كانوا يقولون من زمان: قل لي كم معك من النقود، اقول لك كم تساوي. لقد حمل عصرنا في ما حمله من تغييرات تصحيحاً لهذه العبارة، فأصبح يقال: قل لي كم لديك من المعلومات، أقول لك كم تساوي. هو عصر المعلومات إذن، أو بعبارة اخرى هو عصر العلم والمعلومات. وهو عصر بدأ يسفر عن وجهه في منتصف القرن او قبله بقليل حين خرجت طائرة اميركية وهدفها مدينة هيروشيما اليابانية. ومع القنبلة التي انفجرت والتهمت القوة العسكرية اليابانية التي كانت تعسكر في المدينة، انفتح عهد جديد وبدأ عصر المعلومات. صار السباق على المعلومات. وصارت القيمة تقدر بمعرفة "النوهاو"، كما يسمونها، او "معرفة الكيفية" اذا ترجمت الى العربية. وصارت الابحاث والقاعدة العلمية في كل امة هي منصة انطلاق الشعوب نحو التقدم. قل لي كم عدد البحوث التي تجريها الجامعات في بلد ما، اقول لك حظ هذا البلد من التقدم. وقد فجّر حصول العالم المصري الدكتور احمد زويل على جائزة نوبل في الكيمياء هذه القضية واثار مناقشات في مصر. وهي مناقشات انقسم فيها الرأي واختلفت وجهات النظر. ذهب بعض اصحاب الرأي الى ان حصول الدكتور زويل على جائزة نوبل في الكيمياء كان وساماً يوضع فوق صدر كل مصري، وكان اشارة الى عبقرية الانسان المصري، وهي عبقرية يمكن ربطها بالحضارة الفرعونية القديمة وكل انجازاتها في علوم العمارة والهندسة والتحنيط... الى آخره. ويمكن القول ببساطة ان هذه الموجة وصلت الى درجة الهوس بزويل، "زويل مانيا"، تماماً مثل الهوس بالخنافس في الستينات من هذا القرن. وساعدت شخصية زويل ومواهبه في ارتفاع هذه الموجة. فالرجل - الى جوار عبقريته العلمية - يملك الكثير من المواهب، من بينها التواضع، والوجه البشوش، واعتزازه بمصريته وعدم التنكر لها، وكذلك ادبه الجم اذ يرفض ان يضع ساقاً على ساق حين يجلس امام كاميرات التلفزيون احتراماً للجمهور الذي يشاهده. وذهب بعض اصحاب الرأي، في فورة اعجابهم به، الى شن هجوم على العلماء المصريين الذين لم يحققوا ما حقق الرجل من انجازات... وكأن عبقرية زويل تستدعي ان يكون باقي العلماء غير عباقرة، كما يقول الدكتور نبيل فتح الله استاذ المواد بهندسة الازهر. وانبرى للتصدي لهؤلاء مجموعة من اصحاب الرأي، كان رأيهم ان هناك ابحاثاًً كثيرة تجري في مصر، ولكن غياب القاعدة العلمية وعدم وجود "سيستم" للابحاث وعدم الاستفادة من الابحاث العلمية هي السبب في عدم وصول هؤلاء العلماء الى ما وصل اليه زويل. وكانت النتيجة التي يسعى اليها اصحاب هذا الرأي هي ان العيب لا يكمن في الشخصية المصرية وانما يكمن في النظام الموضوع الذي لا يسمح بانطلاق العلماء وابداعهم. وقارن بعضهم بين معاملتنا للكرة مثلاً ومعاملتنا للابحاث والعلماء. ان مدرب الفريق القومي في مصر، وهو رجل اجنبي، يتقاضى في الشهر 35 الف دولار، اي مئة الف جنيه كمرتب شهري. بينما لا يحصل اي عالم من العلماء على مرتب يتجاوز الالفين من الجنيهات. وقال هؤلاء اننا لو كنا نعطي العلماء مرتبات نجوم الكرة، لكان حالنا يختلف ولكنا بين من وصلوا الى القمر وساروا بأقدامهم فوق ترابه. وأثار البعض، في ما أثار، قضية سرقة العقول او هجرة العقول الى الدول المتقدمة. المعروف ان ثلث المهندسين والعلماء في اميركا ليسوا اصلاً من اميركا، انما هم علماء من دول العالم الثالث، من افريقيا والهند والعالم العربي وغيرها من الدول النامية التي لا توجد فيها قاعدة علمية، والتي يحس فيها العلماء والباحثون بالغربة في وطنهم وعدم الحاجة اليهم. ما الذي يعنيه هذا الكلام اذا ترجم الى نقود؟ في كتاب عن سرقة العقول او هجرة العقول يقول مؤلفه انه لولا هجرة العقول الى اميركا لاضطرت اميركا الى انفاق 500 مليون دولار في السنة على الجامعات لتخريج العدد المطلوب من العلماء، اي انه يريد القول ان هجرة العقول توفر لاميركا 500 مليون دولار في السنة، وهذه النقود تذهب الى الابحاث. لماذا يهاجر العلماء الى اميركا؟ انهم يهاجرون لسببين: الاول هو الوضع المادي المتردي وظروف الحياة القاسية في بلادهم. السبب الثاني، وهو اهم مما سبق، هو وجود مناخ علمي في اميركا ومعامل ابحاث متقدمة، وليست هناك عقبات تحول بين العلماء والانطلاق في ابداعهم... الى درجة ان رئيس قسم الطبيعة في جامعة لندن صرح منذ سنوات لمجلة انكليزية بانه سيسافر الى العمل في اميركا لأن فرصته في الابداع العلمي هناك اكبر من فرصته في بريطانيا.