في المذهب الماركسي الرسمي يُعتبر الفرد - زعيماً أو مفكراً أو بائع فجل - قشة تطفو فوق موجة "القوى الانتاجية"، لا وزن لها ولا حول ولا قوة. فالجميع نتاج حتمي للظروف المادية التي تحكمهم وآباءهم ومن سيخلفونهم. ومع ذلك لا يبدو التباين بين "المذهب" والتطبيق أكثر وضوحاً بقدر ما يبدو في الاختلاف الكبير بين مكانة الفرد في الايديولوجية "الارثوذكسية" وبين "التطبيل" الهائل لشخصية الزعيم في الانظمة الشيوعية. والأمثلة على ذلك كثيرة بدءاً بالعم "كيم" في كوريا الشمالية، وحتى الجد "ماو" في الصين الشعبية. الا ان التقديس الجارف الذي مارسته الادارات السوفياتية المتعاقبة لشخص "لينين" هو أوضح مثال على ذلك. فشبح "لينين" يطارد المواطن السوفياتي من المهد الى اللحد، صورته تطل عليه من كل أفق، كلماته تصك أذنه من دون انقطاع من كل اتجاه، وكل حدث ذي قيمة أو فكرة لها وزن - وكثير من الاحداث والافكار غير ذات القيمة أو الوزن - لا بد وأن يكون ل"لينين" تأثير فيه، أو وقع عليه... أو على الأقل تنبأ به أو خاض فيه ضمن التلال الهائلة من أقواله أو كتاباته الفعلية أو المنسوبة إليه. وتصل هذه "التقديسية" الماركسية الى قمتها في "ضريح" لينين الذي يضمه الميدان الأحمر الشهير، حيث يحيط بالضريح من مظاهر التفخيم والتبجيل ما لا تجده في قصر "باكنغهام" أو ميدان القديس "بيتر" البابوي، أو معبد الدالاي لاما الاعظم... كان الناس يُحشدون اليه من اركان القارة السوفياتية جميعها ليقفوا في طابور طويل، مجددين العهد والولاء للزعيم القابع في صندوقه الزجاجي، مرتدياً بذلته الزرقاء وربطة عنقه "الكاروهات". مستزيدين من "حكمته" التاريخية، متبركين بأشيائه التي جمعها - أو لمسها - أو نظر اليها... ابتداء من منديل مخاطه، وانتهاء بسيارته "الرولزرويس" الشهيرة. لقد استوعبت مراسيم التقديس "اللينينية" كثيراً من الطقوس الكنسية الروسية القديمة. فلا يكاد يخلو ميدان في قرية او مدينة من تمثال للزعيم قائماً أو قاعداً، منفعلاً أو متأملاً. ولا يخلو مصنع أو مؤسسة من ركن خاص به يرتاده قليل من المؤمنين وكثر من المنافقين والخائفين، ليتمتعوا بأورادهم اليومية من كلماته أو يستلهمون فيها حلاً لمشاكلهم وهمومهم، أو يودعون عند تمثاله "ايقوناتهم" التي تحمل صوراً مصغرة له... تماماً كما كان يفعل الفلاحون القدماء عند أقدام آلاف القديسين والقديسات الذين كانت تمتلئ بهم ساحات روسيا القيصرية... ما عدا ان القديسين جميعهم قد اجتمعوا في قديس "علماني" واحد. كانت النكتة الشائعة - سراً - في أوساط "المنشقين" السوفيات تعبيراً عن هذه الهيمنة "اللينينية" على الفكر والحياة، هي أن الازواج السوفيات الطيبين ينامون عادة في سرير "ثلاثي"... إذ أنهم لا يدعون "لينين" يغيب عن أعينهم لحظة واحدة.