان رئيس الوزراء باراك يعتبر الامن المائي جزءاً اساسياً من رزمة الترتيبات الامنية التي يأمل في ان يحققها لاسرائيل. وحسب علمي فإن لدى باراك ثلاثة مطامح رئيسية تتعلق بالمياه: أ السيطرة على رافد بانياس، وهو احد الروافد الرئيسية الثلاثة لنهر الاردن. الاثنان الآخران هما دان، الذي يبدأ في اسرائيل، والحصباني الذي ينبع في لبنان. ب سيطرة اسرائيل الكاملة على اعالي نهر الاردن. ج سيطرة اسرائيل الكاملة على بحيرة طبرية والطريق الذي يحيط بها. وقد يتعين على باراك ان يتراجع على صعيد النقاط الثلاث كلها. ومن المستبعد الى حد بعيد، حسب اعتقادي، ان توافق سورية على التخلي عن سيطرتها على رافد بانياس، حتى اذا عرضت اسرائيل على سورية في المقابل ينابيع الحمّة الساخنة جنوب بحيرة طبرية، كما يُشاع على نطاق واسع. بالاضافة الى ذلك، ستصر سورية على ان تحصل على منفذ الى اعالي نهر الاردن والى الزاوية الشمالية الشرقية لبحيرة طبرية، وهي مواقع كانت تشغلها عشية حرب 1967. ويُفترض الاّ يشكل هذا مشكلة في سياق وضع سلام. واذا كان سيُسمح للسياح الاسرائيليين بزيارة دمشق وحلب والتجوال في حرية، فإن سورية لا يمكن ان تقبل بأي شكل من الاشكال الرجوع الى ما وراء حدود 1923 الدولية التي تبعد 10 امتار عن حافة الزاوية الشمالية الشرقية للبحيرة. وحالما تستعيد سورية المنفذ الى هذه الزاوية للبحيرة، سيمكن بلا شك العثور على صيغة تسمح للاسرائيليين ان يجولوا في سياراتهم بحرية حول البحيرة حتى اذا كان هذا يعني اجتياز اراضٍ سورية. وفي مقابل استعادة رافد بانياس والحصول على منفذ الى اعالي نهر الاردن وبحيرة طبرية، من المرجح تماماً ان تعطي سورية ضمانات بأنها لن تعرقل تدفق المياه من الجولان الى النهر والبحيرة، وانها لن تلوّث البحيرة او تزيد ملوحتها. وكان الرئيس الاسد اعطى هذه الضمانات لاسرائيل في 1995 عبر وزير الخارجية الاميركي آنذاك وارن كريستوفر، والارجح انه سيكون مستعداً لتكرارها. لكن سيستمر شح المياه حتى في ظل السلام. وتنوي سورية توطين نحو 500 الف شخص على الجولان حالما تنسحب اسرائىل، وهو برنامج طموح سيستغرق تنفيذه بضع سنوات لانه سيقتضي انشاء بنى تحتية ووظائف ومنشآت من شتى الانواع. وسيتعين التفاوض والاتفاق على نظام لتقاسم مياه الجولان على اساس متكافىء. وحسب ظني فإن الارجح ان تبدي سورية حرصاً على احترام حقوق اسرائيل في مياه الجولان كطرف يقع في اتجاه مجرى المياه، اقلها لأن سورية ذاتها تسعى الى التمسك بحقوق مماثلة في نزاعها مع تركيا على مياه الفرات. وتأمل سورية، في اعقاب التحسن اخيراً في العلاقات السورية - التركية، في اقناع الاتراك بالدخول في مفاوضات في شأن ترتيب بعيد المدى لتقاسم مياه نهري الفرات ودجلة على السواء. واخذاً في الاعتبار هذا السياق الاوسع، يبدو ان الموقف السوري في ما يتعلق بمياه الجولان سيتمثل في ان المياه موضوع مناسب لمفاوضات متعددة الاطراف بدل مفاوضات ثنائية. الجدل على المياه في اسرائيل في غضون ذلك، تشهد اسرائيل معركة داخلية عنيفة في شأن مزايا استيراد المياه من تركيا لتخفيف شح المياه او انشاء مشاريع كبيرة لتحلية المياه في اسرائيل ذاتها، وفقاً للنموذج السعودي او الخليجي. وتوجد جماعة ضغط قوية يرأسها وزير الزراعة الاسرائيلي حاييم اورون الذي قاد حملة لبناء منشأة لتحلية المياه قادرة على انتاج 50 مليون متر مكعب من المياه سنوياً. لكن انصار استيراد المياه من تركيا يُحدثون ايضاً الكثير من الصخب ويمتازون بمستوى جيد من التنظيم ويحظون بدعم الرئىس التركي سليمان ديميريل. وهم يجادلون، اولا،ً بأن استيراد المياه من تركيا سيعزز الروابط الاستراتيجية الاسرائيلية - التركية، التي يوليها كلا البلدين اولوية كبيرة. ثانياً، انه سيساعد على رفع المياه من اجندة الامن الحساسة، وسيخفف الضغط عن المفاوضات الخاصة بالمياه ليس مع سورية فحسب بل مع الفلسطينيين والاردن ايضاً. وثالثاً، ان المياه التركية ستكون اقل كلفة من المياه التي تنتجها مشاريع التحلية. وتتضمن الخطة استيراد 180 مليون متر مكعب من المياه سنوياً بواسطة سفن شحن ضخمة من مرفأ قرب انطاكيا في تركيا على شاطىء البحر المتوسط. وستُنقل المياه عبر انابيب من مصدر يبعد حوالي 10 كيلومترات داخل الاراضي التركية الى سفن الشحن الراسية في عرض البحر، من دون الحاجة الى انشاء مرفأ خاص. وفي الجانب الاسرائيلي، يجري العمل حالياً في بناء منشأة لخزن المياه في عسقلان. ويقدر انه ستكون هناك حاجة الى ما بين 10 و15 سفينة شحن، تقوم كل واحدة منها ب60 رحلة في السنة، وتستغرق كل رحلة خمسة ايام. ويقدر الاستثمار المطلوب للمشروع بحوالي 150 مليون دولار، وتقدر كلفة المياه ب75 سنتاً لكل متر مكعب، وتمثل كلفة النقل حوالي 60 في المئة من هذا الرقم. ويتوقع ان يتخذ قريباً قرار في شأن المزايا النسبية للمياه المستوردة مقابل مشاريع التحلية. وقد تقرر اسرائيل فعلاً المضي قدماً بكلا الخطتين لأن المياه المستوردة من تركيا تعتبر بديلاً موقتاً واجراءً قصير المدى، وليس حلاً بعيد المدى لمشكلة المياه في اسرائيل. سيكون هناك الكثير مما يتعين على المفاوضين الاسرائيليين والسوريين التفكير فيه خلال عطلة رأس السنة قبل استئناف المحادثات في 3 كانون الثاني يناير.