تُرى، هل نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن السمة الاساسية التي تشكل العقلية العاصرة، في غالبية اقطار هذا العالم الذي نحياه راهنا، هي الايمان بفكرة "التقدم"؟! نحن نعرف، ان هناك بعض المفكرين ينكرون نظرية التقدم البشري، و يرونها وهماً من أوهام الرومانسية، ويرون ان التاريخ يدور حول نفسه ويعود حيث يبدأ، وبذلك تسقط من مفرداتهم كلمات "التقدم" و"التخلف" اذ تصبحان من غير دلالات. ونعرف ان آخرين يؤمنون ب"التقدم" لكنهم يدينون بالقفزة المنقطعة أو الوثبة المباغتة او الطفرة النوعية، التي تسقط بها فكرة التدرج او التراكم والتواصل، وبذلك تصبح كل دعوة دون "العالمية"، أو "العولمة" بالاحرى، هي دعوة متخلفة أو شبه متخلفة مهما تكن "تقدميتها". كذلك نعرف ان اهم المناقشات التي تجرى الآن في الساحات الابستمولوجية من اميركية واوروبية هي تلك التي تتعلق بمسألة "القطيعة/ الاستمرارية" في تاريخ العلوم والافكار، وان فلاسفة الغرب ينقسمون بهذا الخصوص: فمنهم من يقول بأولوية القطيعة الابستمولوجية، ومنهم من يقول بأولوية التراكم والتواصل، وان "التقدم" يحصل من طريقه لا من طريق القطيعة. ولكن، سواء تم "التقدم" من طريق الاستمرارية أم من طريق القطيعة، فإن هناك تقدماً في حياة البشر وتاريخ الفكر، ولا احد يستطيع ان يقنعنا بأن "التقدم" وهم أو سراب. لا نحسب اننا في حاجة الى تفصيل ذلك، فلو نظرنا الى الحياة الانسانية جملة، منذ ما قبل التاريخ وحتى الآن، وتأملناها من قريب أو بعيد، على نحو ما يفعل ديورانت مؤلف "قصة الحضارة" لوجدناها سلسلة لا تنتهي من صور "التقدم" بصرف النظر عن "التخلف" الذي يصيب بعض الامم، ويهبط بها، ليس عن المستوى الذي بلغته ذات يوم فقط، بل يجعلها كذلك عاجزة عن موازاة المسيرة العامة للانسانية. لا نحسب اننا في حاجة الى تفصيل ذلك، لكن ما نحن في حاجة اليه فعلا، هو محاولة الاقتراب من "التقدم" ذاته: من حيث كونه اصطلاحا يعبر عن عملية انسانية تبتغي اهدافاً محددة ذات مضامين معينة. النقطة المبدئية في محاولة الاقتراب هذه، هي ارتباط فكرة "التقدم" بفكرة "التغيير" اذ من المنطقي ان ليس هناك تقدم يتحقق من دون تغيير يتم الى ما هو افضل. بيد ان التغييرات التي تصيب الاشياء والظواهر، تتضمن نوعين: اولهما "التحول" وهو ما يصيب كل الاشياء والظواهر من تغيرات "تلقائية" بفعل التأثير المتبادل في ما بينها خلال حركتها التي لا تتوقف، وثانيهما "التطور"، وهو اضافة الى الاشياء والظواهر ما كان لها ان تتحقق "تلقائيا" بفعل التأثير المتبادل بينها خلال حركتها التي لا تتوقف، الا بتدخل "واع" بفعالية القوانين التي تضبط هذه الحركة "قادر" على استخدامها لتغييرها الى ما "يريد". إذن ف"التحول" يصيب الاشياء المادية، بمعنى انه يصيب المادة في كل جزئياتها وانواعها من اول الذرات الى آخر المجرات، إذ تخضع حركتها لقوانين معروفة، او يمكن معرفتها، ويحكمها قانون المادة الحديدي "المادة لا تفنى". وهي لا تتحول، إذ تتحول، إلا بمؤثر من خارجها، فهي لا تتطور الى ما هو ارقى، بل تتأثر خلال حركتها فتتحول طبقا لقوانينها النوعية من حال الى حال الى سيرتها الاولى من دون ان ترقى والامثلة على ذلك اكثر من ان تعد او تحصى. اما "التطور" فلا يصيب الا الظواهر الانسانية، اذ انه تلك الاضافة التي يحدثها الناس في الواقع رفضا لما هو متوقع منه. ومن ثم، لا يعني "التطور" قبول او متابعة التحولات التي يقدمها الواقع "تلقائيا" بل يعني تحقيق مضامين نريدها ونعمل على تحقيقها، لانها غير متوقعة الحدوث في الواقع من دون تدخلنا. ومهما يكن مضمون "التغيير - التطور" الذي نريد ان نحدثه في الواقع، فهو "اضافة ليست قابلة للتحقق تلقائيا من دون عمل الانسان". ومن هنا نكتشف انه مهما نريد ان نحققه فانه لا يتحقق الا في المستقبل. بعد الواقع الراهن، او ما يطلق عليه الكثيرون "الحاضر" ولو بلحظة من الزمان، لا بد منها لتتحول الفكرة في رؤوسنا الى كلمة على السنتنا، أو ما دون هذا زماناً. بهذا الاكتشاف البسيط لعنصر "الزمان" في الحركة، نلتقي اهم الدوافع التي ينبني عليها هدف تغيير الواقع من جانب الانسان، ونعني به المشكلة التي يثيرها التناقض الناشئ عن التقاء حدي الزمان الماضي والمستقبل "في" الانسان. صحيح ان الماضي والمستقبل يتبع احدهما الآخر ولا يلتقي به قط، ومع هذا يجمعهما الانسان ويضعهما وجها الى وجه في ذاته فهو يسترجع الماضي بالذاكرة، ويستقدم المستقبل بالمخيلة، وكلاهما من خصائص الانسان وحده. هنا يتبدى بوضوح كيف تثور المشكلة. انها لا تثور، اذ تثور، الا من خلال التناقض الصراع بين الماضي الذي يريد ان يمتد فيلغي ما يريده الانسان، وبين ما يريده الانسان ان يتحقق فيلغي امتداد الماضي. وتكون المشكلة - التي تعبر عن الصراع - هي ذلك "الفارق" بين الواقع المسترجع من الماضي حصيلة الماضي وبين المستقبل الذي يريده الانسان، ذلك "الفارق" هو ما يعرب عنه سلبيا - ب"الحاجة" أي: شعور الذات بعدم الاكتفاء من تجربة الماضي ونزوعها الى الاكتفاء في المستقبل من خلال مقاومة الظروف الماضي ممتدا تلقائيا في المستقبل وتغييرها لاشباع تلك "الحاجة". وماذا بعد؟ ماذا بعد ان تحل المشكلة، ويتم اشباع الحاجة؟ لأن الزمان لا يتوقف، فإن ما يتحقق فعلا يلحق فور تحققه بالماضي، وبذلك تنشأ نقطة إلتقاء جديدة وبين الماضي والمستقبل، أي صراع جديد ومشكلة جديدة وحاجة جديدة. ويسهم الحل الاشباع الذي كان مستقبلا، ثم اصبح ماضيا بتحققه في اثراء الماضي الذي يسترجعه الانسان وهو يواجه مستقبله "الجديد" فيزيد مدى تصوره المستقبل، ويكشف له مدى جديدا في حاجاته، وينشأ بذلك صراع جديد، ثم يحل وهكذا. فمع اشباع كل حاجة من حاجات الانسان المتجددة ولو "جزئيا" تتحقق اضافة في الواقع تطور ومع كل اضافة ينتقل الانسان خطوة الى الأمام تقدم. يمكن التعبير عن "التقدم" اذن، بأنه "الاشباع المطرد لاحتياجات الانسان الروحية والفكرية والمادية المتجددة ابدا" بعبارة اخرى، يعبر التقدم عن حصيلة "الاشباع" المستمر للاحتياجات "الانسانية" فكل انسان، من حيث هو انسان،سواء اكان شابا او كهلا او شيخا، لا يكف عن التقدم، ولا يستطيع ان يكف، انما تقوم مشكلة التقدم حين تحول الظروف الاجتماعية - التي هي عناصر تكوين المجتمع الذي يعيش فيه الانسان مع غيره دون اشباع تلك الاحتياجات او اطراد اشباعها. ماذا يعني ذلك؟ يعني، من جهة، انه اذا كان كل انسان، من حيث هو انسان، يسعى، ولا يستطيع الا ان يسعى، لاشباع حاجته، فإن الملاحظة المجردة من أي "علم" تكفي لنعرف ان "الفرد الواحد" لا وجود له الان، ولم يعثر عليه من قبل ولو تصوراً، الا تلك الفترة التي لا يعملها الا الله، التي بقي فيها ادم وحيدا قبل ان تخلق حواء، وان كل فرد هو جزء من مجتمع، ولو كان الولد الوحيد لوالديه، وان المجتمع "جماعة من الناس يعيشون معا في واقع معين مشترك في ما بينهم" متعدد ينشط كل فرد من افراده في الواقع المشترك لاشباع حاجته، هذا لا يتغير في المجتمع فالمجتمع لا يحيل الانسان "شيئا" جامدا وانما الذي يتغير هو "الواقع" ذاته. اذ عندما يتعدد الناس في واقع معين، يصبح هذا التعدد، بما يتضمنه من مشاركة، جزءاً من الواقع الذي يواجه كل انسان، يصبح "واقعا اجتماعيا" لا بمعزل عن أي إنسان فيه، ولكن بالنسبة الى كل انسان فيه. ومؤدى هذا، ان لا وجود في المجتمع لما يسمى بالمشكلات الخاصة، ان كل المشكلات التي يواجهها أي انسان في حياته، هي مشكلات اجتماعية في حقيقتها الموضوعية، بحيث لا يمكن فهمها فهما صحيحا إلا في ضوء الواقع الاجتماعي الذي اسهم في اثارتها. كما يعني، من جهة اخرى، انه اذا كان التقدم لا يتم بتحقيق كل ما يريده الناس، بل بتحقيق ما يمكن تحقيقه فعلا مما يريدون في مجتمع معين في مرحلة زمنية معينة، فإن الملاحظة المجردة من أي "علم" تكفي لنعرف ان تحقيق التقدم الممكن لا يتم الا من خلال توظيف الامكانات الروحية والبشرية والمادية المتاحة "فعلا" في المجتمع، وان ما يحول بين ارادة التقدم والتقدم، يشير الى ان ثمة "عجزاً" يحول بين ارادة التقدم وبين توظيف الامكانات المتاحة في المجتمع. قولنا الاخير هذا، هو ما يعبر عنه الكثيرون ب"التخلف" بيد ان للتخلف مفهومين: المفهوم الدارج، اي التخلف عن المجتمعات الاخرى في سباق التقدم المادي والثقافي، الذي يقاس عادة بمستوى المعيشة، أي: متوسط ما يحصل عليه كل فرد من المضامين الروحية والثقافية والمادية لاشباع حاجته. اما المفهوم الاخر، فهو المفهوم الفني كما هو معروف في علم الاقتصاد السياسي، وهو ما يعنينا هنا، أي "عجر الناس في مجتمع معين عن توظيف كل الامكانات المتاحة فعلا في مجتمعهم". بهذا تتضح الحقيقة الموضوعية لمشكلات "التخلف" التي لا يمكن حل مشكلات "التقدم"، وبكل ما ينشأ عنها من نتائج؟ اننا لا نطرح هذا التساؤل، الا لنؤكد حقيقتين: الأولى، انه لا يصح ان ينسب الى الشعب العربي "العجز" عن التقدم الاجتماعي بحجة انه اقل "علما" من غيره من الشعوب، انما يكون "عاجزا" عندما لا يتقدم بقدر ما يقدم ما "يعلم" ايا كان مستوى علمه. وهو لا يتقدم بقدر ما يعلم، الا اذا كان ثمة ما يحول بينه وبين الامكانات المتاحة فعلا في وطنه. الثانية، ان التخلف عن المجتمعات الاخرى يثير الآلام، التي تكون حافزا على التقدم، وانذارا للذين يتجاهلون الآم الناس، ولكن التقدم لا يتم الا بتحقيق ما هو ممكن. التخلف الذي يعنينا، اذن، اكثر تواضعا مما تثيره المقارنة بين "المجتمع العربي" والمجتمعات المتقدمة انه التخلف بمعناه الفني "عجز الشعب العربي عن ان يحقق لنفسه التقدم، الممكن فعلا، كما هو محدد موضوعيا بالامكانات المتاحة في الوطن العربي". مرة اخرى هل تسمح الطبيعة الراهنة لمنهجية "العقل العربي" بالتقبل الحقيقي لفكرة التقدم، وبكل ما ينشأ عنها من نتائج؟ نتمنى. * كاتب مصري.