منذ بضعة ايام ومن خلال عرض خاص بقاعة طوكيو الدولية التي تتسع لألف وخمسمئة شخص تم عرض فيلم "عندما يتوقف المطر" المأخوذ عن آخر سيناريو كتبه المخرج الراحل اكيرا كوروساوا. حضر العرض الذي كان بمثابة تظاهرة سينمائية، أكثر من ألف ومئتين سينمائي وناقد وصحافي ومراسل أجنبي، وأكثر من سبع محطات تلفزيونية لتسجيل الحدث. يعد هذا العرض الثاني للفيلم، بعد أن عرض عرضاً خاصاً ايضاً في مهرجان فينيسيا الدولي في ايلول سبتمبر الماضي، أما المرة الثالثة التي يعرض فيها الفيلم قبل طرحه في الاسواق عام 2000، فخلال مهرجان طوكيو السينمائي الدولي. قبل عر ض الفيلم صعد الى خشبة مسرح القاعة منتجا الفيلم مارا ماسكو وهيساو كوروساوا، وممثل الفيلم الأول أكير تيزأو، وممثل الفيلم الثاني شيرو ميغونيه، وبطلة الفيلم يوشيكو ميازاكي ومخرجه كونرومي تاكاشي حيث ألقى كل منهم كلمة، كانت معظمها عن علاقاتهم بكوروساوا وعن دور كل منهم في صنع هذا الفيلم واهمية الفيلم الخاصة باعتباره الفيلم الذي كتبه كوروساوا وأراد تصويره قبل الرحيل، ولأنه يضم مجموعة من التي كان يعمل معها كوروساوا والتي ربما كان أخذها بالفعل اذا ما قدر له اخراجه. فالمخرج هو مساعد كوروساوا الذي ظل يعمل تحت ادارته لمدة 27 عاماً، وهيساو ابنه الذي انتج له آخر أفلامه "ليس بعد" 1993 وبطل الفيلم الأول عمل مع كوروساوا في فيلمه "أحلام" 1990 والبطل الثاني هو ابن توشيرو ميغونيه الذي طالما كان الممثل الأول في افلام كوروساوا الخالدة، اما مصممة أزياء الفيلم فهي كازوكو ابنة كوروساوا. السيناريو الذي كتبه كوروساوا مقتبس عن قصة قصيرة للروائي شيبا ريوتارو الذي قدم كوروساوا ثلاثة من افلامه مقتبسة عن أعمال الكاتب نفسه وهي: "سانجورو" و"اللحية الحمراء" و"دوديسكاون". الخلفية التاريخية التي تدور فيها أحداث الفيلم هي الفترة التي كتبت فيها الكتاب الخاص بتعاليم الساموراي وطريقتهم، اي في العقد الثاني من القرن الثامن عشر. بطل الفيلم ايهي تيزأو ساموراي أو محارب غير تقليدي لا يعتقد في بعض ما جاء في هذا الكتاب. فهو مثلاً رقيق المشاعر... لا يحب القتل أو الموت بالسيف برغم أنه أحد أمهر رجال الساموراي في فنون المبارزة به. في هذا الفيلم نجد الكثير من قبل هذه المفارقات، والأهم من ذلك الكثير من الصور غير التقليدية سواء للساموراي أو لسيدة من التي لم ترد على شاشة أفلام الساموراي من قبل، وربما هذا أحد أسباب تميز "عندما يتوقف المطر". محارب "غلبان" تبدأ الاحداث بهطول أمطار غزيرة أثناء سير البطل لنعرف بالتدريج انه لم يكن مناسباً لأن يكون ذلك الساموراي أو الموظف الذي ينتقل بالملكية أو الوراثة من سيد الى آخر في المدينة التي كان يعيش فيها وذلك بسبب شخصيته الحرة. يقرر الانتقال هو وزوجته تايو يوشيكو الى العاصمة ايدو، التي هي طوكيو حالياً، التي كانت المدينة الأكثر تحضراً في ذلك الوقت. لكنه لم يتنازل عن لقب الساموراي وانه أصبح "رونين" اي ساموراي من دون سيد، فصفة الساموراي تجعله يعيش حياة اسهل واكثر احتراماً. اثناء رحلته الطويلة الى ايدو لم يكن معه من المال ما يكفي فيضطر لاستخدام مهارته في المبارزة من أجل الحصول عليه، فكان يتوقف عند مراكز تدريب فنون المبارزة بالسيوف الخشبية ويشارك في مسابقات المقامرة بها ويفوز ويحصل على بعض المال. لذلك كان يستخدم ذكاءه وطرقاً سيكولوجية من أجل الحصول على المال. ففي احدى هذه المرات دخل في مسابقة مع مدرب المركز وقبل ان يبدأ المدرب بالحركة الأولى ينحني البطل امام الاستاذ ويقول له: "بالطبع تفوقت عليّ يا سيدي، انت تفوز وأنا أخسر". يشعر المدرب بالفخر أمام تلاميذه فيعطي وتلاميذه بعض المال لهذا المحارب "الغلبان". عندما يزداد انهمار الأمطار وتحدث فيضانات في الأنهار يلجأ البطل وزوجته الى الإقامة في نزل متواضع يسكنه بعض المزارعين والفلاحين والعاهرات الذين يمنعهم المطر من الترحال والعمل فيضطرون للبقاء في هذا النزل من دون نقود كافية لسد حاجتهم وأطفالهم من الطعام. لذلك يعيشون حالة احباط وعصبية ويتشاجرون معاً لأتفه الأسباب، منها ندرة الطعام. من اجل مساعدتهم وتوفير بعض الطعام لهم يدخل البطل في مثل هذه المقامرات ويحضر لهم بعد ذلك بعض الطعام والفاكهة. تدرك زوجته انه مارس المقامرة مرة اخرى، وتقول له بحزن: "هل فعلتها مجدداً" فيجيبها: "لا استطيع مشاهدتهم يتشاجرون هكذا على الطعام". زوجته تشفق عليه لأنه لا يستطيع ايجاد وظيفة، لكنها في الوقت نفسه ترى ان المقامرة سلوك لا يليق بالساموراي، وهي على خلاف دائم معه بهذا الشأن. لكنه خلاف صامت، كل ما تفعله انها تكرس وقتها لتطريز أردية الكيمونو لبيعها ومساعدته على أعباء الحياة. أثناء ترحاله في الغابات المجاورة للنزل يشاهد إيهي بعض رجال الساموراي على وشك الاشتباك بالسيوف في ما بينهم، فيحاول منعهم. ويهاجمونه لكنه يهزمهم بجروح بسيطة ومن دون قتل أي منهم. عندما يمر سيد هؤلاء الساموراي ناجاي شيرو ميغونيه بهم ويشاهد موهبة البطل وتقنيته العالية في استخدام السيف يعجب به ويأخذه معه الى قصره. البطل يعجب ايضاً بذلك السيد الحاكم. وهو سيد مختلف وعفوي وخفيف الظل، ينادي الساموراي التابعين له بأسماء "الدلع" الخاصة بهم، ويعد هذا أمراً غريباً بالطبع. السيد المهزوم في القصر يقرر السيد تعيين البطل في منصب كبير هو المعلم الأكبر لتدريب الساموراي على فنون القتال بالسيف. ويهمس كبير رجال ساموراي القصر في اذن سيده بأن لا أحد يعرف من هو هذا الشخص أو مدى مهارته الحقيقية في استخدام السيف. ويقرر السيد اقامة مسابقة في حديقة قصره بين البطل وتابعيه من الساموراي برغم اقتناعه بمهارة البطل فيهزمهم ايهي واحداً بعد الآخر بمن فيهم سيدهم في مشهد كوميدي رائع، حيث يتراجع السيد الى الخلف ويقع بين الحشائش الموحلة ويقوم غاضباً كالأطفال. وهذه المرة الأولى بالتأكيد التي نرى فيها سيداً يحارب ساموراي تابعاً له في مباراة مفترض ان يقرر فيها هذا السيد من هو الفائز ويقف الى جانبه لكنه يخسر هو نفسه. ولم يحدث هذا في تاريخ أفلام الساموراي حتى الآن. علاقة البطل بالسيد الحاكم رسمها كوروساوا بشكل جميل وجديد... فليس هذا المحارب الساموراي التقليدي ولا ذاك السيد الحاكم المتعارف عليه. مرة اخرى، يشي رئيس الساموراي للحاكم بأنه عرف ان البطل مارس المقامرة على سيفه حديثاً وان هذا مسلك شائن. يذهب الساموراي هذا الى النزل الذي يسكنه البطل ويخبره انه فقد وظيفته في قصر الحاكم بسبب مقامرته، ويحاول اعطاءه بعض المال. يفاجأ البطل بزوجته تقول لرسول الحاكم "برغم ان المقامرة شيء غير مستحب وزوجي يدرك هذا جيداً، الا ان الأهم من ممارسة المقامرة هو لماذا مارسها... انكم أغنياء ولن تهتموا أبداً لماذا فعل زوجي هذا..." يتوقف المطر ويبدأ جميع من في النزل في الرحيل شاكرين البطل على ما فعله لهم. ويبدأ البطل وزوجته في الترحال مرة اخرى وعندما يصلان الى أعلى قمة الجبل الذي يطل على حدود ضيعة الحاكم واملاكه المترامية وثرائه الواضح تقول الزوجة للبطل: "أنا أفهمك الآن أكثر... أذهب وقامر كيفما تشاء... انا سعيدة معك وفخورة بك". في ذلك الوقت يشعر الحاكم بأنه فقد رجلاً من الصعب ان يجد مثله ثانية، وساموراي حقيقياً ونادراً. وبنفس الصورة الكوميدية يعيد الحاكم على رسوله ما قالته زوجة البطل... "قالت لك: الأهم هو لماذا فعل ذلك ولأنكم أغبياء لن تفهموه" فيجيب الرسول "فاهم سيدي". فيقول الحاكم: "لا استطيع أن ترك لكم الأمر هذه المرة يا أغبياء يجب ان أذهب بنفسي" ويمتطي جواده محاولاً اللحاق بالبطل، ولكن بعد فوات الأوان، مرة أخرى. لم يحدث في أفلام الساموراي ان يلاحق الحاكم تابعه الساموراي ليطلب منه خدمة أو معروفاً وان كان العكس صحيحاً وطبيعاً. الطبيعة وحياة البشر من يشاهد الفيلم ربما يستشف علاقة عنوان الفيلم بمضمونه. فبينما كان المطر منهمراً لم يكن البطل وزوجته على علاقة جيدة، كذلك ساكنو النزل، لكن بعد توقف المطر تحسم المشاكل بين البطل وزوجته ويشعران بالسعادة بوجودهما معاً تحت الشمس، ولا يعودان يهتمان بأن يعيش الزوج كرونين فقيراً أو حتى مقامراً. الطبيعة في اليابان بفصولها الأربعة الفاصلة المحددة والمتباينة عادة ما يكون لها تأثيراتها المختلفة على اليابانيين في كل فصل. وربما سيجعلهم هذا الفيلم فعلاً يتصورون ان الاجواء السارة والإحساس بالسعادة تتحقق بعد توقف المطر. الفيلم فيه ملامح من "تيمات" كوروساوا الانسانية والمثالية، فهو يظهر لنا كيف يجب على المرء ان يكون آدمياً... ان يتسم بالانسانية بغض النظر عن كونه ساموراياً أو فلاحاً، وكم هو صعب ان تجد صديقاً/ شريكاً حقيقياً بغض النظر عن كونه حاكماً أو رونين... الشيء نفسه ينطبق على الزوجة والزوج. من المؤكد ان موضوع الفيلم ابسط من اللازم ويشوب ايقاعه شيء من البطء. لكن تقنية مشاهد المبارزة بالسيف نفذها كويزومي بشكل جيد. واعتقد ان كل من كان في قاعة العرض كان يسأل نفسه كيف كان سينفذها كوروساوا! هل كان سيجعلها من تلك النوعية الضخمة الصارخة بالألوان واللقطات القريبة والحركة البطيئة والمؤثرات السمعية مثلاً. لذلك كان الجميع في حالة ترقب لما سيقدمه تلميذ كوروساوا، واعتقد انه عبر التجربة بالمستوى المعقول. لكن السؤال هو: هل يستطيع كويزومي الخروج من جلباب كوروساوا ويقدم أفلامه الخاصة به!! هذا ما سوف تثبته أعماله القادمة.