إن الظروف التي نعيشها اليوم تجعل لهذا الموضوع أهمية خاصة، فهناك صحوة إسلامية تهتم بالسُنة النبوية، وفي الجناح الآخر هناك مهاجمات ومحاولات للنيل من قدسيتها وحجتها. نعم كانت السُنة هدفاً لأعداء الإسلام من زمن بعيد، لكنها قاومت وتقاوم وحطمت وتحطم شبهات المغرضين على مر العصور. والمراد بالسُنة النبوية في هذا المقام اقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته. والمراد من حجيتها قبولها واعتقاد بأنها وحي من الله تعالي، وأنها جزء من الرسالة التي أمر صلى الله عليه وسلم بتبليغها. والناس امام حجية السنة وعدم حجيتها أنواع: مسلمون مذعنون لرسول الله، ملتزمون بقوله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم. ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً" 1. وبقوله تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر" 2، وبقوله تعالى: "وما أتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا" 3. وقوله تعالى: "من يطع الرسول فقد أطاع الله" 4. والطاعة عند هؤلاء واجبة في ما أمر به وجوباً، وواجبة الابتعاد في ما نهى عنه تحريماً، ومستحبة في ما أمر به استحباباً، ومكروهة في ما نهى عنه تنزيهاً، ومباحة الفعل والترك في ما أذن بطرفيه، الفعل والترك. النوع الثاني من الناس أمام حجية السنة على طرف النقيض من النوع الأول، يردون السنة كلها، وينكرونها جملة وتفصيلاً، وينكرون أنها وحي من عند الله، وانها من جملة الرسالة. وقريب من هؤلاء من يعترف بأنها وحي، لكنه يتشكك في ثبوتها كلها، وصدورها عن محمد صلى الله عليه وسلم، لعدم قدرته على الفصل بين صحيحها وضعيفها، فيردها ككل، ويدعي إمكان الاكتفاء بالقرآن الكريم. وهذان النوعان في حاجة إلى دراسة ووعي علمي وديني، أو الرجوع إلى أهل الذكر والاختصاص. وشأنهم في ذلك شأن المريض الذي لا يميز بين الأدوية، ما ينفع منها وما يضر، فيظن بأن الحكمة في ترك الدواء، كل الدواء. ومشكلة العصر في تشكيك بعض المسلمين في السنة، بل بعض علماء المسلمين، من بني جلدتنا ويتكلمون لغتنا، بل ويحملون مؤهلاتنا وشهاداتنا، لكنهم بهدف أو بآخر يتنصلون من بعضها، وفي الرد عليهم رد على غيرهم من الطاعنين أو المغرضين أو الشاكين، وهم يقسمون السنة الى تشريعية وغير تشريعية، فيقول أحدهم: ما ورد عن النبي صلي الله عليه وسلم ودون في كتب الحديث من أقواله وافعاله وتقريراته على اقسام: احدها: ما سبيله سبيل الحاجة البشرية كالأكل والشرب والنوم والمساومة في البيع والشراء. ثانيها: ما سبيله سبيل التجارب والعادة الشخصية أو الاجتماعية، كالذي ورد في شؤون الزراعة والطب وطول اللباس وقصره. ثالثها: ما سبيله التدبير الانساني اخذاً من الظروف الخاصة كتوزيع الجيوش على المواقع الحربية. وكل ما نقل من هذه الانواع الثلاثة ليس شرعاً، يتعلق بطلب الفعل والترك، وإنما هو من الشؤون البشرية التي ليس مسلك الرسول فيها تشريعاً ولا مصدر تشريع 5. ثم يقول: ومن هنا نجد أن كثيراً مما نقل عنه صور بأنه شرع أو دين أو سنة أو مندوب، وهو لم يكن في الحقيقة صادراً على وجه التشريع أصلاً 6. فهذا القول ينفي التشريع باحكامه الأربعة الوجوب والندب والحرمة والكراهة عن جميع اقواله وافعاله وتقريراته صلي الله عليه وسلم الواردة في هذه الامور الثلاثة. ولو تتبعنا ما ورد في الاكل والشرب كمثال لوجدنا منه ما هو واجب وما هو محرم وما هو مندوب وما هو مكروه، فأحاديث صيد الكلب وحل السمك والجراد الميت، وتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير تحرم اشياء وتبيح اشياء، فكيف لا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيها مشرعاً؟ والله تعالى يقول عنه "يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث"7. ويقول الآخر: فما دام الرسول كان يجتهد، وما دام هذا الاجتهاد شمل الكثير من أنواع المعاملات، أفلا يجوز لمن يأتي بعده أن يدلي في الموضوع باجتهاده أيضاً؟ هادفاً الى تحقيق المصلحة ولو أدى اجتهاده إلى غير ما قرره الرسول باجتهاده 8. وهذه الشبهات من أخطر ما يوجه الى السنة من تحطيم، فشبهتهم ان الرسول صلى الله عليه وسلم بشر من الناس، وهذا حق، لكن بشريته لم تلغ رسالته في وقت من الأوقات، فهو بشر رسول في جميع اقواله وافعاله واحواله. وإن جعله رسولاً في قول دون قول، وفي فعل دون فعل، يلغي الامر بالاقتداء به، وينفي مراقبة الله له والايحاء اليه في وقت من الأوقات وفي قول من الأقوال وفي فعل من الأفعال. كيف تفلت بعض أفعال محمد صلى الله عليه وسلم من مراقبة الله، وكل مؤمن وغير مؤمن مراقب محاسب على ما يفعل، وهو يزيد عن البشر بالوحي في المنام وفي الإلهام وبجبريل عليه السلام ومأمور بالاقتداء به في افعاله والعمل بأقواله؟ لقد حوسب وعوتب على أنه امتنع عن طعام يحبه إرضاء لأزواجه، فنزل فيه قرآن يتلى "يا أيها النبي لم تحرم ما احل الله لك، تبتغي مرضاة ازواجك" 9. ولقد عوتب وحوسب على عوارض انفعالاته وتجهم وجهه في ملاقاة اعمى لا يراه، ولا يتأثر بعبوسه، فنزل فيه قرآن يتلى: "عبس وتولى أن جاءه الأعمى" 10. بل لقد عوتب وحوسب على خلجات قلبه، ودواخل نفسه، فنزل فيه قرآن يتلى "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه امسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق ان تخشاه" 11. أليس كل هذه الافعال صدرت بصفته البشرية؟ لكنها خضعت لرقابة الوحي. وتوجيه الوحي ولكل فعل من أفعال المكلفين حكم عند الله، لأنه إما أن يكون مرضياً عنه من الله تعالى، وإما أن يكون غير مرضي عنه. ويستحيل أن يفعل محمد صلي الله عليه وسلم فعلاً لا يرضى عنه الله وينزله جبريل المرة بعد المرة فلا يعدله، ولا يوجهه. فنزول جبريل بعد صدور حكم له صلى الله عليه وسلم أو فعل، وعدم اعتراضه عليه إقرار وتقرير من الله تعالى، وهو شرع لا يسند الى محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه يسند الى الله تعالى. وكان الصحابة يؤمنون بذلك، ويقتدون بأفعاله على أنها شرع الله، حتى في ما هو من الأمور البشرية: لبس نعله في الصلاة فلبسوا نعالهم، فلما خلع نعله لسبب لا يعلمونه خلعوا نعالهم، فلما قضي صلاته قال لهم: ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك القيت نعلك فألقينا نعالنا. قال "إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيها قذرا أو أذى" 12. ونزل ضيفاً على ابي ايوب الانصاري فتكلفوا له طعاماً، فيه ثوم، فكره أكله، فتوقف اصحابه عن أكله، فقال لهم: كلوا فإني لست كأحدكم إني أخاف أن أوذي صاحبي 13. وقدم إليه الضب في طعامه فكره أكله، فقيل له: احرام هو؟ قال: لا ولكن نفسي تعافه، فأكلوه بعد أن توقفوا 14. إن الذين ينفون التشريع عن فعل النبي صلي الله عليه وسلم في الأكل والشرب يسوون بين أكله وشربه صلى الله عليه وسلم، وبين أكل وشرب أبي جهل وأبي لهب، فالكل عندهم صادر عن الجبلة والعادة والطبيعة البشرية، وما هكذا يفهم الاسلام والله المستعان. الهوامش 1- سورة النساء 65 2- سورة الاحزاب 21 3- سورة الحشر: 7 4- سورة النساء: 80 5- الاسلام عقيدة وشريعة للشيخ شلتوت ص 508 وما بعدها. 6- المصدر السابق. 7- سورة الأعراف: 157 8- السنة والتشريع للدكتور عبدالمنعم النمر ص 47. 9- سورة التحريم: 1 10- سورة عبس: 1 11- سورة الأحزاب: 37 12- اخرجه ابو داود "كتاب الصلاة" باب الصلاة في النعال. 13- اللفظ لابن خزيمة وابن حبان، والاصل في البخاري. 14- اخرجه البخاري كتاب "الصيد والذبائح" باب الضب. * استاذ في كلية الدراسات الانسانية في جامعة الازهر.