بدأ الفن السينمائي في عدد كبير من بلدان آسيا في فترة تعود الى ايام السينما الصامتة المبكرة في الغرب، بيد ان ذلك النتاج لم يجد فرصة للاعتراف به عالمياً الا في حالات لا تلحظ. وفي مطلع الخمسينات عرف العالم اثنين من صناع السينما المهمين في آسيا: ساتياجيت راي من الهند واكيرا كوروساوا من اليابان. وفي وقت امتنع فيه راي عن قبول عروض شركات الانتاج العالمية للعمل خارج بلده، خاض كوروساوا مغامرة العمل في الغرب، تلك التي ادت به الى محاولة انتحار نجا منها باعجوبة عام 1971، وكان بلغ الستين واخرج مجموعة من الافلام التي ادرجت ضمن مناهج التدريس في الاكاديميات السينمائية: راشمون 1950 الساموراي السبعة 1954 قصر العنكبوت 1957 وغيرها من الافلام المهمة. ومع اننا نستطيع ان نتصور ان مزاج كوروساوا لا يحتاج الى دوافع خطيرة لفعلته هذه، لأن الانتحار كان احد ممارسات المثقفين اليابانيين، وكان اخوه وهو من الفنانين المولعين بالسينما مات منتحراً في الاربعينات، غير ان كوروساوا واجه الكثير من المشكلات مع شركات الانتاج والمتنفذين في هوليوود على وجه التحديد، شأنه شأن صناع السينما الذين قصدوا اميركا من بلدان اخرى. سنة 1971 قدم له الاتحاد السوفياتي عرضاً للعمل لكي يستعيد ثقته بنفسه، فاخرج في فترة مكوثه هناك واحداً من اجمل افلامه واكثرها انسانية دورسو اوزولا 1975 قصيدة مديح موجهة الى الحياة والطبيعة والشيخوخة العارفة الخصبة. ولم يمكث طويلاً في هذا الجو، اذ سرعان ما عاد الى الغرب ومواضيعه الاثيرة التي تضمنت في اعتبارات كثيرة، نزعة تمجيد للروح العسكرية، في وقت كان يعتبر في بلده مسوّقاً رديئاً للعادات والطقوس والتقاليد المحلية. كان كوروساوا يقف في مفترق طريق وبين تقاليد الفن الياباني المبنية على فكرة المكان والفراغ التشكيلي، الالوان الآسيوية الحادة والتنافر بين الحركة والهدوء، والمضامين التي تبحث عن مفهوم البطولة الجماعية والفردية ونوازع الحكمة والقوة الروحية للانسان، كما ان مشاهد اعماله لا يجهل تأثير صناع السينما الغربية عليه وفي المقدمة منهم جون فورد. العناصر التكوينية لأفلامه ولد كوروساوا عام 1910 من أب ينتمي الى طائفة الساموراي وهم فرسان الامبراطور وحاشيته الذين تشتتوا في البلاد وفقدوا مركزهم وثروتهم بعدما دخلت اليابان بقوة في عصر التصنيع. وكان الساموراي كقيم وأفكار احد اهم العناصر التي قرأ من خلالها كوروساوا التاريخ الياباني في مجموعة من افلامه المهمة. وتحددت تضاريس الكثير من الرؤى الاخلاقية والطقوس والعادات اليابانية من خلال شخصياتهم، وقام الساموراي في عدد من افلامه بأدوار يستبدل فيها كوروساوا بطل الويسترن ببطل ياباني، منتبهاً الى افضل تقاليد افلام رعاة البقر في استخدامها الكادرات والمشهد الطبيعي. غير ان هوية افلامه تختلف لجهة ابعادها الروحية العميقة وفي استعادتها تقاليد الحركة وترتيب المكان في المسرح الياباني، الامر الذي جعل من هذه الافلام نماذج مهمة لدراسة اللغة البصرية الجديدة على المستوى النظري، فكتب اساتذة السينما عن معاني العناصر التكوينية للصورة في فيلمه وترميزاتها ومرجعياتها في الذاكرة اليابانية والشرقية عموماً. ولعل فيلمه "الساموراي السبعة" من بين الافلام التي درست الاكاديميات من خلالها المؤشرات التشكيلية لبناء اللقطة والمشهد. فالتصميمات الدائرية الثلاثية في هذا الفيلم كانت تحدد طبيعة الوحدة الاجتماعية اليابانية وموقع الفرد داخلها، أي أنها تؤشر الى عالمين روحيين: صغير وكبير، ومدى التنافر والتجاذب بينهما. الدائرة تدل على الوحدة الحديدية الصارمة التي تنغلق على نفسها، اما المثلث فيشير الى الخروج عن الدائرة الاجتماعية التي تحاول دائماً الامساك به داخل حدودها. كانت طبيعة بناء ديكور المكان في افلامه وطرق اجتماع الناس وتفرقهم في مشهده، من بين المؤشرات التي دلت دارسي السينما الى مكونات الصراع في الانساق الاخلاقية التي تحرك بينها ذهن كوروساوا لتقصي تصوراته الادبية والفكرية، لأن سينما كوروساوا فيها الكثير من الشعر والادب عموماً اضافة الى ان كوروساوا في الاصل رسام ومثقف ربط في خياراته مواضيع افلامه بين السينما والرواية والمسرح والشعر، فاختار من النتاج العالمي البارز الكثير من الاعمال المهمة. وعلى وجه العموم تعتبر سينماه ادبية حسبما يحدد النقاد مفهوم السينما الادبية، من حيث قدرة المعد والمخرج على تجسيد العمل الادبي بصيغة بصرية مبتكرة، فالكثير من النقاد يعتبرون اعداد كوروساوا لمسرحية ماكبث، او اعادة كتابتها في فيلمه "عرش من الدم" بتحويلها الى قصة تجري في يابان القرون الوسطى، كذلك اعداده فيلم "ران" عن مسرحية "الملك لير" باستبدال البيئة والرجال بالنساء يدخل ضمن الشغل الادبي السينمائي. اما فيلمه "راشمون" فيسرد القصة اربع مرات من وجهات نظر مختلفة، وهي استعارة سينمائية من الادب. غير ان فيلمه "احلام" 1990 الذي توج مسيرته السينمائية، وكان بمثابة تلويحة وداع لعالم السينما والحياة، كان عبارة عن قصائد سينمائية تجمع الشعر الى التشكيل الى التأمل بالحياة والموت. وهو ثمانية احلام مختلفة، يقول عنها كوروساوا انها أحلامه الشخصية التي خاف ان ينساها، وهي ايضاً احلامه الفنية، لأن الاحلام كما يؤكد، تتولد في منطقة الظلال من الوعي الانساني حيث تستقر انقى واتعس الامنيات والرغبات وتتخذ في ما بعد اشكالاً تعتبر اصل الاساطير والخرافات واساس الابداع الفني. وتدلنا احلامه هذه ليس على قوة ارتباط لغته البصرية بالادبية فحسب، بل ايضاً بمشاغل اليابان الحديثة وهواجسها وارتباطها بماضي الهزيمة العسكرية ومخاوف التصنيع وتلوث البيئة وفكرة العودة الى الطبيعة، وهذه عندما تتحول الى احلام شخصية وبالتالي فنية، ندرك تداخل الخاص والعام في شخصية كوروساوا الفنية. حلمه الاول وهو حلم الطفولة يحتوي على امه وبوابة بيتهم وغابة يركض اليها الطفل اثر مطر شديد وتحذيرات امه، فليقى فيها مجموعة من الدمى الآدمية او الاشخاص الذين يرتدون اقنعة مسرحية ويشهد الطفل رقصهم على صوت ناي وايقاع مسرحي، ثم يعود فتسلمه امه سيف الانتحار وتغلق البوابة في وجهه. من هم الذين يطلب منهم كوروساوا الفتاة الجميلة وشجرة المشمش في حلمه الآخر؟ ومن هم الذين يتحايلون عليه لكي يصل او لا يصل؟ وكل تلك الاحلام يسجلها في لوحات تشكيلية تعتمد على هارموني الايقاع الياباني في الحركة المسرحية، ولكن حلمه الاكثر اهمية "حلم النفق" حيث يعود القائد العسكري من هزيمته، فيعبر نفقاً موحشاً يلتقيه فيه جندي مات في هذه المعركة ولكنه لا يريد مغادرة الحياة، وعندما يقنعه بالعودة الى حيث اتى، يشهد الكتيبة كلها التي فنيت تريد اجتياز النفق الى حيث البيوت والاهل، لا يستطيع القائد تغيير وجهة نظرهم بالنقاش، فيستخدم سلطته الآمرة لكي يغادروا هذه الدنيا الى الأبد. كل مقطع في هذا الفيلم يشتمل على لمسة تشكيلية جعلت الزخم التعبيري من الوضوح والقوة ما يقربه من اللوحة المبهرة، وهو لجهة مضمونه يجيب عن السؤال الذي لاحق كوروساوا، وهو: هل تحتفي افلامه بالنزعة الحربية بتمجيدها قيم الفروسية؟ ذلك شأن يرى فيه كوروساوا بعدما وصل الى الثمانين - سنة انتاج فيلمه - يقبل وجهات نظر مختلفة، فهو يبحث عن الجنة في حلمه الاخير، غير ان الوصول اليها في يابان العصر الحاضر، عصر التصنيع وهي من عمالقته، ستكون فقط عبر الاحلام، والاحلام الابداعية التي مجدت اسم كوروساوا.