عندما يتحدث كثير من المثقفين العرب عن الماضي يشنون حملة ضروساً ضد جيل المثقفين السابقين ويجدونهم شماعة يعلقون عليها اخطاءهم ويتهربون فيها من واقعهم. بل ان البعض يتعدى الى ما هو اكبر من ذلك فيرى ان النهضة الثقافية المعاصرة انما هي نتاج المثقف العربي المعاصر متنكراً لتراثه الثقافي باسم الحداثة. والحقيقة التي لا يمكن التهرب منها ان ثقافة كل امة من الأمم مرتبطة بماضيها بشكل او بآخر فلا يمكن تجاهلها او نسيانها مهما كانت ضحالة تلك الثقافة او بساطتها، فما بالك بالثقافة العربية العريقة التي اضاءت بنورها ظلمات أوروبا في القرن السادس الهجري فكانت سبباً رئيسياً في النهضة الأوروبية المعاصرة. ان الاعتراف بأفضال المثقفين الأوائل لا يعني القبول المطلق لكل مفردات تلك الثقافة - كما هي الحال مع أي أمر - لكنه بتأكيد يعني القصد في الأمور والاعتراف لأهل الفضل بأفضالهم سيما من كان لهم فضل في تشكيل الوعي العربي والانتماء الصحيح للاسلام بالقول والعمل. ولعل العبارة التي اطلقها برناردي شارطر تتوافق مع ما قلنا حين يقول: "نحن اقزام محملون على اكتاف عماليق، وإذا كنا نشاهد اكثر مما شاهدوا ونرى ابعد مما رأوا، فليس ذلك لأن بصرنا أحد، او لأن اجسامنا اطول، بل لأنهم يحملوننا على اكتافهم في الهواء ويرفعوننا بكل طول قاماتهم الهائل". ولعل اكبر شاهد على ذلك هو الموروث الثقافي الضخم الذي تركته تلك النخبة من علماء المسلمين ومثقفيهم في مختلف العلوم والفنون مما ساهم على اقل تقدير في جمع المادة العلمية ورصد التحولات الثقافية في المجتمع الاسلامي. اننا بحاجة اليوم وقبل اي يوم مضى الى نظرة تكاملية تربط بين الماضي والحاضر، فأرباب الحداثة لم تفلح اطروحاتهم الثقافية بسبب بعدها الايديولوجي عن الثقافة العربية المبنية اساساً على الدين الموروث الأساسي للعرب حتى غير المسلمين منهم الذين تأثروا بالحضارة الاسلامية من كل حيثياتها بسبب احتكاكهم بالمسلمين والتأثر بهم. ولا حتى اولئك الذين تمسكوا بالماضي بكل علاته وأخطائه فظنوا ان الماضي كل لا يتجزأ فاما ان يؤخذ كله او يترك كله فعطلوا بذلك مسيرة التنمية وعجلة التقدم بآراء فقهية او اطروحات ثقافية كانت صالحة لذلك العصر من دون غيره. ان الحديث بهذه الصورة من الوضوح يرفضه البعض من الجانبين لكنه اليوم امر حتمي في هذا الوقت وفي كل وقت تختلف فيه المعطيات من عصر الى آخر، ولعله من المناسب ان ادعم مقولتي هذه بشاهد تاريخي على هذا النسق فحد الخمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعون جلدة، فلما كان عهد عمر بن الخطاب ورأى الناس قد تمادوا في هذا الأمر زاده الى ثمانين جلدة حتى يكون الرادع اشد، كما ان عمر الذي زاد في حد شارب الخمر هو نفسه الذي اسقط حد السرقة في عام الرمادة. وليس هذا بتأكيد طعناً في الشريعة بقدر ما هو اشغال لملكة الاجتهاد والتجديد من خلالها. فعمر ليس مشرعاً وانما هو عالم مجتهد اشغل عقله في فهم النصوص ومقاصدها فنزلها على الواقع ومدى حاجة الناس اليها ومدى تطابق شروط السرقة على تلك الاحداث. ومع هذه الاجتهادات العظيمة من عمر، الا انه لم يعلم ان احداً من الصحابة خالفه او شنع عليه وما عمر الا صورة للعالم المجتهد العارف بمقاصد الشريعة المدرك لشمولها لكل جوانب الحياة ومتطلبات كل العصور. ولعل بعض المثقفين العرب ادرك هذه الحقيقة بعد طول بحث وعناء توصل من خلاله الى ضرورة ربط ما بين الوحي والحضارة المعاصرة من خلال انزالها على الواقع مما سينشط الحركة العلمية ويدعمها بخلاف الاطروحات العلمانية لبعض المثقفين التي ترى ان تدعيم الحركة العلمية لا يكون إلا بالاعتماد على الحضارة المادية التي قام عليها الغرب وذلك من خلال الاتكاء على النظرة التاريخية. فالحضارة الغربية قامت على قيم وأفكار الحضارة الاسلامية الغالبة المتقدمة في ذلك الوقت فلكي تقوم حضارة اسلامية وعربية فلا بد من الأخذ بقيم وأفكار الأمة الغالبة المتقدمة المتمثلة بالحضارة الغربية المعاصرة. وهذه الطبقة من المثقفين ترى ان الازمة التي يعاني منها المسلمون اليوم ازمة قيم والحقيقة اننا لا نعاني ازمة قيم وانما عجز عن التعامل مع القيم. ان القيم ثابتة لا تتغير لكن الافكار التي تبسط وتترجم تلك القيم على الوقع المعاصر غائبه، فالأزمة فكرية قبل اي شيء لأن النسغ الفكري للمسلمين توقف عند العقول السابقة مما سبب لنا هذا الانحسار الفكري والتحدي الحضاري. ان الشريعة الاسلامية اتت بمنهج متكامل من كل الجهات البناء والمحتوى وهو المنهج الاستقرائي والاستنباطي. لكن الخلل في اعمال العقل والفكر فيها مما يتسبب في ترك الرؤية الاسلامية واستبدالها بأطروحات لا تتوافق مع طبيعة تكوين العقل العربي المسلم. الرياض - خالد بن عبدالله المشوح