تولى السلطان سليمان القانوني الحكم في عام 1520م، فأرسل سفيراً الى ملك المجر يطالبه الالتزام بمعاهدات الصلح المعقودة مع الدولة العثمانية، فما كان من الأخير إلا أن أمر بقتل السفير. فأعد السلطان حملة قوية تتكون من 100 ألف مقاتل و300 مدفع و800 سفينة في نهر الدانوب لنقل الجيوش العثمانية من بر الى آخر، بالنظر لكثرة الأنهار والقنوات المائية التي كانت تشكل عائقاً أمام الجيوش في هذه المنطقة من شرق أوروبا ووسطها، فاجتاح بلاد الصرب وفتح بلغراد يوم الجمعة 25 رمضان سنة 932 ه، وبذلك أصبح الطريق ممهداً أمام العثمانيين الى وسط أوروبا. وفي عام 1522، فتح جزيرة رودوس في البحر المتوسط التي كان يحتلها فرسان القديس يوحنا، وكانت تشكل عائقاً بين اسطنبول ومصر، وتعترض سفن الحجاج المبحرة من تركيا الى الحجاز. خرج جنود المجر من بلاد الصرب بعد فتحها، وتوقفت الجيوش العثمانية عن الحرب على هذه الجبهة فترة خمس سنوات لإنشغالها بالحرب على جبهات أخرى. وفي عام 1526م تحرك السلطان سليمان بجيشه - بعد أن انضمت إليه الحاميات العثمانية التي كانت مقيمة في بلاد الصرب - نحو المجر، وجعل بلغراد بمثابة قاعدة إدارية لجيشه. وبعد أن فتح قلاعاً عدة على نهر الدانوب، وصل الجيش كله الى وادي موهاتش في 28 آب اغسطس 1526، ودرات اكبر معركة في تاريخ الدولة العثمانية ضد جيش المجر بقيادة ملكهم لويس الثاني الذي انهزم، وانتهت المعركة بقتله وتمزيق جيشه. وبتقهقر بقايا الجيش المجري، طاردته القوات العثمانية حتى اقتربت من ابواب عاصمة المجر بودا، فسارع قادتها بتسليم مفاتيح المدينة الى السلطان سليمان الذي دخلها منتصراً في 10 أيلول سبتمبر 1526م فجمع كبار رجال المدينة، واستشارهم في تعيين امير ترانسلفانيا جان زابولي ملكاً عليهم، فوافقوا وبذلك انتهت مملكة المجر، واصبحت تابعة للدولة العثمانية. بقيت النمسا بعيدة عن الصراع حتى تلك الفترة، لكن ملكها فرديناند طمع في أن يضم بلاد المجر لملكه، فوجه جيشاً حارب الملك زابولي وانتصر عليه، فأرسل هذا الى السلطان سليمان واخطره بما حدث، فقاد السلطان جيشاً من 250 ألف جندي و300 مدفع، وسار حتى وصل الى موهاتش في سنة 1529م، فانضم اليه زابولي وسار معه الى بودا عاصمة المجر، فهرب منها ملك النمسا فرديناند الى عاصمة بلاده فيينا، فطاردته القوات العثمانية، وفتحت في طريقها القلاع التي كانت تحتلها القوات النمسوية في مناطق الحدود بين المجر والنمسا، وفي كرواتيا، ودالماسيا، ثم وصلت القوات العثمانية الى فيينا فحاصرتها وقصفتها بالمدافع، وأمكن فتح عدد من الثغرات في أسوارها، ولكن لم يتمكن العثمانيون من اقتحامها 1531م فقرر السلطان سليمان رفع الحصار، والعودة الى عاصمته، وعاد زابولي الى بودا. وكان حصار فيينا يعني من الناحية الاستراتيجية عزل أوروبا الشرقية عن أوروبا الغربية. حاول ملك النمسا بعد انسحاب الجيوش العثمانية إعادة احتلال المجر والاستيلاء على بودا، لكنه اصطدم بمقاومة الحاميات العثمانية، التي كان يقودها زابولي بكفاءة، فلما علم السلطان سليمان بذلك عاد مجدداً وقاد جيشه بهدف فتح فيينا. ولكن المعلومات التي توافرت له عن القوات الضخمة التي حشدها شارلكان للدفاع عن فيينا مع اقتراب فصل الشتاء، قرر معها السلطان سليمان عدم التعرض لعاصمة النمسا، واكتفى بازالة الخطر الذي كان يتهدد بلاد المجر. فدرات على هامش معركة فيينا معارك أخرى، انهزم فيها النمسويون أمام العثمانيين في "نوكوفار" و"فيرتيتسو". ويبدو أن ملك النمسا اقتنع أخيراً بعجزه عن محاربة العثمانيين، فقرر عقد صلح مع الدولة العثمانية والاعتراف بضم بلاد المجر لها، والتنازل عن مدن كورون، وغران الواقعة في الشرق من فيينا، وتم التوقيع على معاهدة الصلح في 22 حزيران يونيو 1533م. أصبحت الدولة العثمانية بذلك تشكل مركز الثقل في أوروبا، خصوصاً بعد المعارك البحرية الناجحة التي وقعت بين الاسطول العثماني بقيادة أمير البحر خير الدين باشا الذي اشتهر في التاريخ ب"بارباروسا"، أو ذي اللحية الحمراء، وبين الاسطول الالماني في مياه البحر المتوسط، اذ حاصر الاسطول العثماني جزيرة مالطة التي كان يحتلها فرسان القديس يوحنا بعد أن انسحبوا من جزيرة رودوس واخذوا يعرقلون طريق الحجاج. ودمر العثمانيون ثلاث قلاع في ميناء مالطة، أهمها قلعة "سانت آلمو". ومن مظاهر قوة الدولة العثمانية في أوروبا آنذاك، تحالف الدولة العثمانية مع فرنسا ضد شارلكان امبراطور الغرب وملك اسبانيا 1536م وكان هدف السلطان سليمان من ذلك الرد على الفظائع التي ارتكبها ضد مسلمي الأندلس بعد أن تم إخراجهم من غرناطة سنة 897 ه - 1491م، بينما كان هدف ملك فرنسا فرنسوا الأول الانتصار بالقوات العثمانية وأساطيلهم ضد عدوه شارلكان. والمهم في هذا الأمر أن المهادنة - أو الصلح - مع النمساوفرنسا ضمن الاستقرار في بلاد الصرب وبلغاريا واسبانيا والبوسنة ورومانيا، واصبح باستطاعة أهالي هذه البلاد التعرف على الاسلام والمسلمين من خلال التعامل معهم على أساس الشريعة الاسلامية، حتى وإن كان الحكم والادارة في ايدي ملوك وامراء غير مسلمين. لم يكن هذا الاستقرار دائماً، إذ بقيت عوامل التحريض ضد المسلمين متوافرة. ففي سنة 1540م توفي أمير المجر زابولي، وترك ابناً صغيراً لم يتجاوز عمره شهراً واحداً، فطمع ملك النمسا مرة ثالثة في انتزاع المجر وضمها الى النمسا، فسار بجيشه الى مدينة بيست المقابلة لمدينة بودا على نهر الدانوب، وحاصرها واستولى عليها، كما استولى على عدد من القلاع القريبة، وعندما علم السلطان سليمان بذلك قاد جيشه للمرة الثالثة قاصداً بلاد المجر، فرفع النمسويون الحصار عن بودا، وعندما دخلها السلطان أعلن تحويل المجر الى ولاية عثمانية، واستقبل اثناء وجوده في بودا سفارة نمسوية جاءت لعقد صلح مع الدولة العثمانية. فاشترط السلطان انسحاب قوات النمسا من القلاع والأراضي المجرية التي احتلتها، فامتنع النمسويون عن قبول هذه الشروط، وبقيت حال الحرب قائمة، ووقعت اشتباكات ومعارك عديدة كان النصر فيها حليف العثمانيين، وأخيراً تم في سنة 1547م عقد هدنة لمدة خمس سنوات، وتجددت لثماني سنوات أخرى، وإن استمرت الاشتباكات المتقطعة بين الجانبين، خصوصاً بعد أن توفي السلطان سليمان في 7 أيلول سبتمبر 1566، حين كان يحاصر قلعة سيكيتوار، فخلفه ابنه سليم الثاني، فاستمرت المعارك مع النمسويين حتى عام 1593م، سقطت خلالها قلاع عدة داخل النمسا في ايدي العثمانيين. أفادت الدولة العثمانية من قدرتها على اقامة التوازنات على الساحة الاوروبية مثل وضع الحماية العثمانية على بولونيا سنة 1575م لتكون إحدى القوى المضادة للنمسا واسبانيا، اذ استمرت النمسا في تنظيم التحالفات وتوجيه الحروب ضد العثمانيين، خصوصاً بعد أن وجه البابا نداءً الى الدول الأوروبية في عام 1594م لإقامة تحالف ضد المسلمين. وفي عام 1595م اجتاحت قوات النمسا بلاد المجر مرة أخرى وهزمت واليها الذي هرب من العاصمة بودا، كما قتلت والي البوسنة والهرسك حسن باشا فتوجه الصدر الأعظم سنان باشا على رأس جيش استرد به القلاع والمدن التي احتلها النمسويون، فما كان من ملك النمسا رودلف الثاني إلا ان نظم تحالفاًَ ضد العثمانيين ضم كلاً من المانياورومانيا وترانسلفانيا. وقام امير رومانيا بجمع 4000 مسلم وقطع رقابهم، ووصف المؤرخ النمسوي الشهير هامر المجزرة بأنها الواقعة الوحشية بسبب ما فعله ابناء جلدته ضد المسلمين في رومانيا. قاد سنان باشا جيشه ودخل مدينة بوخارست عاصمة رومانيا وأخضعها ودمر الكثير من قوات هذا التحالف. وفي السنة التالية 1596م قاد السلطان سليم الثاني الجيش العثماني وفتح عدداً من القلاع، ودمّر جيوش المجر والنمسا تدميراً كاملاً على أرض سهل كرزت القريب من سهل موهاتشي. واعتبرت هذه المعركة من المعارك الحاسمة ضد التحالف الاوروبي واستمرت الحرب سجالاً من دون حسم، وكانت أرض المجر هي ساحة النزاع والحرب، وكان أهلها يفضلون حماية المسلمين لهم عن حماية النمسويين الذين كانوا يسترقونهم ويسيئون معاملتهم، وهو ما دفع أهل المجر الى انتخاب الأمير بوسكاي ملكاً عليهم سنة 1605م، ووافقت عليه الدولة العثمانية، وأرسلت جيشاً لدعمه ضد النمسا، ما حمل النمسا على إبرام صلح مع المجر لقاء إعادة اقليم ترانسلفانيا الى المانيا، إضافة الى شروط أخرى، ووافقت الدولة العثمانية على هذا الصلح الذي تحددت مدته بعشرين عاماً. * لواء ركن متقاعد، خبير استراتيجي مصري.